الرؤية الفكرية/الدينية للحركة الوهابية: إن من أبرز ما يثير الانتباه في الحركة «الوهابية»، هو تمسكها بالمذهب الحنبلي، والعمل على نشره في واحات نجد. أما تفسير ذلك، فيعود إلى كون هذا المذهب كما هو معروف، ظل أميناً في جوهره للأصول الدينية الأساسية «القرآن والسنة»، وكلاهما في خصوصيته الشرعية، يشكلان الوجه الرئيس المعبر عن الفترة الزمنية التي عاشها الرسول محمد (ص)، أي المرحلة التاريخية التي عاشتها الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي، ضمن نظام اجتماعي قبلي، ومستوى متدن من قوى وعلاقات إنتاج. إن أبرز ما كان يميزها، تلك الروح الاستغلالية البدائية، المدعومة بنظام قبلي هي تعرج الحدود الطبقية فيه، ليس بين الأغنياء والفقراء فحسب، بل وبين الوجهاء والأعيان، وبين البدو من رعاة الإبل، والسكان شبه الرحل والحضر، وبين القبائل الكريمة النسب أيضا، فكل هذا ظل على على حاله في غمار القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، نتيجة عزلة شبه الجزيرة عن المناطق الأخرى الأكثر استقراراً في الإمبراطورية العثمانية الشاسعة. فشبه الجزيرة في تطورها الاجتماعي، وفي قوى وعلاقات إنتاجها، لم تتعد طبيعة ظروف الحجاز في فجر الإسلام، لذلك نستطيع القول من جهة أخرى، إن جملة الشروط الموضوعية والذاتية المرافقة للحنابلة الأوائل، ظلت بدورها على ما يبدو أثناء قيام الحركة الوهابية، هي نفسها الظروف القابلة على إعادة إنتاج الفكر الحنبلي في صيغته الجديدة. إن الانغلاق الذي أحاط بوسط شبه الجزيرة العربية، أولا، ثم الإهمال الذي منيت به تاريخياً، ثانياً، يضاف إلى ذلك بقاء قوى وعلاقات الإنتاج منذ قرون عديدة على وضعها، ثالثاً، ثم الطبيعة البدوية، وموقفها من الدين عموماً، (8) (قالت الأعراب آمنا...)، رابعاً، إن كل هذه العوامل ساعدت «محمد بن عبد الوهاب»، على طرح أفكاره، مثلما كانت هي العوامل ذاتها التي ساعدت على قبولها وانتشارها في بعض أطراف شبه الجزيرة العربية، ولا نقول كلها. لقد لمس صاحب الدعوة أن الناس أخذوا ينسون تعاليم دينهم الحقيقية، وهذا هو السبب الرئيس في انحطاطهم الخلقي العام، ولكي تتم عملية إنقاذ الذين غرقوا في الآثام، لا بد من تنقية الدين نفسه واستعادة الشكل الذي كان عليه زمن الرسول والخلفاء الراشدين، لذلك كانت أولى القضايا العقيديّة التي طرحها صاحب الدعوة ، وهي، «التوحيد»، (9) كونه المحور الرئيس للإسلام، الذي يستطيع تخليص الإنسان من الانسياق وراء الأضرحة والأولياء وغير ذلك. وفي هذه الدعوة التوحيديّة، تأتي تعاليم «ابن تيمية» واضحة تماماً في بنية الحركة الوهابية الفكرية. لقد كان «ابن تيمية» من أتباع المذهب الحنبلي في الكلام والفقه، هذا المذهب الذي عارض كل المحاولات الرامية إلى إرجاع مبادئ الإسلام إلى نتائج الفعل الإنساني. ففي عهد»الحكم المملوكي»، واجهت «ابن تيمية» مسألتان أساسيتان هما: مسألة «نظام الحكم»، ومسألة»نظام الشرائع»، خاصة بعد أن أقفل باب الاجتهاد عملياً، واعتمد النظام المملوكي في تشريعه على قواعد التصرف بمقتضى الحال والعدل الطبيعي.