الصيادلة يدعون لتوحيد الجهود ومواجهة التحديات الراهنة        الركراكي: الصبر والمثابرة أعطيا ثمارهما.. وأنا سعيد من أجل اللاعبين    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    محطة جديدة متنقلة لتعزيز تزويد ساكنة برشيد بالماء الشروب السلطات المحلية لبرشيد و الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء-سطات تدشن مشروع مهم في ظل تحديات الإجهاد المائي    يوعابد ل"برلمان.كوم": منخفض جوي متمركز بالمحيط الأطلسي غرب جزر الكناري وراء الأمطار التي تشهدها بلادنا    حاتم عمور يصدر كليب «بسيكولوغ»    أربع جهات مغربية تفوز بجائزة "سانوفي" للبحث الطبي 2024    ضعف التمثيلية السياسية والفساد وإشكاليات الاستقبال.. مرصد يوصي بالعمل على تجاوز العراقيل التي تواجه الجالية    فلسطين تعتز بالعلاقات مع المغرب    عودة يوسف المريني لتدريب هلال الناظور بعد 20 عاما من الغياب    تراجع أسعار النفط بعد استئناف العمل في حقل ضخم بالنرويج    معمل 'أكسام' في صلب التطورات العالمية لتغذية المواشي    بوتين يوسع إمكانية استخدام السلاح النووي من طرف الجيش الروسي    الشرطة توقف ناقل "حبوب مهلوسة"    نزاع حول أرض ينتهي بجريمة قتل    اتهمتهم بمعاداة السامية.. عمدة أمستردام تعتذر عن تصريحات تمييزية بحق مسلمي هولندا    اليونسكو تدرس ملف "تسجيل الحناء"    في تأبين السينوغرافيا    الشاعرة الروائية الكندية آن مايكلز تظفر بجائزة "جيلر"    المقاو-مة الفلسطينية: تصحيح المعادلات وكسر المستحيلات    ما هي الطريقة الصحيحة لاستعمال "بخاخ الأنف" بنجاعة؟    فريق بحث علمي يربط "اضطراب التوحد" بتلوث الهواء    ماذا سيتفيد المغرب من مليوني ونصف وثيقة تاريخية؟    وزارة الخارجية: 5000 كفاءة مغربية في الخارج وسنطلق قريبا آلية لتعبئتهم ودعم حاملي المشاريع    شيتاشن يفوز بنصف ماراثون ازيلال للمرة الثانية تواليا    مقتل 5 أشخاص في غارة إسرائيلية على بيروت وحزب الله ولبنان يقبلان اقتراحا أمريكيا لوقف إطلاق النار    افتراءات ‬وزير سابق ‬على ‬المغرب ‬وفرنسا ‬وإسبانيا ‬وأمريكا ‬في ‬قضية ‬الصحراء    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    حادثة سير مميتة بتارودانت تخلف أربعة قتلى        إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    يحدث هذا في فرنسا … !    ميناء الداخلة الأطلسي: مشروع استراتيجي يحقق تقدمًا بنسبة 27%    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    مجموعة صناعية دنماركية كبرى تفتح مكتباً في الداخلة لتطوير مشاريع الطاقات المتجددة في الصحراء المغربية    توقيع اتفاقية شراكة بين جمعية جهات المغرب وICLEI Africa    غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت وإصابات في تل أبيب إثر قصف صاروخي من لبنان    الصناعة الرياضية: من الملاعب إلى التنمية    زنيبر: الاضطرابات الناجمة عن كوفيد-19 زادت من تفاقم الآثار "المدمرة بالفعل" للفساد    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    العسكريات يسيطرن على التشكيلة المثالية لدوري أبطال إفريقيا    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    شركة سوفيرين برو بارتنر جروب في قطر تعلن عن انضمام مدير عام جديد إلى فريقها، لقيادة مسيرة التوسع وتعزيز التعاون الاستراتيجي، في خطوة طموحة تنسجم مع رؤية قطر الوطنية 2030    جمعية الإمارات لطب وجراحة الصدر تضيء برج خليفة في حملة توعوية لمكافحة مرض الانسداد الرئوي المزمن    كيوسك الثلاثاء | مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب في المركز 76 عالميا    جبهة مناهضة التطبيع تتضامن مع ناشط متابع على خلفية احتجاجات ضد سفينة إسرائيلية    المفوضية الجهوية للأمن بأزرو…استعمال السلاح الوظيفي من قبل شرطي لتوقيف متورطين في اعتراض وتهديد سائق أجرة    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    هند السداسي تُعلن طلاقها بخطوة جريئة وغير مسبوقة!    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسطوانة مشروخة
نشر في هسبريس يوم 05 - 08 - 2009


سبئيون، علقميون ، طوسيون ، صفويون ، مجوس...
""
إذا لم نكن نؤمن بأن حرية التعبير هي أيضا حق للذين نحتقرهم ،فهذا يعني أننا لا نؤمن بها تماما
ناعوم تشومسكي
ثم بلبل كيف قدّر!
إنهم أحفاد السبئي اليهودي..لا، بل إنهم أحفاد بن العلقمي..لا، بل إنهم أحفاد الغادر الخواجة نصير الدين الطوسي..لا، بل إنهم أحفاد العبيديين ..لا، بل إنهم أحفاد القرامطة..لا، بل إنهم أحفاد الصفويين..لا، بل إنهم المجوس..لا، بل إنهم شر من في الأرض جميعا..(لا، بل)..(لا ، بل).. بل .. بل .. فبلبل كيف قدر!
نحن إذن أمام هستيريا خطاب فقد كل معقوليته.. معذور في هذا الصياح ، لأنه بات يجد نفسه يخرج من حظ عاثر إلى آخر، كلما انفضحت فيه هذه التهمة أو تلك.. ألم يقولوا يوما للناس إن الشيعة لهم أذناب بقر حتى صدق كل عوامهم بذلك مثل البهاليل وكرسوا فيهم هذه القناعة إلى اليوم. حينما قالوا ذلك وصدّقهم عوامهم ، هذا يعني أن العقل المهيمن على المخاطب والمتلقي هو العقل الخرافي. كل اتهاماتهم هي من ذاك الطراز. هستيريا خطاب ونوبة طويلة لم يفيقوا منها في زمن كشف التحريف وإبطال الزيف وفضح المستور وفن وأخلاق الحوار. إنها تهم رخيصة لا تنتهي . لأنها لا ترتكز إلا على إرادة التشويه والإساءة والتزييف. وهي تقنية أسرف فيها خصوم الشيعة بصورة تبعث على الغثيان. يكفي أنها تجر حبل الإساءة وفي مفارقة تاريخية مهولة من عبد الله بن سبأ مجهول الحال وخرافي الأدوار ، الذي أظهرنا مهزلة أصل وجوده بالأحرى حقيقة أدواره ، حتى نصل إلى فرية أخرى أو بالأحرى صفة قدحية لا معنى لها : المجوس، الصفويون.. ولا يتثبتون قليلا لمعرفة الفروق والدلالات كأنهم لا يعرفون علم الأديان والمذاهب المقارنة. لو وجد بيننا شخص أهبل لا يهمه أن يكلف نفسه معرفة من يكون كل هؤلاء، فإنه حتما تتضخم صورة المؤامرة في ذهنه إلى حد الفحش. وهؤلاء هم المستهدفون في خطاب خصوم الشيعة. وعليّ أن أذكر بأنني أتحدث عن خصوم الشيعة ولا أعيّن مذهبا. لأن خصومة الشيعة مذهب آخر منفرد ومتفرد في نزعته الاستئصالية. وأصدقاء الشيعة من السنة الشرفاء هم من المصداقية والإمتداد ما يفضح خصومهم. وهم في طليعة الفضل لأنهم يعانون الأمرين من هذا الإنصاف الذي يجعلهم هم أيضا مستهدفين من خطاب التكفير والاستئصال كما لا يخفى. لقد حارب معاوية علي بن أبي طالب كما قال لمبعوثه إلى الكوفة ، بأناس لا يفرقون بين الناقة والجمل. وهو أمر واقع لأن مثل هؤلاء من تمكنت منهم الدعاية ضد علي بن أبي طالب حتى أنهم سبوه ولعنوه في المساجد وعلى المنابر وهم لا يعلمون حقيقة خصمهم. ما موقف هؤلاء السبابين اللعانين ، ليس ممن لعن علي بن ابي طالب من على المنابر ، بل من تراث تهندس تحت سمعهم وبصرهم ووفق حاجاتهم ومآربهم . وحتى لا أفهم خطأ ، لا أتحدث عن مدرسة السنة العريضة التي فيها وجهات نظر تصل إلى حد إنصاف الموقف الشيعي ، وليس بعيدا في مغربنا التراث السني لآل الصديق الغماريين . لكن ما يبدو غريبا هو كيف تعددت مصادر التشيع في حكاية هؤلاء الخصوم ، الذين هم بالأحرى ليسوا سنة ، لأنهم حاربوا المذاهب الثلاثة وأبقوا على الحنبلية وليس فقط الحنبلية بل وجهة نظر من داخل الحنبلية ثم قاتلوا وكفروا الصوفية ثم قاتلوا وكفروا عموم المسلمين الذين لا يروا رأيهم. واليوم تقية منهم يتحدثون باسم السنة. يختبؤ بعضهم خلف المالكية وقد حوصر وحورب المالكية في البلدان التي غلبوا عليها وكذا الشوافع. وكيف يكون الشيعة في ايران مجوسا فقط لأنهم قبل الإسلام كانوا على ذلك الدين. ونحن العرب على أي دين كنّا؟ هم عبدوا النار ونحن عبدنا الطين والأحجار أليس كذلك؟!.. بل لماذا لا يشمل كل أهل فارس في هذا الحكم وقد كانوا مجوسا.. ألم يكن أجداد الغزالي مجوسا.. ألم يكن والد البخاري مجوسيا قبل أن يسلم.. ألم يكن أجداد مسلم النيشابوري والترمذي والبيهقي والحاكم وكل بناة السنة ورعيلها الأكبر أحفادا للمجوس الفارسيين؟! لماذا فقط المسلمون الشيعة الفرس هم من يوصفون كذلك.. هل نعتبر فتح فارس فتحا فاشلا ؟! ما هي إذن قيمة فتح فارس في ميزان هؤلاء الذين يتغنون بالفتوح ؟؟ لقد كان هؤلاء الشيعة في ايران قبل أن يشيعهم العرب أنفسهم على مذاهب العامة. فما معنى إنهم حينما تشيعوا صاروا مجوسا بينما لما كانوا على مذاهب العامة كانوا مسلمين؟! نوّرونا يا عباد الله. وهذا ما لا نريد التوسع فيه. لأننا لا نريد إلا أن نزيل الصورة النمطية عن الآخر المسلم وعن الآخر الإنسان. فلو شاؤوا أن ننزل معهم إلى قاع القاع ، فإننا نملك فعل ذلك من الآن حتى تقوم الساعة ، وحينها سيولولون. ولكن أخلاقنا مانعة.. وحرصنا على وجدان الأمة الطيب مانع.. وغايتنا في هذا التوضيح أشرف من أن تدفعنا للغوغائية..هي محاولة للتقريب لا البعاد.. والذين يزعجهم التقريب هم أقلية تختفي خلف بحر من المسلمين بمن فيهم السنة وقد قاتلت السنة والشيعة والصوفية وعامة المسلمين كما هو تاريخها الأسود.. الشيعة هم مئات الملايين من المسلمين. والطائفة المسيئة ، والمحاربة لهم والمجدفة ضدهم بضعة آلاف من أتباع ابن تيمية الذي حاكمه الخليفة السني وليس الشيعي. اطمئنوا فلن نسيئ إلى مقدسات أحد. لكنني أتساءل : هل توضيح وجهة نظرنا في التهم الرخيصة ، يعتبر إساءة للمقدس؟!
