كان هذا هو السؤال الذي طرحته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية على عدد من المفكرين البارزين عبر العالم، ممن قدموا توقعاتهم حول النظام السياسي والاقتصادي العالمي بعد القضاء على فيروس كورونا، لنستمع إليهم قبل التعليق. من أبرز من استقصت المجلة آراءهم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفن والت، الذي توقع أن تعزز هذه الجائحة من قوة الدولة القومية، ومن الانتماء الوطني أيضا، كما توقع أن تسرع هذه الجائحة من وتيرة انتقال النفوذ والتأثير العالمي من الغرب بقيادة أمريكا، إلى الشرق بقيادة الصين. وفي تقدير والت، فإن الشيء الذي لن يتغير هو استمرار النزاعات الدولية، لكن مقابل تراجع مستوى العولمة، خصوصا وأن تخبط أوربا وأمريكا في مواجهة الفيروس قد لطخ سمعة النموذج الغربي. وفي المجمل، يتوقع ستيفن والت عالما أقل انفتاحا، وأقل نموا، وأقل حرية. استمعت المجلة أيضا إلى روبين نيبليت، مدير مركز «تشاتام هاوس» البريطاني، الذي يرى أن الفيروس قد يكون القشة التي ستقصم ظهر العولمة الاقتصادية، على اعتبار أن الصعود الاقتصادي والعسكري للصين قبل سنوات حفّز أمريكا على فك الارتباط بها، ودفعها إلى حشد التكنولوجيا والملكية الفكرية لفك نفسها عنها. يتوقع نيبليت أيضا أن تعمل الدول والشركات والمجتمعات على تعزيز قدراتها على الصمود لفترات طويلة من الانعزال على الذات. فكرة الانعزال الذاتي للدول، أكدها ريتشارد هاس، الدبلوماسي الأمريكي السابق، الذي توقع أن تلجأ إليها معظم الحكومات عدة سنوات بعد كورونا، مقابل البحث عن الاكتفاء الذاتي، وربما رفض الهجرة بأعداد كبيرة. ويتوقع هاس أن تلحق الجائحة مزيدا من الأضرار بالعلاقات بين أمريكاوالصين، وأن تضعف التكامل الأوربي. فكرة تراجع النفوذ الغربي تبدو قناعة مشتركة لدى جل مفكري الغرب، بمن فيهم منظر القوة الناعمة، جوزيف ناي، الذي سارع إلى القول إن أمريكا بحاجة إلى استراتيجية جديدة، وأشار أنه في 2017 أعدت إدارة ترامب استراتيجية جديدة للأمن القومي تقوم على حالة التنافس الشديد بين القوى العظمى، مؤكدا أن كورونا أظهر فشلها. وتوقع ناي أنه في حال استمرار أمريكا قوة عظمى، فلن يكون في وسعها حماية أمنها بالتصرف بفردها. العالم يتجه نحو عولمة على المقاس الصيني، هذه هي قناعة الأكاديمي ووزير خارجية سنغافورة السابق، كيشور محبوباني. فالفيروس قد يتسبب في تغيير بوصلة الاقتصاد العالمي، بتسريع تحول بدأ منذ فترة، ويتمثل في انتقال مركز العولمة من أمريكا إلى الصين. والسبب هو فقدان الأمريكيين الثقة في العولمة والتجارة الدولية، لاعتبارات تاريخية محضة، ما يضع أمريكا أمام خيارين؛ إما أن تستمر في هيمنتها على العالم، ما يلزمها بتفادي أي صراع جيوسياسي مع الصين، وإما أن تركز على تحسين عيش شعبها، ما يفرض عليها التعاون مع الصين. لكن، على خلاف الأصوات التي تبشر بنهاية النموذج الديمقراطي الغربي /الأمريكي، هناك أصوات قالت خلاف ذلك للمجلة. أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة برينستون، جون إيكنبيري، دافع عن هذا الرأي، وقال إنه على المدى القريب قد تعزز الجائحة قوة القوميين، ومعارضي العولمة، وأعداء الصين في الغرب، أخذا بعين الاعتبار الخسائر الاقتصادية وآثارها على الوضع الاجتماعي. لكن، على المدى البعيد، ستجد الديمقراطيات الغربية نفسها مجبرة على تطوير شكل جديد من العولمة، أكثر برغماتية، وأكثر حماية للدول. وهو الطرح نفسه الذي انحاز إليه الدبلوماسي الهندي ومستشار مجلس الأمن القومي سابقا، شيف شانكار مينون، بقوله: «ستتغير سياساتنا بسبب كورونا، سواء داخل الدولة أو بين الدول، لكن نجاح الحكومات في التعامل مع الأزمة سيقلل من القلاقل الأمنية ومن الأزمات». وسجل مينون أيضا أن التجربة أظهرت أن الحكام الشعبويين والديكتاتوريين لم يظهروا مهارات لافتة في التعامل مع كورونا، واعتبر أن أفضل التجارب جاءت من كوريا الجنوبية وتايوان، وهما دولتان ديمقراطيتان. ثانيا، أن الفيروس ليس دليلا على نهاية الاعتماد المتبادل، بل العكس، فهو نفسه دليل على تشابك وتداخل الأنظمة، لكننا قد نتجه بعد الأزمة إلى عالم أكثر انغلاقا وأكثر فقرا. ما يمكن استنتاجه مما جاء على لسان هؤلاء المفكرين وغيرهم ممن نقلت «فورين بوليسي» آراءهم، غلبة الرؤية التشاؤمية التي تبشر بنهاية النموذج الليبرالي والديمقراطي، لصالح النموذج الصيني، المنفتح اقتصاديا والمنغلق سياسيا، أي ازدياد الحاجة إلى الدولة القوية، في ظل تنامي القوميات، مع تراجع الرغبة في الحريات والديمقراطية، وهو السيناريو الذي عبر عنه الأكاديمي ستيفن والت بقوله: «سيكون العالم أقل انفتاحا، أقل نموا، وأقل حرية». لكن، إذا افترضنا جدلا أن النموذج الديمقراطي يعيش أزمة، وأن النموذج الصيني يمارس إغراء فعليا على الدول، خصوصا التسلطية منها، فهل يشكل بديلا مقنعا للنخب والشعوب؟ لا أعتقد ذلك حتى الآن.