(10) لقد استطلع ابن تيمية أن يحل تلك المفارقات في كل من «شرعية الحكم، ووحدة الأمة، وتنظيم الشريعة»، بجعله قوة الإكراه جوهر الحكم، (11) ولما كانت قوة الإكراه ضرورة من ضرورات المجتمع عنده، فهي تنشأ بفعل عملية استيلاء طبيعية، يضفي عليها عقد التشارك طابع الشرعية، وللحاكم، كحاكم، أن يفرض واجب الطاعة على رعاياه حتى ولو كان ظالماً، وذلك خير من الفتنة وانحلال المجتمع. ومن هنا عمل «ابن تيمية» على تبرير الحكم المملوكي، وفرض طاعته على الشعب بالإكراه، على الرغم من محاولته إيجاد تخريجة لرأيه هذا تقوم على مناجاة ضمير الحاكم بأن يحكم بالعدل على حد تعبيره. إن هناك فرقاً بين الحكم العادل، والحكم الظالم، فوظيفة الحاكم هي أن يفرض على رعاياه شرائع عادلة مستمدة من أوامر الله، ومستهدفة خير الجماعة الروحي والمادي.(12) والمسلمون عنده يعيشوا معاً بروح التساهل المتبادل، ولكن إزاء الفوارق في قواعد الإيمان الأساسية.(13) وبذلك أيضاً أصدر فتواه سيئة الصيت تحت رغبة الحكام المماليك، التي اعتبر فيها أن الفرق الإسلامية الأخرى غير السنية، وخاصة « الشيعة» أعداء المماليك. كما كان له شبهات في النصارى، حيث وجد فيهم خطاً سياسياً وفكرياً على السواء مع الشيعة. كتب ابن «تيمية»، في فترة اشتدت فيها أباطيل وأخطار العصبية، وضغط البدو على الأراضي الحضرية، حيث شكلت آراؤه احتجاجاً على العقائد الوثنية لدى البدو والجنود المماليك، الذين لم يعرفوا الإسلام ويمارسوه على حقيقته، لذلك جاءت تعاليمه رسماً للخط الفاصل بين الجاهلية والإسلام، بين العصبية والتضامن الديني.(14) ثم جاء بعده تلميذه «ابن قيم الجوزيّة»، الذي ثابر على تعاليم أستاذه وعمل على تطبيقها بكل صرامة. إن هاتين الشخصيتين شكلتا بالنسبة للحركة الوهابية مع المذهب الحنبلي، القاعدة والمنطلق لمعظم ما طرحته الحركة في بداية القرن التاسع عشر. لقد كتب «عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب»، يقول: (وعندنا أن الإمام ابن قيم الجوزيّة، وشيخه ابن تيمية، أحق ما حق من أهل السنة وكتبهما عندنا من أعز الكتب.).(15) أما المؤرخ المصري «ابن سند» فيقول: (إن الوهابية هم حنبليو الأزمان الغابرة.).(16) وفي العصر الحديث، قال «طه حسين»: (إن هذا المذهب... ليس إلا الدعوة القوية للإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية.).(17) هذا ونحب أن نضيف هنا حقيقة تاريخية، هي، أن «محمد بن عبد الوهاب»، لم يكن الوحيد الذي دعا إلى تجديد الإسلام في عصره، بل كان هناك غيره أيضاً ممن حمل عبء هذه الرسالة أمثال: «عبد بن إبراهيم بن يوسف»،(18). كما كان هناك فقيه صنعاء «محمد بن إسماعيل»، الذي دافع في كتبه عن الدين الخالص،، (19). كما كان في اليمن أيضاً فقيه يدعى: «محمد المرتضى»، الذي استنكر سلوك الدراويش والتصوف الطرقي، وهناك «لشوكاني» الذي تأثر بابن «تيمية»، فأوقف البدع والتزلف للأصنام، وربما كانت لهذا الداعية صلة ب»محمد بن عبد الوهاب».