لكن السؤال : كيف يكون التشيع سبئيا يهوديا ثم مجوسيا ثم صفويا ثم وثنيا ثم .. ثم.. على من تنطلي هذه الأوصاف الغريبة؟
لقد رأيت أكثر من استقبل غزو العراق المنكر من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، تنتابهم غواية أنكر ، تستمتع بلعبة خلط الأزمنة وتتحكم بأذهانهم نزعة الأشباه والنظائر إلى حد الفحش.. فقد التفتوا إلى تراث الغابرين بخفة نظر وقلة ورع.. واستدعوا من أحجيات القدامى ما لا يقبله لب ولا يستسيغه خاطر..وبينما عز عليهم أن يقرؤوا الأحداث بعين الحاضر ويستنبطوا العلل من الحوادث المحدقة بهم ومن معطيات معقولة وفاعلة في منطق الدول ومعاش الأمم، راحوا يقمسون بدلاء الجهل في صور ما مضى قبل قرون خلت لم تكن قد ظهرت الدولة الحديثة ولا حدث ما حدث في مسرح العمران البشري من انقلاب في الموازين وتحولات في النهج السياسي وتمخضات في الثقافة السياسية..وهب أن ما قد قاسوا حاضرهم به كان من صحيح ما أرخوا له ، إذن لعذرناهم وقلنا إن القوم مأخوذون بالتاريخ أخذ الممسوس أو المولع بغريب الإخبار. لكن مصيبتهم أن تاريخهم لا يزال محفلا للأغلاط المستقبحة وبؤرة للظلم الفاحش وصناعة للتحريف والتزييف.. فلنصحح تاريخنا قبل أن نزفه أنموذجا نقيس به حاضرنا البئيس..ولننظفه من آثار التزييف والتخريف والتهريج قبل أن ننصبه معمدا لوعينا المعاصر وشعرا نستقبح به ما نشاء ونهجو ونستحسن ونمدح به ما نشاء..حيث التاريخ غدا عندنا شعرا لا علما..تحيزا لا تموضعا.. تجديفا لا إنصافا..دينا لا وجهة نظر.. ولا أدل على ذلك مما نسمعه اليوم كطنين تصم له الآذان كل منصف ، من ترديد عبارات وكليشهات مغالطة متناقضة تفيض جهلا وكراهية وتفاهة: إنهم صفويون ، مجوس ، كسرويون وهو تكفير لأمة بكاملها وقاحة بلا أدنى مروءة وما شابه مما ناقشناه في مناسبات أخرى.. وهي شعارات ليس فقط أن بها مسّ عنصري هجين، بل بها مسّ تكفيري وكراهية تسعى لتوتير وضع أمة بكاملها ، بالتحريض الطائفي الذي نجحوا إلى حد ما في صبه على العراق صبا ومن ثمة على باقي البلاد العربية. وقد رأينا كلما حلت بفنائهم هزيمة منكرة ، وجهوا اللوم تلو اللوم إلى الآخر بدل توجيهه إلى أنفسهم.. وفي أحسن الحالات وجهوا لومهم إلى قريب يشاركهم التاريخ والدين والحضارة بدل أن يوجهوه إلى غريب يتربص بأوطانهم وسيادتهم الدوائر. وحينما أرادوا أن يجاهدوا على طريقتهم العبثية قتلوا المدنيين الشيعة وفجروا مقدساتهم بلا أخلاق ولا مسؤولية ولا ورع ولا مروءة .. بقدر ما يخنسون أمام الجنود الأمريكيين بقدر ما يطغون أمام أطفال العراق (بئس الفروسية ويا لها من شجاعة). كنت أرى في هذا التهريج أمرا خطيرا..فإن كنا لن نرحم أهل فارس ونعلق كل فشل الأمة عليهم ، فلماذا فتحناها ولم فرحنا بالقادسية أصلا ؟! وهل فرحتنا تلك كانت فرحة قومية أم دينية؟؟ فلنحدد مواقفنا ولنمحض مشاعرنا.. فنحن نرتكب في تعبيراتنا ما لم ترتكبه فارس.. لقد ندم بعض العرب على دخول فارس إلى الإسلام ، فليس من مخرج إلا أن نمحوا آثار فارس من لوح الوجود وربما ستتبعنا لعنة الايرانوفوبيا بعد ذلك حتى نفقد كل صوابنا. كما وجدنا بعض محترفي الكراهية يقول: علينا أن نطرد إيران من منظمة المؤتمر الإسلامي ومن اتحاد المسلمين..وهو يعتقد أن هذه الهيئات تستحق أن نحرم منها إيران!؟ ..إيران قائمة بذاتها لا بغيرها كدولة لها أكثر من رهان لو شاءت ذلك.. فالعرب هم الذين في حاجة إلى إيران وليس العكس..وهم اليوم يسعون بتحريضهم ذاك وتهريجهم إلى أن تختار إيران الاصطفاف في المشروع الأمريكي والصهيوني كما كان الشاه يوما يعربد فوق رؤوسهم ولا أحد امتلك الجرأة أمام الإمبراطور الجديد رضا بهلوي ولا أعتقد أن إيران بثقلها التاريخي والحضاري والجيو ستراتيجي تطمح أكثر مما تطمح إليه أي دولة صغيرة في الخليج العربي.. ندرك أن دعوى هؤلاء هي أبعد من إيران، لأنها مفضوحة في عناوينها ومفضوحة في تعبيراتها. فهي تقصد وتحاول عبثا القضاء على شيعة العراق: بتعبير آخر على الشريحة الأغلبية في العراق . إنهم لا يميزون بين أحد منهم حتى لو كانوا عربا أقحاح. ليتك تدرك المفارقة حينما تجدهم يستعينون بلبلوشي الايراني على اتهام الشيعة العرب . وليتك تدرك أن العقلية ذاتها التي تدعوا إلى طرد إيران من منظمة المؤتمر الإسلامي هي نفسها التي تدعوا إلى إمكان أن تتمتع إسرائيل بعضوية في جامعة الدول العربية. فالحديث عن الصفوية والخطر الإيراني هو تكتيك يخفي استراتيجيا كبرى ، هي عدم السماح للشيعة العرب بأن تكون لهم مكانة في دولهم حتى لو كانوا أغلبية فيها كما هو وضع العراق. وهي دعاوى تصرف الأمة عن التفكير في عدوها الحقيقي. فالذين يهجون الصفوية صباح مساء، هم أنفسهم الذين يهجون المقاومة اللبنانية ويتهمونها بالخيانة فيما يطبلون لقفشات جهادية تستهدف المدنيين في العراق وأفغانستان والجزائر. وكان على أهل العراق لا سيما سنتهم أن لا يستسلموا لهذه الدعوات المغرضة التي ورثوها عن العهد الصدامي أو جاءتهم من الخارج، لتزج بالعراق في عداوة دائمة مع جيرانه ، وتحويله من دولة قوية مستقلة حرة مسالمة إلى حربة في خاصرة الجيران. كأن صدام لم يعدم. وكأنهم يرسمون للعراق مغامرة لقادسية صدامية جديدة ، تغرق العراق في مصير مجهول من الحروب والتوترات. إن العراق هو أكبر من أن يخشى عليه إذا قامت دولته. والعلاقة بين العراق وإيران هي الضمانة الوحيدة لاستقرار المنطقة. وما نسمعه من تهريج وما ينسج من عناوين طاعنة في التخريف والبلادة ، هو محاولة غبية لتوتير مستدام للمنطقة. لا أريد أن أستطرد أكثر في هذا الموضوع . بل حسبي أن أقف عند فرية أخرى من فيض جهالتهم وتخريفاتهم ، التي استلهموها من تاريخ زاخر بالتزييف وملوث بالكراهية والتحرش العنصري والتكفير والكراهية ونزعة الاستئصال. ومنها أن رأينا بعضهم يقرأ في سقوط بغداد أمام الغازي الأمريكي سقوط بغداد نفسه أمام الغازي المغولي. وبينما تراءى لهم أن هذا السقوط ما كان له أن يتم لولا خيانة بن العلقمي، فسقوط بغداد اليوم لم يتم إلا بعد خيانة شيعة العراق بالجملة لا يهم حتى لو كانوا أغلبية أهل العراق التاريخ يعيد نفسه؛ هكذا قالوا . لكن الحقيقة هي أن الجهل يعيد نفسه في وعي الذين قرءوا الأحداث على أساس هذا النمط الهجين من التحليل الذي يعلن قطيعته مع شروط العصر وتناقضات المرحلة المعاصرة ويستند إلى قراءات إذا صح نهجهم فهي لم تصح تاريخيا وإذا صحت فلن يصح نهج الخلط بين أنماط العمران التاريخي.. أصبحت هذه الأكذوبة رائجة وتشاع بوسائل الإعلام حتى باتت شهرتها في الإعلام تفوق كل شهرة. في حين أن ذلك مهما كان لن يجبر كسر ضعفها الذي يعبر عن وجهة نظر من كانوا بالأمس كما اليوم يقفون مواقف سياسية ضد شيعة العراق أو إيران ، فوجهوا لهم تهمة الخيانة في سقوط بغداد. إن الذي يتحدث اليوم عن الصفوية باعتبارها عنوان التدخل الإيراني في العراق ، هم أنفسهم من يتحدث عن خيانة ابن العلقمي، وبالتالي عن شيعة العراق. تعددت العناوين والمقصود واحد: أن الشيعة شر سواء أكانوا عراقيين أو إيرانيين..أكثرية أم أقلية..وحدويين تقريبيين أو طائفيين..متدينين أو علمانيين..رجال دين أو مثقفين..فهل درى هؤلاء ما هو وجه الحقيقة في قصة التتار وسقوط بغداد قبل أن يملؤوا مشهدنا ضجيجا بهذا الزيف التاريخي؟!..
