أكد الشيخ عبد الكريم مطيع، مؤسس أول تيار إسلامي بالمغرب، أن تصور الفقهاء لسلطة الخليفة أو الملك أو السلطان هو "تصور لا يمت للشريعة الإسلامية إلا بما أُضفي عليه من تأويلات مشتطة لبعض النصوص، أو قياس غير منضبط على بعض الأخبار والأحداث". ويشرح مطيع، في مقال خص به هسبريس، فكرة علاقة فقهاء السلطان بمكيافيلي، كون تصور الفقهاء كان مقتصرا على وضع أسس للتحكم والسيطرة، حيث فكرهم السياسي كان في عمق السياسة الوضعية التي تفصل بين الدين والدولة، وهو ما يُعد خطوة ممهدة لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، أو "المكيافيلية" في الاصطلاح السياسي المعاصر. وهذا نص مقال الشيخ مطيع كما ورد إلى الجريدة: فصل المقال فيما بين فقهاء الأحكام السلطانية ومكيافيلي من اتصال يكاد الباحث المعاصر في الفكر السياسي الإسلامي منذ تأسيسه على يد الماوردي ومن نهج نهجه، ييأس من احتمال بلوغه مستوى من النضج يضمن الحقوق الضرورية للمواطنين، حرية فكر ورأي وتصرف ومشاركة في اتخاذ قرارات الشأن العام وتسييره وترشيده، أو مساهمة فعالة واعية في الدفاع عن سيادة الأمة ووحدتها وكرامتها. بل إن هذا الفكر حتى عقب بزوغ النهضة الحديثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقد اصطدم بالفكر الغربي الديمقراطي وحاول التأثر به، لم يستطع أن يتحرر من موروثه الماوردي ذي النزعة الاستبدادية والتسلط الفردي على مقدرات الأمة بشرا وثروة وأرضا وسيادة. وعلى الرغم من محاولات كتاب الفقه السياسي الإسلامي المعاصرين تحديثه ديمقراطيا بقيت هذه المحاولات محتفظة بخصائص الاستبداد الموروث المنطلق من قاعدته الأساسية للحكم الفردي التي تعتبر سلطة الرئيس أو الإمام ولاية عامة وذاتية. تعتبرها ولاية عامة لكونها تُلزم الغير ولو لم يوافق، بطاعة أوامر صاحب الولاية، سواء كانت الأوامر لصالح هذا الغير أو لغير صالحه، لكونها في نظر هذا الفقه مستمدة من الله، والإمام "ظل لله"[1] كما وقر في أذهانهم . وتعتبرها ولاية ذاتية يستمدها الإمام أيضا من قدرته على التغلب والتسلط والتخلص من مناوئيه ، وإنْ كانت شكليا مستمَدَّة من استخلاف من قبله إن لم تكن غلابا واستيلاء. وبمقتضى هذه الولاية يجب على الكافة كما قال الماوردي[2] : " تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا معارضة له ، ليقوم بما وُكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال". وهذا التفويض يحمِّل الأمة واجبين نحو الإمام ، هما الطاعة للأوامر مهما حادت وانحرفت ، والنصرة على عدوه ولو على باطل. هذا التفويض المطلق للولاية العامة التي يمثلها الإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين بشخصه وذاته، يشمل المكان والزمان والإنسان وتطبيق الشريعة وتدبير الأمر العام. من حيث المكان : تشمل سلطته أرض الإسلام كلها . وبما أن وحدة البلاد هي الأصل كتابا وسنة ، وهي المبدأ الذي ورَّثه العهدان النبوي والراشدي لمن بعدهما ، فإن الفقهاء قرروا هذا المبدأ أول الأمر ، وأفتوا بوحدة الإمامة وعدم جواز مبايعة إمامين في عصر واحد ، لقوله : " إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما" وكان في مقدمة من قال بهذا كل من الماوردي والغزالي والتفتازاني وابن حزم. إلا أن اتساع رقعة دار الإسلام ، وتحول أمر المسلمين إلى التنافس على الملك والسلطة ، وعدم قيام مؤسسات شوروية تحمي سلطة الأمة ووحدتها ، وهيمنة