كان شيخ الإسلام ابن تيمية عالما فذا، صاحب همة وصبر وجلد، فتح باب الاجتهاد بعد إغلاقه، وقاوم الحملات المغولية حين أحجم عن ذلك الفرسان والأمراء، وسعى إلى توحيد الصفوف حين عمت الفرقة وتشرذمت صفوف المسلمين بالشام، ووقف في وجه استبداد المماليك وظلمهم لرعيتهم، يوجه وينصح ويرشد. يقول تلميذه ابن القيم: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه. وقد صدق ابن القيم، فقد كان الرجل نسيجا لوحده، ويكفي أنه ألف مئات الكتب، التي ما زال الناس ينهلون من معين علومها إلى اليوم. ولعل نبوغ ابن تيمية كان مخالفا لمجريات الأمور في عصره، فقد ولد بعد سقوط بغداد بخمس سنوات، وعاش في وسط تتناوشه سهام الأعداء من كل جانب، فالشرق في زمنه كان هدفا للمغول والصليبيين من الخارج، وفي الداخل كان نهبا للتطاحن بين المذاهب والفرق، وقد كثرت خصومات الفرق في زمنه، واشتد الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة والمتصوفة، وتعصب أصحاب المذاهب كل لمذهبه، فالمالكية والشافعية والحنابلة والأحناف لا ينتهون من معركة حتى يدخلوا في غيرها، فضلا عن الحشاشين الذين كانوا يعادون كل هؤلاء ويتربصون بهم الدوائر. سعى ابن تيمية في هذه لأجواء المضطربة إلى أداء واجبه كما تمليه عليه مسؤولية العالم المُوقّع عن ربه، فذم التقليد ودعا إلى الاجتهاد، بل فتح بابه وكان من فرسان التجديد في زمنه، وناظر أصحاب الفرق بالحسنى وفتح حوارا عميقا مع كل الطوائف، وهو ما تشهد به كتبه إلى اليوم. وكما كان فارسا في ميدان الفكر والعلم كان فارسا في ساحات النزال، فقد صمد في دمشق عندما قصدها المغول وفر منها العلماء والأمراء وثبت فيها يحرض العامة ويشد أزرهم، ثم وقف موقفا بطوليا بعد ذلك في معركة «شقحب»، وجعل يحرض الجنود ويحمسهم، فلما التحم الصفان طلب من أمير المعركة أن يضعه في موطن القتل، إذ لم يكن في نيته أن يعود سالما إلى بيته . كان لشدته في الحق أثر كبير في تكاثر أعدائه وخصومه، وهؤلاء لم يدخروا جهدا في الوقيعة بينه وبين الناس من جهة، وبينه وبين الأمراء من جهة أخرى، فأشاعوا عنه الكثير من الأباطيل والأكاذيب، وقد بلغ من حقد معاصريه عليه أن قالوا بخروجه من ملة الإسلام لا لشيء إلا لأنه كان ضد التمذهب والتقليد، وكان يقول لمقربيه: «من تعصب لواحد من الأئمة بعينه فقد أشبه أهل الأهواء سواء تعصب لمالك أو لأبي حنيفة أو لأحمد « . تكاثر الأعداء على ابن تيمية وكثر عليه الدس عند صاحب السلطان وترصدوا هفواته وأخطاءه، فكانت حياته لذلك سلسلة متصلة من المحن والابتلاءات، وقد سجن بسبب آرائه سبع مرات، آخرها تلك التي حبس فيها بسجن القلعة إلى أن وافته المنية عام 728ه. وقد سمحوا له في بداية الأمر أن يجيب عن أسئلة طلابه، فكان يكتب جوابه بالفحم على رسائلهم، فالتفت خصومه إلى أن ذلك سيكون سببا في تكاثر مريديه، فنقلوه إلى زنزانة مظلمة وما انفكوا يهددونه بالقتل فلم يعبأ بتهديدهم وقال في ذلك قولته الشهيرة: «ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري ... إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة». غير أن منعه من مراسلة طلبته أضر به كثيرا، وما لبث أن مرض بعد أن حيل بينه وبينهم، وبعد أشهر قليلة أسلم الروح لباريها. كان ابن تيمية جريئا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ففي أواخر عام 699ه زحف غازان التتري وجنوده على حلب وأنزل هزيمة قاسية بجنود الناصر بن قلاوون، ففر الجند والأعيان وثبت ابن تيمية كعادته في وجه الطاغية، وشكل وفدا مما تبقى من الوجهاء وتوجه إلى غازان المعروف بجبروته وطغيانه للتفاوض معه، ودارت بينهما محاورة عنيفة اتهم فيها ابن تيمية غازان بالغدر ونقض العهود، وقد قال في ذلك أحد الذين حضروا المجلس: «فجعلنا نجمع ثيابنا خوفا من أن تلوث بدم ابن تيمية إذا أمر بقتله». غير أن غازان لم يؤذ ابن تيمية، بل جلس ينصت إليه بإمعان، ثم قال لمقربيه: «من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه»، ثم أمر بتقديم الطعام للوفد، فأبى ابن تيمية أن يأكل فلما قالوا له: ألا تأكل؟ قال : «كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتموه من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟». فلما خرجوا من عنده قال قاضي القضاة نجم الدين لابن تيمية: «كدت تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا». فافترقوا عنه خوفا من جرأته، فسلم هو ومن سار معه وتعرض الآخرون للسطو، والأكثر من ذلك أن أصحاب غازان صاروا يحملون له احتراما خاصا رغم عدائه لهم. إن ابن تيمية رغم ما قدمه لوطنه سجن وحيل بينه وبين طلبته وكتبه وآذاه بنو جلدته أذى لم يره من أشد أعدائه الذين حاربهم، ومع ذلك فالمتتبع لسيرته يرى أنه رغم كل ما عاناه من اضطهاد لم يوجه خصومته إلا لأعداء أمته ولمن يستحقها. يوسف الحلوي