في 1993 أعلن صامويل هنتنغتون (Samuel P.Huntington) في مقالة أشبه بالنبوءة نشرته مجلة «Foreign Affaires» أن مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت، "وفي هذا العالم الجديد لن تكون المصادر الرئيسة للصراع اقتصادية أو أيديولوجية في المقام الأول؛ فالانقسامات العميقة بين البشرية والمصدر المهيمن على الصراع ستكون ذات طابع ثقافي". وهذه الأطروحة رد بها هنتنغتون على أطروحة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لتلميذه فرنسيس فوكوياما. وبعد مضي حوالي عقدين على نبوءة هنتنغتون ها هي نبوءة أخرى تقف على طرف نقيض منها تقول ب "انصهار الحضارات"،ففي مقال مشترك بالعدد الأخير من «Foreign Affaires» ذهب الكاتب الذائع الصيت، كيشور ماحبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسات العامة في سنغفورة، وصاحب كتاب "التلاقي العظيم"، ولورانس سومرز، الأستاذ بجامعة هارفرد والمستشار الاقتصادي السابق لأوباما، إلى أنه رغم نذير صموئيل هنتنغتون، فإن ما حدث خلال الأجيال الأخيرة ليس صراع الحضارات، إنما انصهار الحضارات. ولتوضيح الأمر ، يقول ماحبوباني وسومرز إن الحضارات العالمية العظيمة التي كانت منفصلة ومتميزة بهويات، لديها الآن على نحو متزايد نطاقات متداخلة من القواسم المشتركة. ومعظم الناس في جميع أنحاء العالم الآن لديهم الطموحات نفسها كما الطبقات الوسطى الغربية. وينبغي على الغرب، في نظر الكاتبان، الاحتفال بنجاحه الاستثنائي في حقن الحضارات العظيمة بالعناصر الأساسية لنظرته إلى العالم. وللدفاع عن أطروحتهما استطرد الكاتبان، بنظرة تفاؤلية، في سرد شواهد على التقدم الذي عرفته البشرية منذ عصر الأنوار إلى يوم الناس هذا. ثم انتقلا إلى الرد على أصحاب النظرة التشاؤمية، الذين يتحدثون عن ثلاثة تحديات قائمة تواجه هذا الانصهار الحضاري، وهي: الاضطرابات في العالم الإسلامي، وصعود الصين، والجمود الاقتصادي والسياسي في الغرب. لكن التشاؤم لا مبرر له، لأن أيا من هذه التحديات الثلاثة ليس من الذي لا يمكن الاستجابة له. بخصوص تحديث العالم الإسلامي اعتبر الكتابان أن الإسلام يتوافق مع الحداثة عكس ما يؤكده البعض، فتشييد ماليزيا برجي بتروناس، وتشييد دبي برج خليفة، لم يكن، في نظر الكاتبان، إقامة هياكل مادية فحسب، إنما أيضا رسالة مفادها: نريد أن نكون جزءا من العالم الحديث على جميع المستويات. ومن مظاهر التحديث التي يشهدها العالم الإسلامي، تعليم المرأة، ففي الجامعات الماليزية تفوق نسبة النساء نسبة الرجال، 65% مقابل 35%. وحتى الدول التي كانت مترددة في تبني التحديث مثل السعودية، وقطر، والإمارات بدأت تأخذ بأسبابه. وعن اختيار عدد من الشباب في العالم الإسلامي التمرد على العالم الحديث بدل الاندماج فيه، أشار محبوباني وسومرزفي المقابل إلى وجود 200 مليون شاب في ماليزيا وحدها غير متطرفين ويعيشون بسلام ومندمجون في العالم الحديث. كما أن أكبر منظمة إسلامية، نهضة العلماء، والتي يبلغ عدد أعضائها 50 مليون عضو تحدت علنا أفعال داعش وايديولجيتها، في إشارة إلى الحملة الإعلامية التي