يرى البعض أنه لولا خيانة الوزير ابن العلقمي لما سقطت بغداد. حسنا، ولكنهم يرون أيضا في موارد أخرى بأن أمر التتار كان مهولا خطيرا. فلقد رسموا لهم صورة تكاد تدنو من الأسطورة، وكأنهم فرسان من الجن. فلئن كان الأمر كذلك فلم اللّوم على ابن العلقمي أو نصير الدين الطوسي. فإن صحت حكاية الجيش المغولي الذي لا يقهر ، كان موقف ابن العلقمي أو الطوسي المزعوم كذبة. وإن صحت حكاية "لولا خيانة ابن العلقمي لما سقطت بغداد"، كان تصويرهم للجيش المغولي الذي لا يقهر كذبة . فأيهما نختار؟
والحق أن المغول كانوا جيشا عرمرم سارت به الركبان، لا قبل لجيوش المنطقة حينئذ به. فلقد غزو الصين وبكين وألحقوا بها خسائر واستولوا على بعض من بلادها. لقد فتكوا وقتلوا ودمروا من دون رحمة. ثم إن الأمر لم يكن يتعلق ببغداد وحدها ، والتي بفضل العلقمي المتهم نفسه نجت من التدمير المغولي المتعارف . فلقد دمروا إمبراطورية خوارزمشاهية و قضوا على جيش جلال الدين بن محمد. وقد كانت خوارزمشاه تتمتع بقوة عسكرية كبيرة واصلت قتال المغول ومقاومتهم بلا جدوى. وكان جلال الدين مصرا على عدم الاستسلام فخاض معهم معارك وصلت إلى بلاد الهند. هذا بينما كانت بغداد تعاني من ضعف قياداتها وفساد الخلافة. وقد تنبه بروكلمان إلى فرية الخيانة ليقول بأن الخلافة بعد وفاة الناصر الموصوف بالحزم والهمة آلت إلى خلفاء ضعاف الظاهر بأمر الله ، والمستنصر بالله ، والمستعصم بالله ويقول بروكلمان:" والحق أن هولاكوا ما كان في حاجة إلى أن يحرض الشيعة من الفرس كالطوسي مثلا ، على قصد بغداد والاستيلاء على هذه الغنيمة الباردة".
والحق أن لا أحد يريد أن يقرأ التاريخ العربي والإسلامي قراءة سياسية. فإذا قبلنا بفرية خيانة ابن العلقمي وتسليمه بغداد ورأس الخليفة المستعصم للمغول، كان أولى أن نصدق بحكاية من قال أن الخليفة الناصر العباسي كان أول من اتصل بجنكيز خان وحرضه على غزو خوارزم لإشغالها عن الخلافة في بغداد بالحرب. وقبل أن نعود إلى بغداد والعلقمي ، يجدر بنا أن نتحدث عما اقترفه المغول في فارس. يحاول بعض المؤرخين أن يصوروا نوعا من التحالف كان قائما بين فارس والمغول. ولم يتوقفوا مليا عند الدمار الذي لحق بفارس من قبل زعماء المغول ومنسوب الفتك الذي ألحقوه بأبنائها. فارس كانت الضحية الأكبر للمغول. وما احتفاظهم بالطوسي إلا بعد أن لا حقوه وكان أسيرا بحصن ميمون في آلموت، بعد أن أمسكوا بنصير الدين وفتكوا في من كانوا يعرفون بالحشاشين يومها وقتلوا منهم خلقا كثيرا. وحيث أنهم قاتلوا هؤلاء وإن كانوا إسماعيلية ، فإننا نشير إلى أن أحد أحفاد هولاكو المدعو غازان وهو المغولي الذي تخلى عن البوذية واعتنق الإسلام كان قد اختار المذهب السني. وكان أخوه ألجايتو خدابنده قد تحول إلى التشيع فيما بعد. فالمسألة أكبر من كونها طائفية أو مذهبية . فالمغول كانوا غزاة وقد أسلموا بعد أن فتكوا بالمسلمين سنة وشيعة. هذا في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يعاني من تدهور شديد وضعف في قياداته وفساد سياسته. لكن ما قصة الخواجة نصير الدين الطوسي والعلقمي و المغول؟
إن الزج بالشيخ الطوسي وهو الأسير في هذه المؤامرة دونه خرط القتاد. بل يظهر من خلال الفحص أن التلويح بذلك له أسباب طائفية ومذهبية محض. لذا لم تجد عند المؤرخين الذين أرخوا لسقوط بغداد أي دور للطوسي في هذا السقوط مع وقوف بعضهم عند ابن العلقمي لأسباب سنأتي على ذكرها مع التحقيق. بل تجدها عند ابن تيمية حيث تناقلها بعض تلامذته كابن قيم الجوزية. وحتى ابن كثير حينما يروي قصة قتل الخليفة لا يتهم الخواجة نصير الدين بالصورة الجازمة التي سيتحفنا بها ابن تيمية على عادته في إطلاق التهم من دون تحقيق، بل اكتفى بقوله أن من الناس من يزعم أن الطوسي أشار على هولاكو بقتل الخليفة ، مردفا قوله بعبارة :"فالله أعلم". بل لعله استبعد ذلك لما أشار :" وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل". ثم أثنى على علمه وفضله . ومثل ذلك نجده عند من ترجم له من أمثال الذهبي وأبي الفدا ونظرائهما. وإذا كانت تهمة ابن تيمية للطوسي في هذا الجرم تصح ، كان علينا أن نصدق اتهامه بالكفر والإلحاد والزندقة وترك الصلاة وما إليها من تهم رجما بالغيب. ولا أدل على ذلك اعتراف من ترجم له من أهل العلم والسلف بالفضل والعلم والصلاح. بل لا أدل على ذلك أن ابن تيمية وصف غير الخواجة الطوسي بأنكر من ذلك وقد عرفوا بالفضل والصلاح أيضا عند أهل التراجم المعتبرين . ويكفي أن كتابات الطوسي في الإلهيات والتوحيد هي مما لا يرقى إليه نظراء عصره. وحسبك كتاب تجريد الاعتقاد الذي لا يزال قبلة المتكلمين ومتنا كثرت حوله الحواشي والشروح. وكان ابن تيمية قد وصف بأفحش الوصف تلميذا له هو ابن مطهر الحلي المعروف بالعلامة والذي وضع شرحا على تجريد الاعتقاد للطوسي ، وهو صاحب منهاج الكرامة الذي وصفه ابن تيمية بابن المنجس واتهمه بالشرك وما ترك من صفة مستقبحة إلا ونعته بها في كتابه منهاج السنة الذي هو في الأصل رد على كتاب نهج الكرامة للعلامة فيه من التحريف وبتر السياق وادعاء الاجماعات زورا وتصحيح ما لايصح من الأحاديث وادعاء ضعف ما صح من الأحاديث وغيرها من مهازله ما لا يخفى على خبير. لكن الطريف في الأمر أنه لما التقاه بالحج وأعجب بآرائه الفقهية دنى منه وسأله من يكون ، فقال له الحلي: أنا الذي سميته ابن المنجس ، فحصل بينهما كما يقال بعض أنس ومباسطة. إذا كان ابن تيمية يصف تلميذا للخواجة نصير الدين الطوسي بكل التهم وهو لا يعرفه ، فقس ذلك على موقفه من الخواجة نصير الدين الطوسي. هو الجهل إذن. لا بل الجاهلية نفسها. وفي الجاهلية يعتبر هذا مخالفا للمروءة.
أما ابن العلقمي الذي شيطنوه سياسيا ، فيحكي أبو الفداء في تاريخه وغيره أن فتنة جرت بين السنة والشيعة بالكرخ ، وكانوا روافض مثلما كان الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي رافضيا. فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش ، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد. ومع أن المؤرخ أبى الفدا اعترف بأن الخليفة فتك بأهل الكرخ وهتك نساءهم ، إلا أن هذا الربط بين الفتك بأهل ابن العلقمي وإطماع هولاكو ببغداد يبقى مجرد تهمة بلا دليل..فكان أحرى أن نقبل
شهادته ولا نقبل استنتاجه. غير أن الحديث عن الفتك بالشيعة بالكرخ مما تحدث عنه المؤرخون بصراحة كما لو كان قتل الشيعة أمرا طبيعيا. يقول الذهبي في تاريخه:
" وكان وزير العراق مؤيد الدّين ابن العَلْقمي رافضيّاً جلداً خبيثاً داهية ، والفتن في استعار بين السُّنَّة والرافضة حتى تجالدوا بالسيوف ، وقُتل جماعة من الروافض ونهبوا ، وشكا أهل باب البصرة إلى الأمير ركن الدُّوَيْدار والأمير أبي بكر ابن الخليفة فتقدّما إلى الجند بنهْب الكرْخ ، فهجموه ونهبوا وقتلوا ، وارتكبوا من الشّيعة العظائم ، فحنق الوزير ونوى الشّرّ " .
