محمد بن عبد الوهاب يمكن اعتبار «كتاب «التوحيد»، الذي ألفه محمد بن عبد الوهاب، أول نص حديث في الإلهيات الإسلامية، فقد صدر بعدما انتظمت العقائد في قوالب كلامية وفقهية متحجرة، تبنتها مناهج التعليم كمدونات جاهزة طيلة عصور عديدة من تاريخ الإسلام. والقول بأن كتاب التوحيد أول نص حديث لا يعني أنه النص الوحيد، فهناك نصوص أخرى، من أهمها التعليقات التي أملاها رائد مدرسة التجديد الأفغاني على تلامذته والتي قدمها في كتاب «شرح الدواني للعقائد العضدية» ثم «رسالة التوحيد» لمحمد عبده، لكن نص محمد عبد الوهاب هو الذي حظي بالشهرة والانتشار وبالقدرة على التعبئة والاستقطاب. كانت الوهابية حركة ثورية متسلحة بالحماس الديني وبالشعور الوطني، انطلقت من نجد، واستطاعت أن تصل إلى دمشق شمالا وعمان جنوبا، ولكن في عام 1818 تمكنت القوات المصرية بقيادة محمد علي من سحق هذه الثورة، لكنها انبعثت من جديد في أوائل القرن العشرين تحت قيادة عبد العزيز بن سعود (1902-1953) الذي اعتنقها وتحالف مع قبائل نجد، مؤسسا بذلك المملكة العربية السعودية، حيث لم يتمكن المذهب الحنبلي، الذي تبنه الحركة الوهابية ودافعت عنه، من اكتساب سيادة إقليمية حقيقية إلا عندما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع آل سعود، ليقع تبنيه من طرف المملكة العربية السعودية كتشريع رسمي. تكمن إضافة محمد بن عبد الوهاب في باب الإلهيات في أنه ساهم في تجديد علم التوحيد، وذلك في ظروف تاريخية دقيقة. اتخذت هذه المهمة وجهتين: - وجهة عملية: تمثلت في تخليص التوحيد من التصورات الحسية والمشخصة الذي طبعت مضامين الفكرة في مجتمع الجزيرة العربية في القرن ال18، ومواجهة فاعلية الديانات المحلية غير الخاضعة لمركزة وتوسع الدولة السعودية. فقد كان بن عبد الوهاب مهووسا بعقيدة الشرك، فبالنسبة إليه من الممكن أن يقوم المسلم المؤمن ببعض الممارسات التي تكشف عن نقص إيمانه بالله وبالإسلام، وتفصح هذه الممارسات عن الاستعداد في الدخول في الشرك، وتؤدي بالتالي إلى إخراج الشخص من تحت جناح الإسلام. وظل يشدد باستمرار على أن لا طريق وسط أمام الإسلام، فإما أن يكون المؤمن صالحا أو لا يكون. - وجهة علمية: وتمثلت في الرد على قضايا علم الكلام الإسلامي التقليدي، خصوصا استئناف الرد على التوحيد الاعتزالي الذي اتخذ صورة عقلية خالصة في تناوله للذات الإلهية وصفاتها. لم ينشغل بن عبد الوهاب كثيرا، بما كان يشغل بال المسلمين في ذلك الظرف التاريخي من مجابهة التحدي المسيحي-الأوربي، بل كان فكره نتيجة مباشرة للمؤثرات البيئة التي نشأ فيها، فقد ترعرع بن عبد الوهاب في البادية، حيث البنيات الاجتماعية والإنتاجية بسيطة، والمؤثرات الأجنبية الوافدة ضعيفة إن لم تكن معدومة، وهي ظروف مناسبة لنشأة فكر لا تتطلب حلولا تركيبية ولا إضافات جديدة، لذلك كانت السمات العامة للفكر الوهابي هي: أحادية الطرح، القطع والحسم، والالتزام بمعيار ثابت وقيم متجانسة، بعكس الفكر التوفيقي التركيبي الذي ينشأ في مناطق العمران حيث يشتد التفاعل مع الثقافات الأخرى. لقد كانت الوهابية، إلى جانب حركات أخرى متأخرة نسبيا، النبض الوحيد الذي تبقى من حيوية الإسلام، خصوصا بعد تفكك الدولة العثمانية وتصاعد حركة المد الأوربي. ورغم ذلك، فإن انشغاله الأساسي كان مواجهة الفاعلية الدينية المحلية غير الخاضعة لمركزة توسع الدولة السعودية. وإذا انتقلنا إلى مستوى آخر، المستوى الداخلي للخطاب الوهابي، نجد ما استغرق كتابات بن عبد الوهاب هو المسائل الكلامية. وهنا نتفق مع عزيز العضمة حين يصف عموم الخطاب الوهابي بالبدائية والفقر وقلة الاطلاع، وكتاباته، إن قورنت بكتابات شيخه ابن تيمية، تبدو