الشفوية وعدم التدوين على الفكر السياسي ، كل ذلك أدى إلى تمزق البلاد وقيام دويلات في أطرافها . استبد أول الأمر بعض أمراء الأقاليم وانفصلوا عمليا عن الخلافة ، فاخترع الفقهاء لهذه الحالة حفاظا منهم على وحدة الإمامة ، ما سموه " إمارتي الاستكفاء والاستيلاء " [3] . إمارة الاستكفاء عندهم تكون بعقد الإمام عن اختيار وإرادة ، لشخص معين على إقليم خاص . وإمارة الاستيلاء تكون بعقد عن اضطرار ، بعد أن يكون الشخص قد استولى فعلا على الإقليم . ثم بعد أن قامت دويلات مستقلة عن الخلافة المركزية استقلالا تاما ، أباح الفقهاء من أمثال الإيجي [4] ، تعدد الأئمة ، مبررين ذلك باتساع رقعة دار الإسلام ، وكون كل إمام في بلد ، وضرورة المحافظة على إقامة الشريعة وأداء الحقوق . ومن حيث الزمان : برغم كون الشريعة الإسلامية أعطت للأمة حق تحديد فترة حكم الإمام في إطار الشورى ، فإن الفقهاء افتياتا منهم على الشرع أجمعوا على حقه في البقاء في السلطة طيلة حياته ، ما لم يُعتبط أو يُجن أو يفقد القدرة التامة على السمع والنطق والتصرف ؛ وإِنْ اختلفوا في حال فقده بعض الأعضاء أو عجزه عن التصرف باستبداد أعوانه الفسقة عليه ، أو أسره لدى العدو. أما عزله لفقد شروط العدالة والعلم ، فقد أجمعوا على أن ذلك لا يجوز ، إِنْ خيفت الفتنة أو لم يُقدر عليه أو كان عزله يؤدي إلى الإضرار بالمصالح . وعلى العموم فالرأي السائد هو أن الإمام لا ينعزل بالجهل أو الفسق الاعتقادي والسلوكي ؛ لأن ولايته في نظرهم مبنية على القهر والغلبة. وفي "حاشية رد المحتار على الدر المختار " لابن عابدين [5] عن القاضي هل ينعزل إنْ فسق ، ويقاس عليه الإمام : " وفي الخلاصة عن النوادر: "لوفسق أو ارتد أوعمي ثم صلح أو أبصر فهو على قضائه " ، وفي الفتح: "اتفقوا في الإمارة والسلطنة على عدم الانعزال بالفسق لأنها مبنية على القهر والغلبة"، لكن في أول دعوى الخانية: "الوالي كالقاضي"، " وفي الواقعات الحسامية: "لا ينعزل بالردة، فإن الكفر لا ينافي ابتداء القضاء في إحدى الروايتين". وقيل: "إن فسق الوالي فهو بمنزلة القاضي يستحق العزل ولا ينعزل". كما ذهب أبو بكر الباقلاني، وهو مالكي من كبار متكلمي الأشاعرة في كتابه "التمهيد" [6] ، إلى القول بأن الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث يقولون : "لا ينخلع الإمام بالكفر بعد الإيمان أو ترك الصلاة أو الفسق والظلم، وإنما يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاص". أما إِنْ غلب عليه غيره واستولى على ملكه، فلا خلاف في وجوب مبايعة المنتصر دفعا للفتنة وحفاظا على بقاء الشريعة كما يقولون. ومن حيث الإنسانُ : للخليفة على المسلمين سلطة كاملة مطلقة تقتضي الطاعة والنصرة ، وتعم الذكور والإناث والأصول والفروع ، في أنفسهم وأموالهم وعباداتهم صلاة وزكاة ونسكا ؛ حتى إن من الفقهاء مَنْ لا يجيز صلاة الجمعة والعيدين بدون الإمام أو من يمثله ، ومنهم من يقدم إمامة الخليفة ومن يمثله في صلاة الجنازة ، على أولياء الميت . ولئن حاول بعض المتأخرين ترقيع هذه المذاهب التشريعية ببعض المفاهيم العصرية عن الحرية الشخصية ، ليخففوا من وطأتها التسلطية ؛ فإنها تبقى خارج نطاق الشريعة الإسلامية نصوصا وأحكاما ، روحا ومقاصد. ومن حيث تطبيقُ الشريعة الإسلامية : فإن الإمام يعد مسؤولا عن ذلك وحده . حتى الحدود التي لا يجوز العفو عنها ، وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ؛ جوَّز الفقهاء للإمام عدم إقامتها ، لا سيما في حق الوجهاء والأعيان وأصحاب الشأن ، بتأويلات منهم لما روي عنه صلى الله عليه وسلّم : "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" ، وهو حديث ضعيف كما قال العزيزي في شرح الجامع الصغير. وبما أن ولاية الإمام ذاتية ومبنية على الغلبة والقهر ، فلا أحد فكر في إمكانية إقامة الحد عليه إِنْ استحقه ، على رغم أن الشريعة لم تستثنه من حاكميتها . وقد رُوي أن عمر في أيام خلافته رأى رجلا وامرأة على فاحشة ، فجمع الناس وقام فيهم خطيبا، وقال : " ما قولكم إذا رأى أمير المؤمنين رجلا وامرأة على فاحشة ؟" فقام علي بن أبي طالب وأجابه بقوله : " يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء ، أو يُجلد حد القذف ويصبح ساقط الشهادة إذا صرح باسمي من رآهما ، شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين " ، فسكت عمر ولم يعين من رآهما. كما أطلقوا يد الخليفة في أمر زواجر التعزير ، بالعقوبات البدنية إعداما وجلدا وقطعا وحبسا ونفيا ، والعقوبات المالية مصادرة وتغريما . وما عليه إلا اتخاذ بطانة من الفقهاء "المبرراتية" ، الذين يصطادون من المذاهب الرخص وضروب التأويل التي تفتح الأبواب المغلقة. فالقتل سياسةً مشروع عند الحنفية ، وعلى ذلك الحنابلة وفي مقدمتهم ابن تيمية وابن القيم ، أما المالكية فالمصالح المرسلة والمقاصد تبيحه مطلقا ، وقد نُسب لمالك إباحة قتل الداعية إلى البدعة لإفساده في الأرض ، وقطع المتهم بالسرقة بدون بينة إن حامت حوله الشبهة بالقرائن والمخايل ، وقتل ثلث الأمة استصلاحا للثلثين. وعلى ما سار عليه المالكية في هذا الباب سار الشافعية. وإذا كان القتل سياسة جائزا عند الجمهور ، فمن باب أولى جواز الجلد والسجن والنفي وبتر الأطراف سياسةً ، للعظة والتخويف والإرهاب. أما العقوبات المالية ، فأبو يوسف من الحنفية يجيزها خلافا لإمامه وصاحبه ، وكذلك الشافعية يجيزونها على خلاف في التفصيل ، وعند أحمد مشروعة باتفاق في مواضع وباختلاف في مواضع أخرى ، وعند المالكية جائزة في المشهور عن مالك . كما ابتدعوا للتعزير أربع مراتب : تعزير أشراف الأشراف و يكون بالإعلان، مثل أن يقال للمذنب منهم : " بلغني أنك تفعل كذا " ؛ وتعزير الأشراف كالدهاقنة من كبار القرى والقبائل ، والتجار ومن لهم مال وعقار ، ويكون بالإعلام والجر إلى باب القاضي أو الوالي ؛ وتعزير الأوساط وهم العامة ، ويكون بالحبس وغيره ؛ وتعزير الخسائس ، وهم المشبوهون ، ويكون بالحبس والضرب أو بما هو أشد من ذلك. وإذا مات من عُزر ، فدمه هدر عند أبي حنيفة ومالك وأحمد ، ويُضمن من بيت المال عند الشافعية. وهذه الأحكام كلها لا ضابط لها من شرع واضح مُوَثَّق ، وإنما الهوى والمزاجية الآنية ؛ وكم من مستحق عقوبة أو حدا عُفي عنه وأُغدق عليه المال لإنشاده بيت شعر أعجب الخليفة ، وكم من بريء قُتل لقوله كلمة صدق وحق وعدل . ولئن كان التعزير قد شُرع بدليل الإجماع للجرائم التي لا حد فيها ، والجرائم التي فيها حد ولم تكتمل أركانها ؛ فقد وُظف في واقع الأمر وغالبه ، للانتقام السياسي وتصفية المخالفين والمعارضين والمحتجين ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر . ومن حيث التدبيرُ العام : يدخل في اختصاص الإمام وحده كل شؤون الإدارة والمال وتعيين أمراء الأقاليم وولاتها ، والقضاة ومسؤولي مرافق الدولة والأمن، وإعلان