يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). وبعد ذيوع خبر الفتوى المحرفة، ثارت ثائرة خصوم ابن تيمية وبعض العامة الذين يرتبطون بهم بالولاء، فاجتمع بعضهم في دمشق للتشاور حول ما يجب القيام به، فأشار بعضهم بنفيه، وبعضهم الآخر بقطع لسانه، وبعضهم بتعزيره، وآخرون بحبسه، واجتمع آخرون في مصر وذهبوا إلى السلطان وطالبوا بقتله، لكن السلطان لم يوافقهم. وفي يوم السادس من شعبان، حضر إليه نائب السلطنة الأفرم وحاجب السلطان وأخبراه بقرار هذا الأخير باعتقاله، فرد ابن تيمية: «أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم»، ثم سيق إلى سجن القلعة حيث أقام معه أخوه زين الدين لخدمته بإذن السلطان، وقرئ في دمشق مرسوم سلطاني بمنعه من الإفتاء. ولكن الفتنة لم تهدأ رغم اعتقاله، إذ أصر خصومه على اعتقال عدد من تلاميذه وتعزيرهم، كان بينهم ابن قيم الجوزية، ثم أخلي سبيل جميع من عُزِّروا إلا ابن الجوزية الذي وضع في السجن إلى جانب شيخه. وفي نهاية شهر رمضان، جاء الأمر بالإفراج عنه، فاشترط الفقهاء والقضاة أن يلتزم ببعض الشروط قبل إخلاء سبيله، وبعثوا إليه لكي يحضر من سجنه فرفض، «وتكرر إليه الرسول مرات، وهو مصمم على عدم الحضور، فانصرفوا من غير شيء». وفي الثامن والعشرين من ذي الحجة، بعث ابن تيمية رسالة إلى الأفرم من سجنه يخبره بأحواله، فلم يجد هذا الأخير سوى الثناء عليه وعلى علمه وشجاعته وعدم قبوله أي شيء من السلطان أو الأمراء «ولم يأخذ شيئا، قل ولا جل». وفي سجنه استمر في التأليف وإعطاء الدروس والفتاوى، ويقول أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي إنه «أقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كبيرة تشتمل على نفائس جليلة ونكت دقيقة ومعان لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خلق من المفسرين، وكتب في المسألة التي حبس بسببها مجلدات عدة»، لكنه في الأخير منع من المطالعة والكتابة، «وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة ولا قلما ولا ورقة»، فأخذ يكتب بالفحم. ويروي المقريزي أنه في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة سنة 728 «أخرج ما كان قد اجتمع عند ابن تيمية بالمكان الذي هو فيه معتقل بقلعة دمشق من الكتب والكراريس والأوراق، ومن دواة وأقلام، ومنع من الكتابة وقراءة الكتب وتصنيف شيء من العلوم البتة. وحملت في مستهل شهر رجب من القلعة إلى مجلس الحكم، فوضعت بخزانة في المدرسة العادلية، وكانت أكثر من ستين مجلدا وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وتفرقت في أيديهم، وكان سبب هذا أنه وجد له جواب عما رده عليه القاضي المالكي بديار مصر، وهو زين الدين بن مخلوف، فأُعلم السلطان بذلك فشاور القضاة، فأشاروا بهذا». وخلال تلك الفترة، التي استمرت بضعة أشهر، لفظ أنفاسه الأخيرة وهو في سجن القلعة، وكأن الظروف شاءت أن يموت الرجل الذي ارتبط اسمه بالمنع والتطرف والتشدد ضحية التشدد من لدن السلطة وبعض الفقهاء والقضاة، وضحية المنع من الكتابة والقراءة. فقد مرض في العشرين يوما الأخيرة، ولم يعلم أحد بمرضه، إلى أن فاجأهم موته. ولنقرأ ما كتبه ابن كثير وهو يتحدث عن يوم وفاته: «وحضر جمع كثير إلى الغاية إلى القلعة، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن، واقتصر على من يغسله. فلما فرغ من ذلك أخرج وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى الجامع، وامتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك، ووضعت في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد تمام، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، وحمل من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وصار النعش على الرؤوس، تارة يتقدم وتارة يتأخر، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام، وكان المعظم من الأبواب الأربعة، باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمان، وحمل إلى مقبرة الصوفية، فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله، رحمهما الله، وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير، وغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس أو من عجز لأجل الزحام، وحضرها نساء كثير بحيث حزرن بخمسة عشر ألفا، وأما الرجال فحزروا بستين ألفا أو أكثر إلى مائتي ألف، وشرب جماعة من الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل: إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهم، وقيل: إن الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل دفع فيه مائة وخمسون درهما، وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء وتضرع، وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية والبلد، وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا، ورئيت له منامات كثيرة صالحة، ورثاه جماعة بقصائد جمة».