قامت بها هذه الجمعية وأطلقت عليها"رحمة الإسلام في أرخبيل الملايو"، ووصفها القائمون عليها ب"ثورة ذهنية". وخلص الكاتبان إلى أن التحدي الحقيقي، ليس العالم الإسلامي في حد ذاته، ولكن معرفة كيفية دعم الاتجاهات المؤيدة للتحديث في هذا العالم حيث يوجد تيار متطرف. وحمّل محبوباني وسومرز الغرب المسؤولية على صمته عندما كانت السعودية تزيد في عدد المدارس المتطرفة عبر العالم. ودعا الكاتبان إلى استثمار مماثل بإقامة مدرسة جيدة حديثة قرب كل مدرسة متطرفة لنشر قيم التنوير، على أن تتعهد بهذا البرنامج اليونيسكو واليونيسف. أما التحدي الثاني الذي يخشاه البعض، وهو صعود الصين، ففي نظر الكاتبان، يمكن النظر إلى النجاح الذي حققته الصين على أنه انتصار مطلق للغرب. لقد أدرك الصينيون أن استيعاب الحداثة الغربية في مجتمعهم كان له دور حاسم في بعث بلدهم. لقد أصبحنا على مسافة طويلة، يقول الكاتبان، منذ أن تحدث ماو علنا عن إمكانية كسب حرب نووية، فالتاريخ الصيني يشير إلى إن بيجين تفضل في نهاية المطاف الانضمام إلى، وليس استبدال أو رفض، النظام الحالي القائم على القواعد التي وضعها الغرب. إن الصين لديها الكثير لتخسره من انهيار النظام الاقتصادي العالمي. و تاريخيا فإن ما يخشاه الصينيون أكثر، هو (الفوضى). ومع كل هذا يقر محبوباني وسومرز أن المجتمع الصيني لن يصبح نسخة طبق الأص لمن المجمتع الغربي، فالثقافة الصينية أغنى من أن يستوعبها عالم ثقافي آخر. والتحدي الثالث والأخير، وهو الشعبوي المتشائم، ويَمْثُلُ في انعدام الثقة بشكل واسع النطاق في الأنظمة الغربية وإمكاناتها المستقبلية. تباطؤ النمو في جميع أنحاء العالم المتقدم، وجمود دخل كثير من السكان، وزيادة التفاوت الاقتصادي، والجمود السياسي، وظهور حركات التمرد الشعبية على جانبي الطيف السياسي مما غذى شعورا على نطاق واسع أن النماذج الغربية للحكم والتسيير الاقتصادي تتخبط. ومقابل هذه النظرة التشاؤمية يقر محبوباني وسومرز أن عدداً من هذه المشاكل حقيقي ومهم. لكنها ليست فوق قدرة قيادة مصممة على حلها، كما أنها لا تمثل نقاط الضعف الأساسية للنموذج الغربي. وإجمالا، رغم أن عناوين الصحف اليومية تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ فإن العالم اليوم يقترب بعضه من بعض، وأن انصهار الحضارات حتى الآن، هو في المقام الأول، بفعل حقن الحمض النووي (DNA) للحضارة الغربية في حضارات أخرى. ومع مرور الوقت، من المرجح أن يكون تدفق الثقافة والأفكار في الاتجاهين معا. تعليق: ذكّرني مقال محبوباني وسومرز بالدعوى الأساسية في كتاب الفيلسوف كارل بوبر "عقم المذهب التاريخي"، وهي أن الاعتقاد بالمصير التاريخي مجرد خرافة، وأنه لا يمكن التنبؤ بمجرى التاريخ الإنساني بطريقة من الطرق العلمية أو العقلية. كما ذكّرني هذا المقال بفكرة طريفة قرأتها منذ سنوات خلت في كتاب لمرتضى المطهري بعنوان:"نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ"، مفادها أن المهدوية ليست حكراً على الأديان، فالمذاهب الوضعية لها مهدويتها كذلك، أليس تبشير ماركس بمجتمع شيوعي ضربا من المهدوية.