الحرب الدفاعية والهجومية ، لأغراض دينية أو دنيوية ، جهادا أو عدوانا ، داخليا أو خارجيا ، لقهر المسلمين أو غير المسلمين . هذه خلاصة تصور الفقهاء والمتكلمين ، لسلطة الخليفة أو الإمام أو الملك أو السلطان أو الأمير ، على اختلاف في الألقاب وتماثل في التصرف . وهو تصور لا يمت للشريعة الإسلامية إلا بما أُضفي عليه من تأويلات مشتطة لبعض النصوص ، أو قياس غير منضبط على بعض الأخبار والأحداث. لقد كان تصورهم مقتصرا على ضرورة وضع أسس للتحكم والسيطرة ، في مجتمع يرفض بفطرته ما لم يُقدم إليه في "طبق" إسلامي . وهذا التصور بأدنى تدبر وتمعن يكشف بوضوح ، أن فكرهم السياسي كان في عمق السياسة الوضعية التي تفصل بين الدين والدولة ، وإِنْ عتموا على ذلك بمختلف ضروب التمويه والتعمية. ولئن كان الفكر السياسي الوضعي فيما قبل مكيافيلي (1469 - 1527 م) ، منذ نشأته اليونانية الأفلاطونية والأرسطية وتطوره الروماني ، قد تبنى الأخلاق والفضيلة والعمل لسعادة الإنسان مع احتفاظه بجوهر الحكم الفردي ، فإن الفقهاء والمتكلمين احتفظوا أيضا بفكرة الحكم الفردي ، ولكنهم جعلوها في خدمة السلطان من أجل رفاهيته وحده ودوام سلطته بمفرده ؛ وأباحوا من أجل ذلك جميع الوسائل الناجعة التي تحقق الهدف ، أخلاقية كانت أو غير أخلاقية . وهو ما يُعد خطوة متقدمة وممهدة لما عُرف بعد ذلك بمبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " ، أو" السياسة النفعية " ، أو " المكيافيلية" في الاصطلاح السياسي المعاصر. ويكفينا مثلا لذلك ، أن نقارن بين رأي بدر الدين بن جماعة في "تحرير الأحكام" إذ يقول[7] : "إذا خلا الوقت من إمام وتصدى لها من هو أهل لها ، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة واستخلاف ، انعقدت بيعته ولزمت طاعته " ؛ وبين قول مكيافيلي حول ضرورة السلطة المطلقة [8]: " من النادر إن لم يكن من المستحيل أن تقوم حكومة ، سواء كانت جمهورية أو ملكية على شكل منظم منذ مستهل عهدها، أو أن تتحول تحولا جذريا عن تنظيماتها القديمة ، إلا إذا كان المشرف على عملية القيام أو التحول شخصا واحدا ليس إلا … ، وعلى هذا فإن على المنظم العاقل للدولة أن يحزم أمره على أن يكون صاحب السلطان الوحيد . ولن يوجه إليه أي إنسان عاقل اللوم إذا ما قام بأي عمل مهما كان شاذا". إن الفقهاء جعلوا الإمام هو الدولة وهو الحكومة ، وهو الممثل الوحيد للشريعة والقانون والأمة ؛ وهذا بالضبط هو فكر مكيافيلي الذي يعد الأمير هو الدولة ولا دولة في غياب الأمير. والفقهاء برروا كل تصرف يقوم به الأمير من أجل الوصول إلى السلطة والاستدامة فيها ، وأباحوا له كل ضروب الخداع والمكر والقتل والاغتيال ، وهو عين ما ذهب إليه مكيافيلي الذي قال[9] : " فمن القواعد الصحيحة والسليمة أن النتائج قد تبرر الأعمال التي تستحق اللوم في ظاهرها ". وقال[10] : " على الأمير أن يتخذ التدابير اللازمة لارتكاب فظائعه فورا … ومن الواجب اقتراف الإساءات مرة واحدة وبصورة جماعية". والسيادة عند مكيافيلي هي سيادة الأمير ، لأن من السخف لديه أن يشاركه فيها غيره أو أن يمارسها الشعب . وهي عند الفقهاء على نفس الوتيرة والنهج ؛ لأن العامة في نظرهم مجرد غوغاء يحكمهم السيف . والخاصة إما موالون وأدوات فمقربون ، وإما معارضون فتحت قائم السيف وفي غياهب السجون. وأعوان الأمير وزراء وقضاة وقادة للجيوش ، يجب أن ينكروا ذواتهم في الخدمة، ولا يكون لهم