شكّل مطلب محاربة الفساد والاستبداد شعارا سياسيا يُكثّف ديناميكية 20 فبراير، وتحَوّل مع العرض السياسي الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في الاستحقاق التشريعي الأخير، إلى ما يمكن اعتباره جوهرا للتعاقد الانتخابي الذي قاد هذا الحزب إلى مواقع الحكومة. والواقع أن الربط بين الاستبداد والفساد في الحالة المغربية، أمر يتجاوز بالتأكيد سُهولة البلاغة السياسية التي رافقت حراك 2011، فالربط قائم في عمق الواقع، وفي قلب البنيات السياسية التي أنتجت ظروف سنوات الرصاص، حيث شكل الفساد نمطا للحُكم، وجوهرا لتدبير الدولة الريعية والقمعية، وآلية لبناء شبكات الزبونية التي تُعضد علائق النظام السلطوي بحلفائه الطبقيين والاجتماعيين. داخل منظومة الفساد هذه، يعد الفساد السياسي، أصلا لباقي الأنواع والفروع؛ من فساد اقتصادي وفساد اجتماعي وغيرهما، حيث يبقى الفساد السياسي بمثابة الإطار العام الذي تنتظم داخله باقي الأشكال، في سعيٍ موصول إلى تغذية استمرارية النظام السلطوي وإعادة إنتاج آلياته الهيمنية والإدماجية /الاقتصائية. عموما، فإن كثيرا من الدراسات ذات العلاقة بالموضوع، تُجمع على طرح الإصلاح السياسي كركن رئيسيٍ في بناء المنظومة الوطنية للنزاهة، ذلك أن منبت ظاهرة الفساد يتمثل في قيام النظام السياسي على فكرة اللامسؤولية المنظمة، حيث لا ترتبط ممارسة السلطة بالمحاسبة، وحيث تظل ممارسات السلطة التنفيذية بعيدة عن رقابة المنتخبين، والمواطنين، ومؤسسات الرقابة، ووسائل الإعلام. فضلا عن تنامي حالات التداخل والالتباس بين السلطة والثروة، واعتماد قاعدة القرب من مراكز القرار كآلية لتحقيق التراكم الاقتصادي. ورغم أن النسخة النهائية من الدستور المغربي قد أسقطت – في آخر لحظة -التنصيص على حالات تضارب المصالح، فإن هذا القانون الأسمى قد تقّدم بخطواتٍ مهمة، عندما ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعندما وسّع من صلاحيات الحكومة كسلطة تنفيذية خاضعة للمُساءلة، وعندما أقر مبدأ تقديم المرافق العمومية للحساب بشأن تدبيرها للأموال العمومية، وعندما نصّ على معاقبة الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المُخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية. اليوم، وبعد ثلاث سنوات من تعيين الأستاذ بنكيران رئيسا للحكومة، بمدينة «ميدلت»، فإن أحد مداخل تقييم التجربة الحكومية ينطلق من سؤال: أين وصل شعار محاربة الفساد؟ يبدو واضحا أن الحكومة انطلقت بالكثير من النِيّات الطيبة أو بتقديرٍ خاطئ لخُطورة الملف، وهذا ما جعلها تتصور بسذاجة إمكانية ربح نقطة إضافية في معدل النمو نتيجة لمحاربتها للفساد، قبل أن تُطلق سلسلة من سياسات إعلان «اللوائح»، وهو ما تم التصفيق له في البداية حتى من طرف المعارضة، لتُصاب فيما بعد سياستها في موضوع محاربة الفساد بشيء من الارتباك والتردد، وخاصة عندما «فُهمت» بعض التصريحات كتطبيعٍ مع الفساد. لقد نصّ الدستور على إحداث هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرّشوة ومحاربتها، كمؤسسة دستورية منظمة بقانونٍ وكإحدى هيئات الحكامة الجيدة، وكامتداد تجاوُزِي للهيئة المركزية للوقاية من الرّشوة. لكن مشروع القانون المنظم لها، والذي انطلق مجلس النواب في مناقشته خلال الأسبوع الماضي، يطرح العديد من الأسئلة، سواء في علاقة مع انسجامه مع الممارسات الفُضلى في التجارب الدولية، والتي تحرص على تمكين هذه المؤسسات من استقلالية فعلية ومن سلط مهمة في التحري، أو مع المنظومة المعيارية كما تحدد معالمها الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد التي وقع عليها المغرب. أو في علاقة مع النّصِ الدستوري نفسه، الذي أعطى للمؤسسة المذكورة مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع سياسات محاربة الفساد، في حين كبّل مشروع القانون هذه الصلاحيات، لاغيا قدرتها على المبادرة الذاتية، ومحولا مهامها إلى مجرد هيئة استشارية، ومُنطلقا من تعريف ضيق للفساد. يُمْكِنُ للحكومة أن تُحاجج خصومها بأنها لا تُشرّع إرضاءً لخاطر المجتمع المدني أو المؤسسات الدولية، كما يُمكنها أن تُقنع الرأي العام – بصعوبة – بأنها غير مُلزمة برؤية الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة في موضوعٍ هذا القانون، لكنها في النهاية ستكون مُجانبة للصواب تماما عندنا ستُصِرّ على الدفاع عن بعض المقتضيات المنافية لصريح النص الدستوري. [email protected]