يحدثنا المؤرخون ليس آخرهم صاحب أعلام النبلاء عن الأوضاع الكبرى التي كان عليها وضع العالم الإسلامي أمام الاكتساح الكبير لقوى التتار التي غزت البلاد والعباد حتى أنها لم تستثن أحدا. وحتى وإن كان حديثهم عن سقوط بغداد يوحي بأنه ما كان له أن يقع لولا إطماع الوزير العلقمي لهولاكو بها فهذا مجرد تهم رخيصة لنا نظائرها في تاريخنا. فقبل بغداد اكتسح التتار إيران نفسها وقتلوا من الشيعة ما لم يقتلوا من غيرهم. يقول الزركلي:" وفيها سار الطاغية هولاكو بن تولي بن جنكزخان في مئة ألف، وافتتح حصن الالموت، وأباد الاسماعيلية وبعث جيشا عليهم باجونوين، فأخذوا مدائن الروم، وذل لهم صاحبها، وقتل خلق كثير" .
بل نجد صاحب سير أعلام النبلاء كما غيره يتحدثون عن المجزرة التي ارتكبت في حق الشيعة وكانت باعث لحنق الوزير ابن العلقمي. بل تجد من مبالغاتهم أن مؤامرة ابن العلقمي لقتل السنة، لا بل لقتل الشيعة واليهود والنصارى. وهذا تناقض فاحش. كيف يغضب ابن العلقمي للشيعة ثم يسعى إلى قتلهم بسيف التتار . يقول صاحب سير أعلام النبلاء وهو هنا مجرد نموذج لغيره من المؤرخين:
" وكان أبو بكر ابن المستعصم والدويدار الصغير قد شدا على أيدي السنة حتى نهب الكرخ، وتم على الشيعة بلاء عظيم، فحنق لذلك مؤيد الدين بالثأر بسيف التتار من السنة، بل ومن الشيعة واليهود والنصارى" .
وبات الوضع في الشام أسوأ. لم يكن هناك ما يمنع التتار من التقدم باتجاه بغداد ، كما لم يكونوا في حاجة إلى أن يطمعهم بها ابن العلقمي. ونجد هناك من التناقض فيما يقدمه المؤرخون بهذا الخصوص ، حيث من ناحية يحملون ابن العلقمي مسؤولية إطماع هولاكو ببغداد كما لو أنه كان غافلا عن المركز وتارة يتحدثون عن الأوضاع المزرية في دمشق والعراق وأن العسكر قاتل ولكنه انكسر. فالسؤال المطروح : هل كانت بغداد غائبة عن تفكير التتار حتى أطمعهم بها ابن العلقمي؟ هذا لا يصدق. وإذن بقي أن نقول هل خيانة ابن العلقمي تنحصر في إطار إطماع هولاكو بها أم أن المسألة تتعلق بخطة لإضعاف المقاومة؟ هذا لم يقل به أحد . والمؤرخون يقولون أن الجيش قاتل ولكنه انكسر، يقول الزكلي:
" وأما هولاكو فقصد بغداد فخرج عسكرها إليه فانكسروا" .
ولكن المؤرخين أيضا يؤكدون أن حربا في الكرح كانت قائمة في وقت كانت فيها البلاد مهددة بالغزو. وهذا مهم يظهر كم أن الحرب الطائفية النكراء تمكن الغازي من البلاد والعباد. ولو أننا سايرنا خصوم الشيعة في هذا التلبيس، فنحن إذن أمام حالة تستدعي تأملا كبيرا. ذلك لأن ابن العلقمي لو فرضا أقول لو فرضنا أنه تحت طائلة الغضب راسل هولاكو لهول ما رأى من الحملة على الأهالي الشيعة في الكرخ، فهذا موقف يجب النظر إليه بوصفه موقفا انفعاليا إنسانيا ورد فعل طبيعي ، يؤكد على أن دولة الظلم تفرز موضوعيا القابلية للاستعمار والضعف أمام الغازي. ففي كل المجتمعات وفي كل الأجيال يكون ذلك موقفا إنسانيا عاطفيا. ويضاف إليه أن موقف بن العلقمي لو فرضنا صحة السردية التي أسرف فيها خصوم الشيعة أقول لو فرضنا صحتها فإن ذلك لا يعني عموم الموقف الشيعي. وقد أكدنا مرارا أن الشيعة سواء في العراق أو باقي البلدان تعرضوا للفتك والقتل من قبل التتار أيضا. وكان يفترض أن يتحول ذلك إلى درس تاريخي مهم ، مفاده أن الحروب الطائفية هي وبال على الأمة وإضعاف لإمكاناتها في الاستقرار والاستقلال والنمو. ثم إن حالة الضعف والانهيار بدت على الدولة وعلى بغداد وعموم المنطقة قبل استوزار ابن العلقمي. ففي سير أعلام النبلاء نقرأ:
" ومات الوزير ابن الناقد، فوزر المؤيد ابن العلقمي والاستاذ دارية لمحيي الدين ابن الجوزي. ودخلت سنة ثلاث وأربعين: والحصار على دمشق وتعثرت الرعية وخربت الحواضر، وكثر الفناء"
اختلاط التاريخ كعلم بالتاريخ كأيديولوجيا
تصبح المشكلة أكبر حينما نتسامح في أحكام التكفير وفي أحكام المؤرخين. هذا ما حصل قبل أن يصبح تاريخنا هو الدين وليس مجرد علم بالماضي وجب النظر فيه مرارا ونقد الوثيقة بصورة تحرر التاريخ والوعي التاريخي من خطاب مفلس كخطابنا التاريخي المتخلف.
لم يقتصر الأمر في الكتابة التاريخية الهجينة على مؤرخين لهم تحيزات ومصالح فحسب ، بل ساهم في تكريس وجهة النظر التاريخية تلك، فقهاء ومحدثون من خارج الصناعة التأريخية. انظر مثلا أن ثمة نصوصا ظاهرة في غلوها وتحشيدها للتهم والأحكام بلا أدنى وازع علمي أو أخلاقي. نجد من تلك العينات التناقضية نصا لابن تيمية لا يزال يعتمل في رؤوس الكثير من أتباعه حتى اليوم ، وهو يشكل أزمة نص وأزمة وعي ، لأنه لا يزال سببا رئيسيا في صناعة الإرهاب. يقول:
" وَاَلَّذِينَ يُوجَدُونَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ الإسْماعيليَّة والنصيرية وَالدُّرْزِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ . وَهُمْ الَّذِينَ أَعَانُوا التَّتَارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ".
من علامات الإسراف في هذا النص أنه يتعدى حتى ما افترضه المؤرخون أنفسهم ، من أن دور ابن العلقمي فردي ، وهو لا يتعدى أن كاتب هولاكو. ولكنه لم يعن عليهم في القتال. وهناك من قال أنه نهى الناس عن القتال. وهذا ليس إعانة مع عدم صحة هذا الكلام. ثم المغالطة التاريخية التي نجدها في هذا النص تتحدث عن أن الإسماعيلية أعانوا على قتال المسلمين. مع أن أكبر ضحايا الغزو التتاري هم إسماعيلية ألموت، وهم من أوائل من دخل في مواجهات عسكرية باسلة ضد التتار. لكن ابن تيمية يقول على عادته في اتهام خصومه :
"وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَى التَّتَارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَقَتْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ . وَوَزِيرِ بَغْدَادَ ابْنِ العلقمي الرَّافِضِي هُوَ الَّذِي خَامَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَاتَبَ التَّتَارَ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ أَرْضَ الْعِرَاقِ بِالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ قِتَالِهِمْ ".
فتارة يتهم بنهي الناس عن القتال وتارة يتهمهم بالمساهمة في قتال المسلمين" وفي كل الأحوال لا يريد أن يستحضر حقيقة تاريخية لا ينازع فيها أحد ، ألا وهي أن الإسماعيلية خاضوا حربا شرسة ضد المغول وأن هؤلاء فتكوا بهم وقتلوهم ولاحقوهم في كل مكان وقتلوا أميرهم.
ويصور بن خلدون هذا الوضع بصورة تضعنا أمام هول الموقف، وأيضا اعترافا بشراسة المواجهات التي بدأت من فارس قبل أن يتقدم هؤلاء التتار إلى بغداد. يقول:
"بعث إليها جنكز خان عسكرا من التتر فخربوها ثانية وخربوا ساوة وقم وقاشان وأجفل امامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود اذربيجان ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان وبعث بهم إلى التتر الذين في اتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برؤوسهم وبالاموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده وسار جلال الدين إلى اذربيجان سنة ثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته ثم بلغ السلطان جلال الدين أن التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين ولقيهم على اصبهان وانفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر وانهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان واذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتا ولحق السلطان باصبهان بعد ثمانية أيام فوحد التتر يحاصرون اصبهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم واتبعهم إلى الرى وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان ورجع إلى اذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته والله سبحانه وتعالى أعلم [ مسير التتر إلى اذربيجان واستيلاؤهم على تبريز ثم واقعتهم على جلال الدين بآمد ومقتله ] كان التتر لما استقروا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها وبقيت خراسان خاوية واستبد بالمدن فيها طوائف من الامراء اشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان واذربيجان وأران وما إلى ذلك وبقيت خراسان مجالا لغزاة التتر وعساكرهم " .
لقد دخلت الأيديولوجيا على الخط. وحيث لم يعد الحديث هنا تاريخي بل أصبح جزء من الفتوى كما رأينا مع ابن تيمية في مجمل فتاويه ، يبدو لهذا السبب نقموا على بن العلقمي والخواجة الطوسي وجعلوا من تلك التهم المزيفة حقائق ودينا يجاهدون من أجله ويقتلون أنفسهم ويقتلون كما لو كانت الحكاية التاريخية تلك تعاليم دينية وليست وجهة نظر وأحيانا كثيرة حقدا واستئصالا كما ذكرنا مرارا.