أي طموح للمجد والرفعة ، وهو ما عبَّر عنه نجم الدين الطرسوسي[11] بقوله : " أما تولية نيابة السلطنة فينبغي للسلطان أن يختار لها من يوثق بعقله وعفته وديانته وفطنته وقلة طمعه وكلامه ، فإنه في البلد التي يتولاها السلطان الحاضر . ويُشترط ألا يكون متطلعا إلى السلطنة ولا تطالبه نفسه بالمرتبة الكبيرة ". وفي نفس الاتجاه يقول مكيافيلي[12]: " إذا كان قادة الجيوش من الأكفاء فعلا فليس في وسعك الاعتماد عليهم ؛ لأنهم سيتطلعون دائما إلى تحقيق أمجادهم الشخصية ، إما عن طريق اضطهادك أنت سيدهم ، أو اضطهاد الآخرين عاصين في ذلك أوامرك " ، ويزيد [13] : " عندما يفكر الوزير بنفسه أكثر من تفكيره بك ، وعندما يستهدف في جميع أعماله مصالحه الخاصة ومنافعه ، فإن مثل هذا الرجل لا يصلح لأن يكون وزيرا نافعا ، ولن يكون بإمكانك الاعتماد عليه". ولئن عومل مكيافيلي بجفاء وأحرقت محاكم التفتيش مؤلفاته ، ووُضع كتاب "الأمير" ضمن الكتب الممنوعة سنة 1559م ، وعُدَّ لدى الغرب ملعونا وحاملا لمصباح الشيطان ؛ فإن وضوح أسلوبه وعدم إخفائه حقيقة أفكاره ، وعزوفه عن التمويه على معتقداته ، واستفزازه العنيف لما تواضع عليه الفكر السياسي قبله ، كان سببا رئيسيا لما حل به من مشقة ومحنة. أما الفقهاء والمتكلمون ، فقد موهوا على ما ذهبوا إليه بأسلوبهم الرصين وتعابيرهم الفقهية ، وتقديمهم مصنفاتهم إلى الحكام والسلاطين ، فلم يثيروا بذلك لدى العامة والخاصة أي حساسية أو عداء . بل ما زالت كتاباتهم مقبولة ومرغوبا في نشرها ومُعتمَدَة إيديولوجيا لدى كثير من الفئات والنخب السياسية. لقد تطور الفكر السياسي لدى الفقهاء والمتكلمين عبر منهجية " الغاية تبرر الوسيلة " ، قبل مكيافيلي بأكثر من خمسة قرون تقريبا . وتدرج عبر مراحل ، من مدرسة الماوردي ذات الصباغ الإسلامي المكثف ، إلى ما دُعي " الآداب الملوكية ومرايا الأمراء " ذي النزعة الأخلاقية ، إلى المدرسة النفعية الواضحة البينة التي مهدت لظهور الفكر السياسي المعاصر، الذي أسسه مكيافيلي في أوائل القرن الميلادي السادس عشر. وقد بلغت هذه المدرسة الفقهية أوْجَ وضوحها لدى محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي (ت 431 ه/1039م) ، في كتابه " لُطف التدبير في سياسات الملوك " ، الذي يُعد بحق خطوة تأسيسية جريئة ومهمة نحو علم السياسة الحديث ، مما يدحض ما ذهب إليه مفكرو الغرب من نسبة ذلك إلى مكيافيلي. وإنه بأدنى مقارنة بين كتاب الخطيب الإسكافي "لطف التدبير" ، وبين كتابي "الأمير" و"المطارحات" لمكيافيلي ؛ يتضح التقارب الذي يكاد يكون تطابقا بين منهجي الرجلين وتفكيرهما ، خاصة عند استعراض عناوين الأبواب والفصول في الكتب الثلاثة؛ وهي عناوين يحتاج إليها كل من ساس الناس وولي أمرهم أو كان له طموح لذلك ؛ سواء في تدبير الملك وإدارة شؤون الدولة ، أو في معالجة الفتن والشغب والمناورات والحروب وصد الأعداء والمكر بهم وخداعهم ومكايدتهم ، أو في الانتقام والثأر وكشف الأسرار وحفظ العهود وفسخها . ولئن كان الإسكافي قد أورد آراءه بطريقة غير مباشرة ، عبر أخبار وحكايات وأحداث تاريخية يتفق مغزاها وعنوان الباب ؛ فإنه ترك أمر التعليق عليها واستخلاص العبر منها للقارئ وحده ، فلم يستطرد أو يتبسط في رواياته ، ولم يقحم تجاربه وخبراته ومشاهداته ، ولم ينتقد أو يعلق بما يُعد وجهة نظر له . وإنما استهدف أن يضع لحكام عصره حلولا عملية لما يجابههم من مشاكل