(20). على العموم، لقد وقعت بذور الدعوة الوهابية كما تبين لنا من كثرة الدعاة الإسلاميين الذين عاصروها، في تربة كانت مناسبة بهذا القدر أو ذاك لتقبل ونمو وانتشار هذا المذهب الجديد، كما نمت أيضاً، حيثما توفرت الظروف الأكثر ملاءمة لتحقيق الأفكار الاجتماعية والسياسية التي رافقت هذه الدعوة. إن التعاليم الوهابية تناولت بقدر كبير ميدان علم أصول الدين، ولكن بقي لها من الناحية السياسية والاجتماعية مضموناً أصيلاً لا جدال فيه بالنسبة للعصر الذي ولدت فيه كما سيمر معنا لاحقاً. المضمون الاجتماعي للحركة الوهابية: إن من يتتبع تعاليم الحركة الوهابية وأهدافها سيصل إلى تحديد أبرز معالم البعد الاجتماعي لهذه الحركة وهي: 1- لقد قامت الدعوة على تجسيد مصالح الوجهاء، فالجمهور البسيط يجب أن يخضع لأصحاب السلطة، وأن عذاب الجحيم نصيب كل متمرد.(26) اعتبر دفع الزكاة واجباً وليس مطلباً طوعياً، وبذلك جعلت الضرائب المركزية المفروضة لاستغلال السكان ومن بينهم البدو، مبدأً دينياً لا مناص منه.(22) 3- لقد قدمت الوهابية نظاماً دقيقاً جداً للتمويه على القهر والتفاوت الطبقيين، حيث اعتمدت في رؤيتها على حل التفاوت بين الحاكم والمحكوم بمطالبة الأمراء والحكام بالتعامل مع الرعية بالعدل، أي دعت إلى تنظيم القهر الطبقي من خلال الدعوة إلى التعامل بالحسنى مع العبيد والخدم والأجراء، كما كانوا يغازلون مشاعر الفقراء بمدح الفقر وذم الجشع، زاعمين بأن الفقير يدخل الجنة بصورة أسهل من الغني.(23) 4- كانت الدعوة تتجه إلى الوئام الاجتماعي انطلاقاً من حديث الرسول الكريم، (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.)، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، مثلما الرجل مسؤول عن رعاية بيته، وكذلك المرأة والخادم... الخ. وكل واحد من أفراد المجتمع مسؤول عما يكلف به.(24) عموماً كانت الحركة الوهابية دعوة أخلاقية في صلبها، صالحة لمختلف فئات المجتمع، وهي ذات بعد طبقي تصالحي. لقد أوصت الدعوة الوهابية أصحابها بالطيبة، والحرص، وتنفيذ الوعد والصبر، والصدق، ومساعدة الآخرين، وعدم الكذب، والنميمة، والثرثرة، وأدانت البخل والحسد والجبن وشهادة الزور، كما فصلت في المسلك الشخصي، كالضحك، والعطاس والتثاؤب، وغير ذلك.(25) بتعبير آخر، لقد كانت الحركة الوهابية إلى حد ما تتميز بالسمات الملازمة للحركات الشعبية الموجهة ضد الظلم الطبقي المفرط، إلا أن الظلم المنظم ظل قائماً فيها من خلال علاقات الاستغلال التي رافقت قيامها وحركتها. فكل التغيرات السطحية في آلية العلاقات الطبقية التي دعت إليها الحركة الوهابية، لم تستطع أن تغير من جوهر هذه العلاقات. أما مركز ثقلها فقد ظل متمركزاً في الميدان السياسي أكثر منه في الميدان الاجتماعي كما سنرى لا حقاً، وخاصة بعد أن التحمت بآل سعود. لقد اعتبر ت الوهابية جميع المسلمين المعاصرين لها والذين لا يؤمنون بتعاليمها أكثر شركاً من الجاهليين قبل الإسلام. (26) ومن هذا المنطلق قال «سليمان» لأخيه «محمد بن عبد الوهاب يوماً: (كم ركناً في الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب،؟، فقال خمسة، فقال «سليمان» بل أنت جعلتها ستة، السادس، هو من لم يتبعك ليس بمسلم، هذا هو الركن سادس عندك في الإسلام.).(27) لقد اتخذ التعصب عند الوهابيين لمذهبهم أشكالاً متطرفة جامحة، فكان اعتقادهم بأن خصومهم كفرة مشركين، ولا بد من عقابهم، كما صار التعصب وسيلة لانضباط وتلاحم الوهابيين، حيث استحثهم على تحقيق المآثر الحربية، والقيام بحملات وغزوات على المشركين المخالفين لهم، وبهذا وضعت المقدمات الفكرية لإعلان الجهاد ضد جميع المخالفين أو المختلفين مع الحركة الوهابية.