يتعين إعادة النظر في الطريقة التي تم التأريخ بها لعلاقة بعض الأعلام ببعض الملوك والوزراء. لا سيما ما يتعلق بموقف نصير الدين الطوسي من هولاكو .هذا التوصيف المسرف الذي حاول توريط كل من الوزير العلقمي والخواجة نصير الدين الطوسي في مسؤولية سقوط بغداد فيه الكثير من المبالغة والتعسف والبهتان. كان الوزير العلقمي شخصا مولعا بالعلم وتشجيع العلماء على التصنيف والتأليف . ومن هؤلاء ابن أبي الحديد صاحب شرح النهج. حيث ذكر في أعلام الزركلي بالقول:" عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد، عز الدين: عالم بالادب، من أعيان المعتزلة، له شعر جيد واطلاع واسع على التاريخ. ولد في المدائن، وانتقل إلى بغداد، وخدم في الدواوين السلطانية، وبرع في الانشاء، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي."
وقد صنف له ابن أبي الحديد المعتزلي كتاب شرح نهج البلاغة ، الذي تضمن ما جمعه السيد الرضي من خطب للإمام علي ابن أبي طالب. حتى أن الوزير ابن العلقمي الشغوف بالعلم أعجب بكتاب نهج البلاغة وقال فيه أبياتا:
كلام إذا ما الدر قويس قيمة *** وحسنا به يوما فقد وصف الدر
وإن حير الأذهان تيها ، فإنني *** أنزهه عن أن أقول له سحر
وإن أسكر الألباب لطفا فإنه *** على ما أرى لولا طهارته خمر
وقد مدحه الشاعر كمال الدين بن البوقي بأبيات جاء فيها:
مؤيد الدين أبو طالب *** محمد بن العلقمي الوزير
يقول ابن الطقطقا صاحب الفخري بخصوص هذا البيت:
" وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعته"..
ويقول صاحب الفخري أيضا في وصف الوزير العلقمي:
" وكان مؤيد الدين الوزير عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزها مترفعا".
كما يذكر أن جميع أعوان الخليفة كانوا يكرهونه ويحسدونه بينما أحبه الخليفة. وينفي عنه صاحب الفخري أنه خامر حتى أن الفخري اعتبر أكبر دليل على عدم مخامرته تسليم هولاكو البلد إليه إشارة إلى سلامته في هذه الدولة. فلو كان قد خامر على الخليفة حسب صاحب الفخري لما وقع الوثوق إليه. وحينما يتحدث ابن الطقطقا عن لقاء الوزير العلقمي بالسلطان المغولي ، وتوسط نصير الدين الطوسي في هذا اللقاء يصفه :" وكان الذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين الطوسي قدس الله روحه.." .
والغريب أن ثمة من تقرب من التتار من أعلام العامة دون أن تلاحقه لعنة الخيانة. وحسبك موقف ابن خلدون من تيمورلانك التتري حيث قدم له استشارات غاية في الأهمية. وكان معه على صلة ولم يثر ذلك ما أثارت الصلة بين الخواجة وهولاكو على الرغم من أنها انعكست إيجابا على العالم الإسلامي وجعلت السلطان المغولي يتحول إلى خادم للعلم الإسلامي كما لا يخفى. وكان إيف لا كوست في كتابه عن ابن خلدون قد تحدث حول الصلة بين ابن خلدون وتيمورلانك:
"..لقد قدم المؤرخ المغربي للأمير المغولي وهو أسيره معلومات جد دقيقة حول عدد كبير من البلدان، وامتدح انتصاره بتفصيل بالغ، بحيث أنه تحول من أسير للفاتح إلى ضيف . وقد أخذ تيمورلانك بابن خلدون ، إلى الحد الذي جعله يقترح عليه ، ولكن عبثا ، الدخول في خدمته ، بصفة مؤرخ ومستشار" .
أجل لقد سعى الخواجة نصير الدين وقبله الوزير العلقمي عبثا إلى تجنيب بغداد كارثة محققة من قبل المغول . لكنهم في الوقت نفسه استطاعوا التأثير على سياستهم باتجاه استيعابهم واحتوائهم وهو ما يفسر أسلمة المغول لما أصبحوا جزءا من الحضارة الإسلامية كما تدل على ذلك آثارهم في العراق و إيران وسمرقند وغيرها من البلاد التي امتد إليها نفوذهم. غير أن ثمة ما يستدعي القول بأن الوضع الاستثنائي للشيعة في ظل السلطة الجائرة يومها ، يفرض عليهم مبادلة كل ملك أو وزير مكنهم من بعض حقوقهم أو أبدى المحبة لأهل البيت ، وهو أمر ممكن أن يتكرر في زماننا ، حيث موقف الشيعي يصبح إيجابيا مع كل من رفع عنهم الجور واعترف لهم بالحقوق وعاملهم معاملة على أساس المواطنة من دون تمييز. وليس لذلك معنى سوى أن مثل هذه العلاقة تتقوم بما يبديه هؤلاء من حسن المعاملة لا من حيث هي علاقة تآمرية ، فتأمل!
لم تسقط بغداد بالأمس على يد الحاكم المغولي بخيانة الوزير ابن العلقمي أو إشارة الخواجة نصير الدين الطوسي كما في الخيال الفقير لخصوم الشيعة. كما لم تسقط بغداد اليوم بسبب خيانة شيعة العراق أو إشارة من المعارضة العراقية. هذا من أسوأ الاختزالات. إن موقف ابن العلقمي فضيحة على خصوم الشيعة لأن جل المؤرخين اعترفوا بأن سبب موقفه ذاك مع فرض صحته ناتج عن غضبة تجاه إحدى كبرى المجاز ضد الأهالي الشيعة، لم تحترم فيها النفوس ولا الأموال ولا الأعراض. وجب أن يخجل مؤرخونا كلما ذكر ابن العلقمي لأنه يذكرهم بمجزة الكرخ وبالإبادة وسياسة التطهير الطائفي التي انتهجها خلفاء بني العباس وجعلوها جزءا من سياستهم. كل ما هنالك أن الاستبداد وسياسة الاستئصال والجرم السياسي المشهود ساهم في سقوطها اليوم مثلما أسقطها بالأمس. إن سقوط بغداد على عهد المغول جاء على إثر مجزرة الكرخ ضد الأهالي الشيعة. وسقوطها اليوم على يد الأمريكان جاء إثر المذابح والمقابر الجماعية التي مورست في حق الشيعة. لقد جربوا أن تحكم بغداد من غير الشيعة وإن كانوا أغلبية ففرطوا في الوطن وفي الأرض. فمن مصلحة العراق أن يتحمل الشيعة فيه المسؤولية ليحموه من التهديدات الخارجية ويرسوا فيه الأمن والاستقرار والسلم الأهلي بعد أن فشل فيه غيرهم، ويقضوا على الطائفية التي هم أكثر ضحاياها في كل تاريخهم. لكن بغداد بعد كل نكبة تنهض وتستوي على ساقها وترسم لها مستقبلا جديدا قبل أن ينقض عليها طاغية جديد فيوردها موارد القابلية للاستعمار. إن وراء سقوط بغداد دائما قصة طاغية معربد وملحمة طغيان فاحش. فمتى زهق الطغيان قامت بغداد شامخة ومتى حل بها الطغيان سقطت مرغمة ولو أمام جيش من ورق!
حكاية الصفويين !
ما أكثر ضلالات عالمنا الإسلامي في كل بلد وفي كل جيل. بل وهاهم في سعي حثيث في سبيل إيقاظ فتنة ملعونة ظلت منومة بالكاد حتى حين. بينما ظل رجالاتها خلايا نائمة بين ظهرانينا نعرف بعضهم أحيانا وما فتئ يفاجئنا بعضهم أحيانا أخرى بحماقات يندى لها الجبين. لعل أكبر دليل على أننا نشهد بذور فتنة عمياء، هو أنها لم تجد لها من سند يرفعها سوى الاستقواء بشخوص لا يعدوا أن يكونوا إما همجا رعاعا انكسرت عن ذكر شططهم أقلام العقلاء أو مغرضين طويت عند الحكماء سجلاتهم السوداء و تنزه عن محاججتهم الفضلاء. كما دل على ذلك استنادهم إلى أسلوب لا يعدو إلا أن يكون من جنس التجديف المردد المكرور، حفظوه بلا ملل عن ظهر قلب مغرض ونفس غير سوية . وعلى ضروب من تقنيات قلب الحقائق الواضحة كما مردوا على ذلك. و على صولة إعلام مضلل كلما زادت بضاعته واتسعت سوقه ضحّى بالحقيقة وساهم في التجهيل . فلا يهم فتنتنا الملعونة أمر الوقائع ولا منطق الأشياء. فالفتنة بطبيعتها صماء عمياء. وليسمح لي القارئ وليسمح لي السياب أن أقول إنها مومس عمياء. ورجالاتها ليسوا أهل إنصاف أو أهل وفاء للحقيقة. ولا حتى أصحاب إحساس إنساني يستحقون به الاصطفاف في نوع الأوادم . إنهم من جنس المجرمين أنفسهم الذين يؤسسون لثقافة الكراهية فيصبح حديثهم المغرض بؤرة لخطاب العنصرية والشوفينية والكراهية، تسير به ركبان السوء المسافات الطولى فيحتوي الجغرافيا ويتغنى به شعراء الفتنة جيلا بعد جيل فيستوعب التاريخ كله. إذا كان الموقف الإنساني والشرعي يقضي بأن تكون وظيفة المتشرع أو العاقل في الفتنة كما قال علي بن أبى طالب، "كابن اللبون لا ضرع يحلب ولا ظهر يركب".. وأن لا يصب الزيت في النار وينفخ كما تنفخ الشياطين فيما من شأنه إهدار طاقة الأمة والدفع بها حثيثا باتجاه مستقبل اقتتالي مظلم ، فإن الموقف الإنساني والشرعي أيضا ، هو أن يظهر العالم علمه متى اشتدت الفتن . لا ليكون لهذا ظهيرا أو لذاك خصيما، بل لإحقاق الحق وقمع الجهل وسورته التي يسعى الكثير من المغرضين أن ينفثوها هذه الأيام . اختار كل الشوفينيين والعنصريين والطائفيين قاموسا جديدا لمحاربة الشيعة في بلدانهم بما في ذلك البلاد العربية. و حتى لو كانوا وطنيين قدموا لبلدانهم ما يقدمه كل هؤلاء الذين باتوا يتحدثون عن الوطنية وعن العروبة ، ناسين بأن أكبر من أسس للتيارات القومية والتقدمية وتغنى بها حينا ، كانوا عربا شيعة. وقد كانت أكثر هذه العبارات التي باتت تتردد على مسامعنا وكأنها شتيمة أو تهمة ، من قبيل: هؤلاء صفويون..هذا غدر الصفويين..الخطر الصفوي..الاختراق الصفوي..حكومة الصفويين..الاحتلال الصفوي..التآمر الأمريكي الصفوي...