واجهت غيرهم في أمم أخرى ، لعلهم يستفيدون من ذلك ويعتبرون. أما مكيافيلي فقد كان في كتابيه يعرض آراءه وخبرته السياسية ونصائحه المباشرة مؤيَّدَةً بأحداث التاريخ والتجارب الشخصية . ولكن محتوى كتابات الرجلين يسير على نحو متوازٍ ومتقارب ؛ إلى حد أن ما رواه الإسكافي في كتابه يصلح بكل دقة لأن يُستشهد به في كثير من فصول كتابي "الأمير" و "المطارحات" لمكيافيلي . ونسوق فيما يلي مقابلة لبعض الفصول والأبواب لدى الرجلين: أ - الباب الثاني من " لطف التدبير " : بعنوان " لطف التدبير في الحروب" . الباب الثالث من " لطف التدبير " بعنوان " في فتح القلاع " . الباب الرابع من " لطف التدبير" بعنوان : " في فتح البلاد" . ويقابلها عند مكيافيلي : الممالك التي تم احتلالها بقوة السلاح ، من كتاب "الأمير 79 ". الممالك التي تم احتلالها بمساعدة الآخرين أو بمساعدة الحظ . " الأمير 85 ". ب - الباب (22 ) من " لطف التدبير" بعنوان " في الفتك والأمر به والاحتراز منه". ويقابله عند مكيافيلي : الرأفة والقسوة من كتاب"الأمير 142 ". الاغتيال غير العمد من كتاب "المطارحات 612 ". ج - الباب ( 27 ) من " لطف التدبير" بعنوان "فسخ العزائم " : ويقابله عند مكيافيلي : كيف يتوجب على الأمير أن يحافظ على عهوده "الأمير 147 ". لا حفظ لوعود الإكراه "المطارحات 749 ". د - الباب التاسع من " لطف التدبير" بعنوان :" في تسكين شغب وإصلاح نفار أو ذات بين ". ويقابله عند مكيافيلي : الوقور يكبح جماح الجماهير "المطارحات 393 ". ه - الباب (19) من " لطف التدبير" بعنوان " مداراة السلطان " : ويقابله عند مكيافيلي : كيفية الإعراض عن المنافقين "الأمير 183 ". و - الباب (26) من " لطف التدبير" بعنوان " في درك ثأر وطائلة " : ويقابله عند مكيافيلي : أهمية الثأر للإساءة "المطارحات" (554) . ز - الباب (6) من " لطف التدبير" بعنوان " كسر الجيوش بقوة الرأي" . والباب (10) من " لطف التدبير" بعنوان " في التضريب بين الأعداء " والباب (13) من " لطف التدبير" بعنوان " في المكائد على الأعداء" . ويقابلها عند مكيافيلي : القضاء على الحاسدين "المطارحات 708 ". الخدعة لا تنافي المجد "المطارحات 749 ". اصطناع الخطأ للخدعة "المطارحات 760 ". الحيلة وسيلة الارتقاء "المطارحات 481 ". هذه بعض الأبواب التي تكاد تتطابق لدى الرجلين ، وغيرها من مثلها كثير . والفرق بينهما أن الإسكافي اقتصر على التوجيه غير المباشر ، فلم يتدخل بشرح أو تعليق على ما أورد من أحداث وأخبار ومرويات ؛ أما مكيافيلي فقد زاد عليه ما استخلص من الأحداث والتجارب والأخبار . وهو ما يشير بوضوح إلى أن فكر الفقهاء والمتكلمين يُعد أول لبنات السياسة النفعية المعاصرة ، التي أسفرت عن وجهها بما كتبه هذا الفلورنسي الداهية، بعد أن تجرع مرارة الفشل السياسي ، وكان المنفى مصيره ومآله. **** 1 - حديث "السلطان ظل الله في الأرض " منكر. 2 - الأحكام السلطانية للماوردي ص17 3 - الأحكام السلطانية للماوردي ص 35 4 - المواقف في علم الكلام للإيجي ص 400 5- حاشية رد المحتار على الدر المختار لاين عابدين ج 5 ص364 6- نصوص الفكر السياسي الإسلامي ليوسف أيبش ص57 7 - الصفحة 55 8 - المطارحات لمكيافيللي ص 249 9 - نفس المصدر ص 250 10 - الأمير ص 101 11 - تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك لنجم الدين الطرسوسي ص 130 12- الأمير لمكيافيللي ص 119 13- نفس المصدر ص 182