وكأنها تمارين كتابية هامشية بعيدة عن التمدن ومنقطعة عن التراث الفكري للإسلام، يظهر ذلك من خلال تكرار المقولات التيمية: الالتزام بظاهر النص، اعتبار التأويل بمثابة إشراك للإنسان في البلاغ، تكرار النصوص والاستشهادات الذي تحول مع بن عبد الوهاب إلى تكرار طقوسي هدفه تأكيد الارتباط الرمزي واللفظي بأجزاء محددة من الماضي، هكذا تعامل بن عبد الوهاب مع مقولات ابن تيمية كأنها مقولات موحى بها لا يمكن الشك فيها أو مجادلتها. لكن مع ذلك، فقد عالج بن عبد الوهاب بطريقة اختيارية متقدمة أعمال ابن تيمية، ذاكرا فقط ما أعجبه منها ومتجاهلا الباقي، فبخلاف ابن تيمية الذي ذهب بعيدا في الرد على المبتدعة والاعتناء بالمسائل الشرعية عن طريق الرد على القيود التي بالغ الفقهاء في وضعها للجم الاجتهاد في الأقضية والنوازل، اكتفى محمد بن عبد الوهاب بالرد على الأساطير الشعبية التي أضيفت إلى السنة والرد عليها بنفس الأسانيد التي احتواها التراث التيمي. لكن ما لا تخطئة العين الفاحصة هو ذلك الانبناء (structuration) الجديد الذي صيغت به الأفكار الوهابية، فبالرغم من حقيقة كون هذه الأخيرة فاقدة للأصالة من حيث مضمونها، فقد كانت لها قدرة بيداغوجية مهمة، بحيث قسم بن عبد الوهاب كتاب «التوحيد» إلى أبواب، خص كلا منها بجانب من عقيدة التوحيد، حسب الأهمية والأسبقية، وهو انتقاء موزون أعطى الكتابَ طابعا تبسيطيا مدرسيا أعاد من خلاله بن عبد الوهاب بناء فكرة التوحيد بشكل أعطاها قدرة بيداغوجية جعلت مضامينها مستساغة ومفهومة بالنسبة إلى الخاصة والعامة على السواء، فأصبح بذلك كتاب «التوحيد» المرجع الأساسي في عقيدة التوحيد عند السلفيين. رشيد رضا يحتل رشيد رضا مكانة استثنائية ضمن المرجعيات التي يحيل عليها النشطون السلفيون المعاصرون بما قدمه من تصور خاص تعددت فيه نقاط التقاطع والتنافر مع ما هو سائد في الإيديولوجيا السلفية. وقد لقي هذا التصور رواجا عند عدد غير قليل من الحاملين لهذا الفكر والذين رأوا فيه تجديدا مذهيبا (rénovation doctrinale) للوهابية يلائم مستجدات الوضع القائم. لقد عبر رشيد رضا عن أفكار السلفية وتناقضاتها وعلاقاتها المحيرة بالوهابية أكثر مما فعله عبده والأفغاني، ففي الوقت الذي يشكل فيه رضا الشخصية الوحيدة من بين رواد المدرسة الإصلاحية التي تحيل عليها الاتجاهات السلفية المعاصرة، فإن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي لا تتمتع بقبول جميع هذه الاتجاهات، ففي حين يكتفي البعض منها بالإشارة بكيفية عابرة، ينهج غيرها أسلوب الانتقاء فيشدد على البعض أفكار رضا ويترك ما يبدو لها صعب القبول أو الانسجام مع مقومات الإيديولوجيا السلفية في وحدة جامعة. فما هي الدواعي التي تبرر هذه المواقف تجاه تراث رشيد رضا الإصلاحي؟ يفيد تتبع مسار رشيد رضا الفكري تدرجا بين العديد من أشكال الفكر الديني، فبعد أن كان مريدا في الطريقة النقشبندية، اقتنع في مرحلة لاحقة بأفكار الإصلاحية الإسلامية عن طريق اطلاعه المتواصل على مضامين مجلة «العروة الوثقى». يشرح رضا التغيير الذي أحدثته فيه هذه المجلة بقوله: «إنها وجهت في نفسي السعي إلى إصلاح المجتمع الإسلامي بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي، وأرى أن الواجب علي أن أظهر في دروس العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر من المعاصي، وأنا لا أعلم سبب الفساد الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعله، ودفع بالمسلمين إلى مزالق الزلل حتى هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل. يتبع... عبد الحكيم أبواللوز - باحث في علم الاجتماع الديني المركز المغربي في العلوم الاجتماعية