وقد صار ذلك وردا يتردد على ألسنة الكثير من محترفي تزييف الحقائق وصناعة الأكاذيب. وفي كل مكان ومن أكثر من وسيلة إعلامية.. وكيف تتقارب المسافة هذه الأيام فيصبح الخطاب موحدا مشتركا، لا تكاد تميز في العالم العربي بين خطاب تقدمي علماني وآخر متطرف يميني وثالث متأسلم سلفوي..كيف حصل هذا الإجماع بين عقول لا يجمع بينها خير قط ، إلا أنها اليوم تجتمع على شيطنة شيعة العراق خاصة والشيعة بالجملة.. وكيف يجتمع الخطاب اليوم في العالم العربي ضد الشيعة وتتقارب ثيماته ونبراته ونكاته في كل المواقع، سواء من على منابر المساجد أو في كونتوارات الحانات .. ويتحدث به إمام مسجد أو سكير مترنح على أرصفة الطرقات.. مثقف كبير أو أمي غارق في الجهل..كبير قوم أو عتل زنيم..حالة غريبة لا نكاد نفسرها إلا بشيء واحد ، أن شيطان الطائفية غير معني بالحقيقة ولا هو مستعد لكي يرى الأشياء كما هي أو يستمع إلى الكلام كله ثم يتبع أحسنه كما وصف الرحمان أو على الأقل أن يتبع أقربه إلى الحقيقة حتى لا يوغل في الطغيان. لا أريد أن أطنب زيادة فوق الحاجة، لأن ما يعنينا هنا أن نقف عند هذا الجهل العريض الذي تتم به صناعة الصورة النمطية عن الآخر الذي يشاركنا الدين والثقافة والمجال..كان الشيعة العراقيون قد تضرروا بما فيه الكفاية من السيارات المفخخة التي كانت تزف قتلاهم أمام مرأى ومسمع من العالم حتى بات العراق يغرق في الظلم والدم وصار الوطن عبارة عن مأتم كبير أولنقل غدا في عرس دم بامتياز..حتى أولئك الذين يحبون أن يظهروا الإنصاف موسميا اكتفوا بالتأسف وبعبارات لا تكاد تسمن ولا تغني من جوع . بل ، وفيها من الاستهتار بالدم العراقي ما يجعلهم لا يكلفون أنفسهم بوقفات احتجاجية، بقدر ما انزلقوا في تبرير ما نزل عليهم من جرائم ، بطرق مباشرة وغير مباشرة. وأقسموا أن لا يدينوا جهة ما بأسمائها..وهذا يذكرنا بمثال المجزرة التي ارتكبتها طالبان في حق الديبلوماسيين الإيرانيين وفي حق أهالي مزار شريف حيث برروا ذلك بالتدخل الإيراني في الشؤون الأفغانية ولم يكثروا الحديث ولا الاحتجاج حول مقتل أهالي مزار شريف.. مع أننا لم نر أحدا منهم دعى إلى مسيرة أو وقفة احتجاجية ضد كل الفظاعات التي ارتكبت في شيعة العراق شعبا وقيادات. لقد أطل رأس شيطان الطائفية ، ولكنه هذه المرة بوجهه الأقبح وصورته الأنكر. يذكرنا هذا في الحملة المسعورة التي رافقت الحرب العراقية الإيرانية. كان العراق يومها قد تراءى لبعضهم بمثابة حربة سنية في خاصرة إيران الشيعية. لا ندري من كانوا يظنون يومها شعبا في العراق. وهل حل اليوم شعب محل آخر. ألم يكن الشعب هو الشعب ، سوى أنه اليوم ظهر على حقيقته بغير الإخراج المزيف . كان الجيش الذي قاتل إيران مؤلفا من أغلبية شيعية. زج صدام بشيعة العراق ضد شيعة إيران ، لذلك تحديدا لم يكن يهمه أن يقتل ملايين من الشعبين ، لأن الأمر يتعلق بشيعة غير مرغوب فيهم ، بل هو أقل حرصا على جيشه الشيعي بالنسبة الغالبة والذي زج به في حرب استمتع بها طائفيا وأعاد صياغة الخريطة الاجتماعية والسياسية في العراق على حسابات طائفية دقيقة يدركها الشعب العراقي الذي اكتوى بنارها بينما فاتت المحلل العربي الذي ما كان له أن يدركها وهو لا يطل على واقع العراق إلا من خلال الصورة المخملية التي ترافقه عادة من قصر الضيافة حتى المطار وقصور صدام واحتفاليات بغداد الماجنة ، التي كانت تحجب بأضوائها الكثيفة ليل عراق آخر؛ عراق يساس بأعنف العنف..عراق الشمال أو عراق الجنوب أو عراق الشعب المسحوق المقموع المعذب..عراق أهالي الأهوار الذين لا زالوا قبل أن يجفف الطاغية الأهوار في أبشع جريمة بيئية وإنسانية ، يعيشون على طريقة الحياة القديمة في بلاد الرافدين، لم يشهدوا من آثار ومكتسبات الدولة العراقية الحديثة إلا أجهزة وأدوات التعذيب المتطورة التي كان يستورد صدام أحكمها وأقدرها على إهانة الإنسان العراقي وأكثرها تفننا في صناعة الموت العبثي..حيث لا زلنا لا ندري أي أسرار تحتاج إلى كل هذه الأجهزة و تقنيات انتزاع الاعترافات. فكل ما يمكن تصوره من اعترافات هو أقل من هول تلك الأجهزة والأدوات..ذلك هو عراق صدام الذي تخفيه ليالي عدي الحمراء واحتفاليات موسمية تقام على شرف الزوار الذين ساهموا في جنوح صدام، حينما رأوه كما أحب أن يروه ،هو العراق وليس العراق إلا هو!؟و لقد عبروا عنها حقا بعد إعدام الطاغية: اليوم، فقط وجب أن نقرأ الفاتحة على العراق.. الآن انتهى العراق!؟ هكذا حكموا على العراق بالموت والنهاية وقرؤوا عليه الفاتحة . لأن عراق القتل والديكتاتورية وعراق الكوبونات والمواسم المخملية ولى. أما عراق المستقبل ، فهو ليس عراق . لقد أقبر عراقهم مع الطاغية وما تبقى من عراق هو عراق الشعب العراقي . وهو بالتأكيد عراق غير مرغوب فيه وليس مغر لهؤلاء المرتزقة والحاقدين كما أغراهم عراق صدام حسين..ولا تغتر بأسفهم لكون العراق اليوم تحت احتلال هو حتما سيتخلص منه كما تخلصت أدنى الدول منه وأقل الشعوب رسوخا في التحضر.. فالاستعمار لا يدوم ولا يملك عناصر البقاء..لكن الديكتاتورية تبقى وتخلد ما دام هناك إرادة للطغيان ومرتزقة مستعدون أن يمجدوا الاستبداد في كل مكان.. ولك أن تقيس ذلك بنفسك ، وتخبر: من كان أطول عمرا في مجالنا ، أهو الاستبداد أم الاستعمار..وهل جاء بالاستعمار إلا الديكتاتورية ؟! ففي الوقت الذي كان صدام يعمل جاهدا لإدخال الكثير من العرب وتوطين الفلسطينيين في العراق كان يقوم بسحب الجنسية العراقية من العراقيين غير المرغوب فيهم . بهذه الطريقة عمل طاغية بغداد على محاولة تغيير الخريطة الطائفية في العراق وقام بطريقة خبيثة بأكبر عملية إبادة وتطهير في حق الشيعة عبر التهجير إلى الخارج أولا ، وعبر زجهم في حروب مدمرة ثانيا ، وعبر سحب الجنسية العراقية من المواطنين العراقيين ثالثا ..كان العراق في نظر هؤلاء سنيا. ولذا رأوا فيه حربة سنية في خاصرة إيران الشيعية ، رغم أن الذين كانوا على الجبهات يقتتلون هم شيعة البلدين.. إيران ليست دولة إسلامية..بل هي كسروية وساسانية وصفوية ومجوسية..ليس لأنها فارسية ، بل لأنها شيعية..هؤلاء ما فتئوا يحرضون ضد تقتيل الشيعة لأنهم شيعة حتى لو كانوا عربا ويمجدون بالسنة حتى لو كانوا فرسا..لا نريد أن نذكر بأرشيف كامل من الوثائق في فتاوى من كفر الشيعة وطالب بحرمانهم من حقوقهم المدنية والوطنية وهم عرب..يكرهون إيران الشيعية وليس إيران السنية التي قدمت كبار أعلام السنة وأئمتهم..بل وحتى لو أن الإيرانيين والوا أئمة أهل البيت العرب ، فإنهم سيحاربونهم بالسنة رغم أن أغلب أئمتها ورموزها هم إيرانيون، بدءا بأبي حنيفة وابن حنبل وانتهاء بالبخاري ومسلم و الترمذي والحاكم وأبى حامد الغزالي والطبري و..و..
