لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. يتعلق الأمر بخطة نقدية للتعاطي مع الشأن الديني، بما هو شأن إنساني، تستهدف تحريره من كلّ الشوائب والتشويهات التي لحقت به، سواء من طرف خصوم الاعتقاد الديني من ملاحدة ودهريين، أو من طرف الأوصياء على عقائد الناس، من سدنة المعابد وكهنة الكنائس. إنها رغبة قوية من عبد لله العروي في ترشيد الإيمان الديني حتى يكون لبنة من لبنات التحديث الفكري والاجتماعي والسياسي، كما كان الأمر عند روسو، بدل أن يكون وسيلة لفصل الإنسان عن ذاته وفطرته الدينية البريئة، أو سبيلاً للنكوص والتقهقر إلى الوراء إلى عصور الظلام والجمود والانحطاط. لم تمض إلا سنة واحدة على نشر عبدالله العروي لهذا النص، حتى فاجأ الدكتور طه عبدالرحمن جمهوره العريض الذي حجّ في بداية ربيع 2013، للقاعة الكبرى بالخزانة العامة للمملكة، لمتابعة محاضرة له، بتخصيص قول لهذا النص الذي نقله العروي إلى قراء العربية في كتابه المشار إليه أعلاه، لينشره في مؤلف مستقل اختار له من الأسماء “بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين”. إذا كان العروي من أبرز دعاة الحداثة في العالم العربي، فإن طه عبد الرحمن من أشد المفكرين العرب نقداً للحداثة وملحقاتها من عقلانية وعلمانية… إلخ. وهذا الأخير لا يمكنه أن يكون قد وقع تركيزه على نص “عقيدة قس جبل السافوا” من باب المصادفة مع تركيز العروي على النص ذاته، بل إن المرجح أنه قد اطلع على منشور العروي وما قدمه من تحليلات وتبريرات لاختياره. هكذا يصرح طه أن ما حمله على الكتابة في هذا الموضوع هو ما “نشاهده لدى المثقفين من أمتنا من استغراق في تقليد (…) مفكري الحداثة”، خاصة في تصورهم للدين ولكيفية التعاطي معه، لا سيما أنّ “نذر الخوض فيه بدأت تلوح في الأفق، ماثلة في الدعوة الأخيرة إلى اختزال روح الدين في نتفة من اعتقاد على طريقة هؤلاء المفكرين”. ما هي هذه “الدعوة الأخيرة” التي دعت إلى اتباع طريقة فلاسفة الحداثة من أمثال جان جاك روسو؟ لن نجد من جواب سوى الإجابة التي تقول إنّ آخر من كتب في هذا الموضوع من العرب المعاصرين هو المفكر المغربي عبدالله العروي. لذلك، نكاد نجزم أنه هو المقصود من طرف طه عبد الرحمن هنا الذي يعتبر أنّ مثل هذه الأعمال تتحايل على القراء من أجل خلق القابلية عندها لاختزال الدين في “نتفة من الاعتقاد”، وتلك مقدمة لاستدراجها “شيئاً فشيئاً إلى الانصراف عن الدين انصراف أتباع هؤلاء المفكرين عنه غير نادمين”. إنهم، في نظر طه، لا يطلبون الحق، أو قُلْ دين الحق والفطرة كما يدّعون، و”إنما يطلبون الحيلة في نصرة ما يعتقدون”. لقد تعرّض طه لنقد تصور ج. جاك روسو، وغيره من مفكري الحداثة الذين لم يعرفوا بعدائهم للدين، لأن من ينعتهم ب”مقلدة الحداثة” يتخيرونهم من أجل “إفهام قرائهم بأن هؤلاء المفكرين، على تمسكهم بالدين كما يتمسكون، لم يترددوا في القول بالفصل بين الأخلاق والدين كما يترددون، حتى يغروهم بأن يحذو حذوهم في القول بهذا الفصل كما يقولون”.