يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). لذلك نجد أن ابن تيمية يكاد يكون استثناء في وضع غير عادي، فقد أصدر فتوى كان لها وقع في نفوس الناس، علماء وعامة، عندما بدأ خطر التتار يحوم حول دمشقوالقاهرة، إذ قال إنه في حال أراد العدو الهجوم على المسلمين، «فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين وعلى غير المقصودين لإعانتهم، كما قال الله تعالى: «وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق»، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال (أي من المجندين) أو لم يكن». وهكذا لم يكد يستقر به المقام في دمشق، حتى تناهت الأخبار عن استعداد التتار لغزو المدينة عام 700، فجهز سلطان مصر جيشا لمواجهة الغازين متوجها إلى دمشق للدفاع عنها. وكانت تلك فترة صعبة، حيث أخذ الناس يفرون خارج المدينة قاصدين مصر، بينهم العامة والأعيان وبعض العلماء، أمثال قاضي الشافعية وقاضي المالكية بالمدينة، «وبقي البلد شاغرا ليس فيه حاكم ولا زاجر ولا رادع»، وارتفعت الأسعار خصوصا أسعار النقل إلى مصر من دمشق، إذ «أكريت المحارة من الشام إلى مصر بخمسمائة درهم، وبيعت الأمتعة بالثمن البخس، لأن الناس كانت تبيع أمتعتها بقصد الرحيل، ونودي في دمشق من قدر على الهرب فلينج بنفسه، فانقلبت المدينة وانرص الخلق بالقلعة وأشرف الناس على خطة صعبة». والتقى الجيشان، المصري والتتاري، لكن النصر كان لهذا الأخير، فولى الجيش المصري هاربا إلى القاهرة، وزاد ذلك في تعقيد الموقف ونشر الرعب بين سكان دمشق، وتفاقم الوضع أكثر عندما كسر السجناء أقفال السجون وخرجوا إلى الشوارع يتخطفون الناس ويسرقون ما قدروا عليه ويعتدون على حرمات البيوت. وأمام حالة الهلع العام والاضطرابات الداخلية التي أحدثها «الحرافشة»، قرر ابن تيمية الخروج بنفسه مع أصحابه لمقابلة قازان زعيم التتار، وكان قبل ذلك قد اعتنق الإسلام، حيث خاطبه بكلام قوي وأخذ منه الأمان لأهل دمشق، ويقول صاحب «الكواكب الدرية» إن قازان عندما رأى الشيخ «أوقع الله في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه منه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه في عكس رأيه من تسليط المخذول ملك الكرخ على المسلمين، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعا، وحقنت بسببه دماء المسلمين وحميت ذراريهم وصين حريمهم»، ويروى أنه قال لقازان عن طريق الترجمان: «قل للغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت». أما في مصر، فالوضع لم يكن أقل سوءا، رغم بعدها، فبعد رجوع جنود السلطان مهزومين أمام التتار، وشروع الدولة في جمع الأموال من المواطنين لتجهيز الجيش، ثار الناس وأخذوا يسخرون من الجيش ويقولون: «بالأمس كنتم هاربين واليوم تريدون أخذ أموالنا»، ولما عم الأمر وما حصل من تجرؤ الناس على الجنود، نودي في القاهرة ومصر: «أي عامي تكلم مع جندي كانت روحه وماله للسلطان»، وانتشر الفقر ونزلت بالناس الشدائد، حتى إنهم «قطعوا الأشجار المثمرة وباعوها حطبا». لم يكتف ابن تيمية بأخذ الأمان من قازان، فهو لا يثق في من خرج ينوي الاعتداء على الشام، بل ركب البريد متوجها إلى القاهرة، حيث التقى أركان الدولة، وحثهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث»، وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، فاستقاموا، وقويت هممهم وأبدوا له عذر المطر والبرد»، ثم عاد إلى دروسه في الجامع يحرض الناس على الجهاد، ويثنيهم عن الفرار وترك دمشق للغازين، وأمر بالمناداة في المدينة كلها ألا يسافر أحد إلا إذا كان بحوزته إذن بذلك. وتكررت مشاركته في الجهاد في المعركة الشهيرة باسم «شقحب»، وهو سهل يقع بجوار دمشق، في رمضان عام 702، وكانت معركة حاسمة جمعت بين المماليك والتتار. فقد فر المماليك من مواجهة التتار لكثرة أعداد مقاتليهم، وتراجعوا عن القتال، فدخل التتار حمص وبعلبك وعاثوا فيهما فسادا، وأصيب الناس بالهلع وبدؤوا يهربون، فاجتمع القضاة والفقهاء في المسجد وأقسموا على القتال، وخرج ابن تيمية من دمشق لمقابلة الجيش القادم من مدينة حماة، وأخذ يحرضهم على القتال وعدم الفرار، ويفتي لهم بجواز الأكل في رمضان، ثم توجه إلى أمير بادية الشام مهنى بن عيسى بنفسه، وأحضره للمشاركة في الجهاد، بعدما واجهه بكلام غليظ هو وجيشه. ولما جاء السلطان قلاوون بجيشه لقتال التتار وسمع عن كثرة عددهم قال: «يا لخالد بن الوليد»، فرد عليه ابن تيمية: «لا تقل هذا، بل قل يا الله واستغث بالله ربك وحده تُنصر». وأثيرت في تلك المعركة قضية عقدية، سوف نراها تتطور لاحقا في فكر ابن تيمية، ذلك أن التتار كانوا قد اعتنقوا الإسلام قبل ذلك التاريخ، ما أوقع الناس في حيرة من أمرهم. وقد سألوا ابن تيمية كيف يمكنهم قتال هؤلاء وهم يظهرون الإسلام وليسوا خوارج، لأنهم لم يخرجوا عن طاعة السلطان، فهم لم يكونوا تحت طاعته أصلا حتى يخرجوا عنها. وقدم ابن تيمية جوابا حلت به المسألة، فقد قال إن هؤلاء التتار من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وإن هؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، «فتفطن العلماء والناس لذلك». ولمزيد الإقناع للناس، الذين اختلط عليهم الأمر، قال لهم: «إذا رأيتموني من ذلك الجانب -أي من جانب التتار- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني»، فتشجع الناس على القتال وقوي عزمهم، وعندما اندلع القتال بين الطرفين، خاض مع المقاتلين، «فكان تارة يباشر القتال، وتارة يحرض عليه قائما شاكيا سلاحه ولأمة حربه».