مات الملك.. عاش الملك.. هكذا هي تقاليد الحكم في الأنظمة الملكية، يوم الحزن على وفاة الملك الراحل هو نفسه يوم فرح ولي العهد بالوصول إلى العرش. إنها مفارقات السياسة ومنطق السلطة، لكن السلاسة الظاهرة في هذه العبارة «مات الملك عاش الملك» في المملكة العربية السعودية لا تعبر عن تعقيدات بيت الحكم السعودي، الذي فقد أول أمس أحد أركانه الكبيرة: الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي حكم 20 سنة مملكة النفط، نصفها في عهد أخيه الراحل فهد بن عبد العزيز الذي أصيب بجلطة دماغية ولم يودع هذه الحياة إلا بعد عشر سنوات، والنصف الآخر قضاه الملك عبد الله فوق عرش المملكة حاكما شبه مطلق في مملكة لم تدخل بعد إلى عصر الأنظمة الملكية الدستورية… ساعات بعد وفاة من يسميه السعوديون خادم الحرمين الشريفين، أقدم الملك الجديد على اتخاذ أكبر وأخطر قرار في مملكة آل سعود. إنه قرار تعيين محمد بن نايف، وزير الداخلية والرجل النافذ في المملكة، ولياً لولي العهد مقرن بن عبد العزيز، وهذا معناه أن العرش السعودي مقبل، لأول مرة منذ تأسيس المملكة، على انتقال الملك من أبناء عبد العزيز الذين صاروا شيوخا كبارا اليوم، إلى أحفاد عبد العزيز، أو ما يسمى الجيل الثاني من الأمراء في السعودية، وهذا القرار السياسي الحساس والخطير معناه أن من بقي من أبناء الملك عبد العزيز لا حظ لهم في الملك بعد مقرن، الذي صار له ولي للعهد من الجيل الثاني، وهذا الأمر لن يمر بسهولة، خاصة أن القرار اتخذ بسرعة ودون المرور عبر مجلس البيعة ومجلس الأسرة، ثم إن تعيين محمد بن نايف بن عبد العزيز وليا لولي العهد معناه إقصاء رؤوس كبيرة من أمراء الجيل الثاني السعودي، وعلى رأسهم متعب بن عبد الله الملك الراحل، الذي كان الخبراء في الشأن السعودي يتوقعون أن يعهد إليه والده بولاية العهد بعد مقرن، لكن الأمور ذهبت في اتجاه آخر تماماً… هذه التحول في قمرة القيادة في مملكة محافظة جداً سيكون له ما بعده، لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن قرار الملك سلمان بن عبد العزيز سيلقى قبولا في أمريكا وأوروبا اللذين يخشيان على أمن واستقرار أول دولة مصدرة للنفط في العالم، وقبلة المليار ونصف مليار مسلم في الأركان الأربعة للأرض. إن صعود ملك إلى العرش قبل دفن الملك الراحل يطمئن الغرب على الاستقرار، وتعيين محمد بن نايف، المعروف بتشدده تجاه ملف الإرهاب وقربه من واشنطن، يطمئن الشركاء إلى أن المملكة سائرة على النهج نفسه، وأنها لن تخرج من نادي أصدقاء الغرب مهما كانت الخلافات وتباين وجهات النظر… العاهل السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز قال أمس، في أول كلمة له بعد اعتلائه سدة الحكم، إن المملكة بقيادته ستستمر في السير على النهج نفسه الذي سار عليه أسلافه. وقال الملك سلمان، في كلمته التي عزى فيها الشعب السعودي بوفاة الملك عبد الله: "سنظل، بحول الله وقوته، متمسكين بالنهج القويم الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز، رحمه الله، وعلى أيدي أبنائه من بعده''. الاستمرارية.. هذا بالضبط ما لا تحتاج إليه المملكة وشعبها المتطلع إلى ملكية دستورية تخرجه من عباءة الحكم المطلق وتدخله إلى العصر الجديد، وإلى مجال سياسي معد للتنافس والسعي إلى اقتسام السلطة والثروة والمكانة في دولة كبيرة وغنية وحساسة، وأمامها رهانات كبرى في الداخل والخارج… الملك الجديد ابن زمن مضى، فهو في بداية الخمسينات كان حاكما للرياض، وهو اليوم على مشارف الثمانين، وللعمر أحكام على الصحة والعقل والإرادة والتطلع إلى المستقبل، لهذا لا يعول الكثيرون على الملك سلمان رغم ميولاته الليبرالية الخفيفة لإحداث إصلاح سياسي مهم في المملكة، ولا ينتظرون منه إعادة النظر في علاقة بيت الحكم السعودي بالمؤسسة الدينية الوهابية، التي أصبحت مشكلة كبيرة في داخل المملكة وخارجها، حيث إن هذه المؤسسة هي المسؤولة عن 90 في المائة من أفكار التطرف السلفي الجهادي، وإلى الإنتاج الفقهي والفكري الوهابي يعود الفضل في انتعاش التطرف الذي تقوده اليوم القاعدة وداعش وأخواتها من الجماعات الراديكالية التي تخوض حربا ضروسا ضد المسلمين والنصارى واليهود… منذ الخمسينات كان هناك اتفاق ضمني بين السيف السعودي والقلم الوهابي؛ الأول لا ينازع في سلطة رجل الدين، والثاني لا ينازع في سلطة رجل الحكم، ولأن رجل الدين له طموح سياسي وأطماع مادية فإنه جرى إطلاق يده خارج حدود المملكة للتحرك والعمل والدعوة والتبشير وحتى للجهاد. كانت البداية بأفغانستان، وجاءت بعدها البوسنة والهرسك ثم الشيشان، وصولا إلى انشقاق ابن لادن والذهاب إلى غزوة مانهاتن في 11 شتنبر، وباقي القصة معروف… أكبر تحول وقع في إيديولوجيا الإسلام السياسي أن «الريادة الفكرية» والتأثير الفكري انتقلا من مصر والعراق ودمشق والمغرب وتونس… إلى الجزيرة العربية، وإلى قلاع الوهابية التي استفادت من ريع النفط وتراجع الحواضر التقليدية عن الإنتاج الفقهي والفكري الوسطي، وأصبحت الوهابية وكتبها وإعلامها وقنواتها وجمعياتها ورموزها هي التي توجه الشباب الإسلامي نحو نمط من التدين المتشدد والمنغلق يعلي من التقليد على حساب التجديد، ومن النص على حساب العقل، ويغرق في البحث عن نموذج السلف الصالح الذي يستحيل استعادته اليوم، لأن العصر غير العصر، والإنسان غير الإنسان، وهكذا يتحول العجز في عقل الوهابي عن بعث سيرة السلف اليوم إلى المزيد من رفض الواقع، ومزيد من التوتر مع العصر وقيمه، والتوتر يقود إلى عنف وإلى جهاد، والبقية ما نراه في داعش والقاعدة وبوكو حرام والنصرة وأخواتها… رحم الله الملك عبد الله…