لا نريد الاستطراد هنا أكثر. ولنعد إلى حكاية الصفوية التي أصبحت عنوانا رديئا يفيض جهلا في قاموس الطائفيين بعد أن جن جنونهم هذه واستأنسوا بمقدمات التطاحن الطائفي حيث هم لا يحسنون السباحة إلا في المياه العكرة. فمن هم يا ترى هؤلاء الصفويون الذين أصبحوا ممضوغات ممجوجة على ألسنة طائفية غبية.. وما هي الدولة الصفوية التي طالما أشار إليها بالبنان أمثال الدغيم وهو بالتأكيد ليس سوى مردد طاعن في الحفظ والتقليد؟ أقول : ليت إيران تكون مثل ما كانت، صفوية..وليت الإيراني يكون صفويا مثل ما كان أبناء صفي الدين..فمن يا ترى يحاول أن يزيف التاريخ ويمارس مهنة المؤرخ في أزمنة الظلام. فيقلب الحقائق ويدخل الرأي العام في معميات الجهل ..لماذا تشيطن كل ما هو إيراني..ولماذا تصبح إيران خطرا حتى لو شكلت عمقا إستراتيجيا للعمل المقاوم..ولماذا في نظر هؤلاء تصبح إيران حليفا لأمريكا وإسرائيل حتى لو أنها كانت في طليعة المواجهة للمشروع الأمريكي والصهيوني في المنطقة..ألا يطرح أحدهم سؤالا حول ما إذا كان هذا الهجاس الإيرانوفوبي دليلا على أن هناك من مرض بإيران ويحاول أن يصدر عدواه إلى العالم..وهل مشكلتهم الأنطولوجية مع إيران لها أفق ومخرج ممكن أم أن الحل لا يتحقق إلا بأن ينقرض أهل فارس ولا يبقى فوق البسيطة إلا عرباننا .. وهو لعمري العار الذي نحس به كعرب أن يكون بيننا من جنس هؤلاء العربان الشوفينيين الذين حولوا العروبة السمحة الشهمة الكريمة إلى شوفينية مجرمة أشبه بقطاع طرق..فتراهم يكرهون من إيران كل جميل..بل يجرمونها حتى على الزلزال الطبيعي الذي شهدته بعض مناطقها..جرموها جغرافيا وتاريخيا..وجرموها حضاريا وثقافيا ، كأن مجوسية كسرى كانت أضل من وثنية خرقاء عند العرب ..كما لو كان ذنبهم أن ماضيهم شهد أمبراطورية عظمى..يحاسبون إيران المعاصرة بألف ليلة وليلة من حكايات تاريخها القديم..حتى كان لا بد أن نؤسس في عالمنا العربي علم نفس الأدواء الإيرانية.. والحق يقال ، بل الحمد لله أن كان هذا المرض محصورا في بعض النخب وبعض وسائل الإعلام وشذاذ من الطائفيين..وأخشى لو قرأنا التاريخ خارج شوفينيتنا المقيتة لوجدنا أن محمدا بن عبد الله ص المنحدر من نسل إبراهيم ع كان فارسيا..ألم تكن بابل يومها فارسية..وأين كان العرب يوم لم يكونوا
عربا..وأين كانت الأعراق يوم لم تكن أعراقا..فكلكم من آدم وآدم من تراب.. وإذا عرفت أن هؤلاء يغالطون فيما هو واضح كالشمس في رائعة النهار ، فكيف نصدقهم فيما خفي على عامة الناس..إنهم يغالطون في المسلمات، فكيف لا تريدهم أن لا يغالطوا في الأمور المعقدة..ماذا فعل الصفويون حتى يستحقوا من هذه الشرذمة المغرضة كل هذا التشهير والتشويه ؟
كان علي شريعتي قد تأثر كثيرا بهذا التشهير وهو يتحدث عن التشيع العلوي مقابل التشيع الصفوي..ومع أن مقاربته ذات الأبعاد الاجتماعية والثورية كانت تتجه إلى إصلاح الشأن الإيراني الداخلي، حيث هو خطاب لن يكون له معنى حينما يتلقف من الخارج ، لأن غلبة الطقوسية على التشيع في إيران لا يعني أن التسنن في البلاد العربية ظل صافيا ومجردا عن طقوسيته أيضا..والمواقف الصفوية تجاه العثمانيين لا تحجب ما قام به العثمانيون أيضا في حق إيران والعالم العربي وبلاد البلقان في زمن الخلافة العثمانية التي يتباكى عليها هؤلاء الأيتام الذين أصبحوا يتباكون على كل أمر فاشل ويحزنون على كل مجرم ..ومع أن الصفويين دخلوا في مناوشات مع الأتراك إلا أن هذا لا يحجب عنا صورة الخيانة العظمى ، حيث دعمت قبائل ودول عربية سنية المحتل الإنجليزي في الحرب على الأتراك كما لا يخفى..لقد اصطفوا مع الإنجليز ضد تركيا ثم سرعان ما عادوا وتباكوا على آل عثمان..أجل ، فحينما تحدث شريعتي عن التشيع الصفوي ، فعل ذلك في سياق خاص كرجل ثوري ينشد الإصلاح في بلده . لكنه لم يعش في بلد عربي حتى يدرك معضلاته أيضا..لكن لا ننسى أن شريعتي اعتبر أن هناك عينات من التشيع العلوي داخل التشيع الصفوي وقدم أمثلة على ذلك ، منهم السيد شرف الدين الموسوي الذي ينعته الطائفيون بأبشع الصفات.. إن الاعتبار الذي أطر أحكام شريعتي ضد التشيع الصفوي هو نفسه الاعتبار الذي أطر حكمه بضرورة تحرير الحج ومكة من أسر التخلف والانحطاط ..يتحدث محمد كبيسي عن ذلك في وسائل الإعلام ويستشهد بشريعتي ويجعل منه واحدا من دعاة المخطط الإيراني القديم ؛ وبالتأكيد هو يقصد المخطط الكسروي أو الصفوي أو..أو..لم ينج حتى علي شريعتي من تنميطهم، وهو الذي قدم آراء مشهودة ضد الكسروية وضد الاستبداد وحتى ضد التشيع الصفوي..
ولم يحسنوا حتى قراءة علي شريعتي، بل اعتبروا ما قاله في موضوع تحرير الحج ومكة ضمن رؤيته الإصلاحية واللاطائفية ، وكذا في نظر أمثال الكبيسي، مثالا للنهج القرامطي، حيث زعموا أن القرامطة، استولوا على مكة وسرقوا الحجر الأسود..هكذا أصبح شريعتي قرمطيا في نظر دعاة الطائفية الجاهلية.. لكن أنا لي أن أصدق وقد كنا نسمع من الأفواه نفسها حكايات شبيهة ، إبان الحرب العراقية الإيرانية المشؤومة ، أن إيران تحاول أن تسرق الكعبة وتهربها إلى إيران.. لست هنا في وارد الدفاع عن إيران ، لأنني عربي أكثر من أي عربي أو عروبي مدع ، إذ موقفي سيكون ضد أي حالة من محاولات التنميط ضد شعوب مسلمة أخرى تركية أو أسيوية أو أفريقية أو أمازيغية أو كردية أو أوربية، أو عربية إذا ما تعرض العرب لهذا النوع من العنصرية.. بل هو بالأحرى دفاع عن عقلنا ووعينا من داء التخريف والهجر والاستقالة..إذ يفترض في الإخوة العراقيين أن لا يقعوا مرة أخرى في فخ التنميط التهريجي الذي يجعلهم يدفعون الثمن غاليا باستدعاء تخريفات زمن الحرب البشعة بين العراق وإيران.. ومن منطلق الدفاع عن الأمة كل الأمة وجب أن أدافع عن العرب وعن إيران وعن الأتراك وعن الأفغان وعن الأفارقة وكل القوميات والأقليات التي تنصهر في بوتقة العالم الإسلامي . الذين يزعجهم أن أدافع عن إيران ، عليهم أن يدركوا بأنني أدافع عن كل شبر من العالم الاسلامي الكبير ولا نفرط في أبعاضه الصغيرة فكيف نفرط في مراكزه الكبرى. فالتاريخ يعلمنا بأن أقدم علاقة تمت بين إيران والعرب كانت بين إيران والعراق..فمصلحة البلدين في أن يسود بينهما السلم والتعاون ، وأن تقرأ الأمور بينهما على أساس مقتضيات الجوار والمصالح والتداخل الثقافي والتاريخي بين البلدين وفي ضوء مفهوم الدولة الحديثة ومتطلباتها ، وليس أن نستدعي تاريخ الإمبراطوريات التي لم يعد لها مكان إلا في أذهان الحمقى الذين ما زالوا لم يستوعبوا إمكانات عصرهم..فإيران هي إيران اليوم لا إيران الكسروية أو الساسانية أو الصفوية..وهي حكومة بشر يحلمون ويفكرون ويصيبون ويخطئون كما هو ديدان سائر الشعوب والدول..مشكلة إيران هي مشكلة الآخرين إذن . بل هي مشكلة من لا يزال يتعامل معها بمتخيل تاريخي خرافي غارق في الصور النمطية القديمة..كما أننا لسنا هنا في وارد الدفاع عن الحكومة العراقية..وليس من الحكمة أن ندافع عن كل مواقفها وكل مبادراتها وكل برامجها صحت أو أخطأت..فنحن ضد التجديف والشطط والإسراف في إدانة حكومة يحاول الكثيرون أن يقولوا إنها ليست على شيء فيما هي على الأقل منتخبة من ملايين الناخبين العراقيين..ليتهم انتقدوا أداء حكوميا هنا أو هناك..وليتهم طالبوا برحيل الاحتلال وقاوموه بمنطق مقاومات الشعوب الحرة لا بمنطق المرتزقة الذين يقتلون ألف مدني آمن ليجرحوا جنديا أمريكا أو لا يفعلون.. فمستقبل العراق في أن يعيد إنتاج ثقافة سياسية تحدد علاقته بدول الجوار على أساس التعاون لا على أساس التحريض والتخويف. وتحدد علاقته بالداخل على أساس التوافق والمصالحة لا على أساس الاستئصال والتخوين للحكومة وغيرها إلا ما ثبت بالدليل.. إذا استوعبنا ذلك ، حق أن نتساءل : من هم هؤلاء الصفويون الذين تشيطنوا في وسائل الإعلام الجهولة ، وترددوا على أفواه أبالسة الطائفية المتعطشين لجريان الدم المسلم وغير المسلم في كل مكان وفي كل جيل ؟ في القرن الرابع عشر الهجري شهدت إيران نشوء حركة صوفية نشطة ، وتحديدا من أردبيل . وحتى ذلك الوقت ، لنقل حتى ورود صفي الدين لم يكن هناك ما يزعج القوم من هذه الحركة التي كان أحرى أن تكون تجربة صوفية ترقى ببعض رجالها إلى مصاف الجيلاني أو ابن عربي أو ابن الفارض..كما ترقى ببعض نسائها كما هو شأن والدة صفي الدين إلى مصاف رابعة العدوية وفاطمة القرطبية..لكن السياسة فعلت فعلها..فحينما تأسست الدولة واختارت الحركة التمذهب بالمذهب الجعفري هاجت النفوس وأصبح من السهولة بمكان شيطنة حركة من أهل التصوف..ولقد كان هؤلاء أكثر واقعية واعتدالا وذكاءا لما عرفوا أن الدول تتأسس على الفقه لا على محض التصوف ، فاستقدموا إلى إيران من المحققين والفقهاء العرب ما أغناهم في تأسيس الدولة..تحولت الحركة الصفوية من حركة أو لنقل طريقة إلى دولة بفضل الفقهاء..فلنقل أن السياسة وتأسيس الدولة الصفوية هو راجع للدور العربي، بينما كانت الحركة صوفية تربوية قبل هذا التأسيس..قصة هؤلاء بدأت إذن ، حينما اعتنقوا مذهب أهل البيت ، بعد أن كانوا شوافع..وبعد أن كانت هي الدولة الأولى التي أعلنت عن اعتناقها المذهب الجعفري دونما تقية أو تردد.. وبعد أن قامت بالدعوة لهذه المدرسة صراحة.. ولا غرابة إذن من عجرهم وبجرهم..فهم يعتبرون تقية الشيعة كذب كما يعتبرون صراحتهم وقاحة وكفرا صراحا ، باختصار هم يكرهون الشيعة كشيعة .هذه الحركة في الأصل هي حركة صوفية قد تحول أتباعها إلى الدعوة العلوية وأسسوا لهم دولة. إذا تجنبنا الحديث عن أول ملهم للحركة المدعو فيروز بن محمد بن شرفشاه الذي عاصر الدولة المغولية حتى صفي الدين عبر سلسلة من خلفاء طريقته ، سنكتشف أننا أمام شخصيات تركية بامتياز . فقد كان صفي الدين متولدا من امرأة متصوفة بلغ صيتها في التصوف مبلغا ، حتى كما قيل قورنت برابعة العدوية..لكن ما يجب قوله في المقام أن صفي الدين الأردبيلي كان سنيا ..يؤكد ذلك الكثير من الباحثين أحدهم مصطفى الشيبي الذي أكد وهو باحث سني رأي من قال بأن صفي الدين كان تركيا لم يثبت له من النظم بالفارسية إلا بيتا واحدا رواه رضا قلي هدايت. بدأ التدرج في التحول إلى الدعوة العلوية إلى أن بلغ ذلك أوجه مع التأسيس للدولة لا سيما مع إسماعيل الصفوي..إذا كان تاريخ الاحتكاك بين الدولتين الصفوية والعثمانية يكاد يجرم حركة الصفويين من طرف واحد وينسب لهم كل أشكال الغلو والتطرف ، فإن لا أحد يجازف لكي يدين تاريخ الأتراك العثمانيين في مجال الحرب المعلنة على كل التيارات العلوية في كل البلاد التي بلغتها السلطة العثمانية سواء في بلاد الشام أو العراق ..الأجواء الطائفية وما يصاحبها من انشحانات و عصبيات تحولت إلى ثقافة في العالم الإسلامي..لقد تحرش بإيران الصفوية كل من الأفغان والأتراك وتحالفوا ضدها لأسباب طائفية محض..الذين يتحدثون إذن عن فرس مقابل عرب ، يفوتهم أن حركة الصفويين قادها أتراك من أصول سنية في بداية دعوتهم..وقد كان من الأفغان ذوي الأصول الفارسية من حارب الصفويين ذوي النشأة التركية..لم يكن هؤلاء الصفويون هم من أدخل التشيع إلى إيران، بل إن الصفويين جلبوا إلى إيران علماء عرب من الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام..وكان المحقق الكركي الذي دعاه إسماعيل طهماسب ، هو الشخصية العلمية الأولى في إيران الصفوية وهو من جبل عامل اللبنانية..كما يجدر بنا ذكر علم كبير من أعلام الشيعة العرب وهو الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب موسوعة وسائل الشيعة، بالإضافة إلى شخصيات أخرى من هذا القبيل ..فالصفويون في أصلهم تركا وفي نشأتهم سنيون ، وقد نشر التشيع في إيران الشيعة العرب..وقد كانت إيران معقلا لأكثر التيارات الأموية غلوا حتى أن فيها من بقي على سنة سب علي بن أبى طالب من على المنابر بعد أن منعه عمر بن عبد العزيز..إن شيطنة الدول لم تكن غريبة عمن شيطن الأشخاص..فشخصية من أنصار العلويين من أمثال مؤمن الطاق الذي عرف بالصلاح والعلم يسميه أصحاب هذا المزاج السيئ شيطان الطاق..وما تكرير هذه النعوت وإيرادها في سياق التآمر على الإسلام بما يوحي أننا أمام حركة خارج الملة وليست مشمولة في التاريخ والعالم الإسلاميين ، إنما يراد منه التلبيس على من ليس له إلمام بالتاريخ الإسلامي، الذي يحتاج إلى مراجعة تنفض عنه أهواء المؤرخين وتحرره من القراءات ذات النزعة العصبية الطائفية..أجل ، لو كانت هذه الدولة الصفوية متعصبة لقوميتها الإيرانية لما حاولت أن تجعل أئمتها من بني هاشم ولا نسب أصحابها أنفسهم لبني هاشم، ليؤكدوا بذلك على نسبهم العربي..وكان أحرى بهم أن يكونوا سنيين حيث أعلام السنة ومؤسسوا مذهبهم خرجوا من طوس ونيشبور وترمذ ...بل كان أحرى أن يكونوا أحنافا أو حنبليين ، مادام الشيخان من فارس..وكان أولى أن يتبعوا المحدث البخاري السمرقندي أو مسلم النيشبوري أو الترمذي وهم من فارس..بل كان أولى أن يكونوا غزاليين طوسيين كما هو مسقط رأس أبي حامد الغزالي الذي عبر عن مواقفه ضد الباطنية..فحتى ورود الدولة الصفوية، كان أعلام التشيع عربا وفقهاءهم عربا..فأين يذهب المهرجون الذين اختزلوا التشيع في الحركة الصفوية وخلطوا وضربوا أخماس بأسداس حتى باتت الصفوية في نظرهم ليست شيئا آخر سوى الكسروية و المجوسية..ويكفي ذلك دليلا على أننا أمام شكل من أشكال الانحطاط في وعي صانع الصور المغالطة وتشوه في وعي المتلقي الذي لا يحاكم أولئك الذين يستخفون بوعيهم وعقولهم وما أكثرهم..فالدولة الصفوية هي الدولة التي مكنت للعرب من التغلغل في إيران ، بل هي حركة كادت تؤدي إلى تعريب إيران..وقد وجد العرب ضمن نخبها السياسية والعلمية ، بل قاتل الكثير من العرب في صفوف الجيش الصفوي ضد العثمانيين.. التاريخ يفضح السياسوية المقيتة..لكن بشرط أن يقرأ كما هو لا كما تشاء أهواء المؤرخ، لا سيما إذا أضاف إلى هواه ، سذاجة، تجعله يحفظ متونا تاريخية لا أن يقف على حقائق تاريخية يتعين نقدها وإن اقتضى الحال مراجعتها..وإلا فإن الغريزة الطائفية تجعل التاريخ وظيفة تافهة للتحريض والتجهيل..بل كما في مثالنا المذكور تجعل زعيما ذي أصل تركي كصدام رمزا للعراق العربي ، وتجعل الصفويين الأتراك رغما عنهم كسرويين..لعل جهل هؤلاء لم يفرض عليهم سؤال : أين كان أجداد صفي الدين التركي لما كان كسرى يعربد في الجزيرة العربية ويوم كان الفرس مجوسا.. أجداد صفي الدين لم يكونوا كذلك..سيقولون إن ابن المقفع والبويهيين و الصفويين وما شابه كسرويون ومجوس فقط لأنهم إيرانيون .. لكن هل يجرءوا أن يقولوا يوما إن مسلم والبخاري والترمذي والغزالي و الشهرستاني والطبري وأمثالهم مما لا يعد ولا يحصى من أعلام السنة ، هم أيضا كسرويون ومجوس فقط لأنهم إيرانيون وأجدادهم كانوا مجوسا؟! بل إنك تجد منهم من كان أبوه مجوسيا في مرحلة من عمره قبل أن يدخل في الإسلام ، مثل والد المحدث البخاري صاحب الصحيح؟! أجل لن يقولوا ذلك ولن يجرءوا عليه ..ولا نريدهم أن يقولوا ذلك أو يجرءوا عليه .. لأن ذلك عين الخطا، وصميم البهتان.. بل نريدهم فقط ، أن يكفوا عن التعبير عن شوفينيتهم المقيتة و البوح بعنصريتهم التي تكاد تزول من هولها الجبال..حتى يعلموا أنهم يرددون ما جاء في أسطوانة مشروخة ساهم الدجل في صناعتها ويسر الجهل قبولها..فلعن الله تأريخا كتب على أديم الجيف وخطته أنامل سكرانة وحفظه المجدفون!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.