تعززت المكتبة العربية بثلاثة مشاريع فكرية وأدبية أنتجها المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي. يتعلق الأمر ب»تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط» (2011) ل»مونتسكيو»، و»دين الفطرة» (2012) ل»جان جاك روسو»، و»شيخ الجماعة» (2013) ل»هنري دي مونترلان». فما الخيط الناظم بين هذه الكتب الثلاثة التي نقلها العروي من الفرنسية إلى العربية، خلال العامين الأخيرين؟ في مقدمة كل عمل، يقدم العروي التبرير الذي دفعه إلى ترجمة هذه العمل، أو ذاك.المفكر المغربي يعزز رصيده الترجمي بكتاب ثالث في المسرح خلال السنتين الأخيرتين، أصدر المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي، عن المركز الثقافي العربي، ثلاثة كتب مترجمة هي: «تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط» (2011) ل»مونتسكيو»، و»دين الفطرة» (2012) ل»جان جاك روسو»، و»شيخ الجماعة» (2013) ل»هنري دي مونترلان». الأول في التاريخ، والثاني في الفكر، والثالث في الأدب. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، منذ النظرة الأولى على هذه العناوين الثلاثة، هو: ما الخيط الناظم بين هذه المشاريع الثلاثة؟ وما الذي دفع عبد الله العروي إلى الاهتمام بها ونقلها- بتعبير العروي نفسه- إلى العربية؟ ففي الكتاب الأول، يسلط «مونتسكيو» الضوء على تاريخ الرومان، وعلى الأسباب التي أدت إلى صعود نجم هذه الإمبراطورية، التي قيل عنها إن الشمس لا تغرب عنها، وكذا العوامل التي أدت إلى أفول هذا النجم، قبل انطفائه نهائيا. إذ يركز فيه الكاتب على عمل الحرب، باعتباره ركيزة أساسية يقوم عليها قيام الدولة واستقرارها واستمرارها. أما الكتاب الثاني، فأراده المفكر السويسري «جان جاك روسو»، الذي احتفل العالم خلال السنة الجارية بالذكرى المئوية الثالثة لميلاده، حوارا بين «قس من جبل السافوا» وشاب كاد أن يفقد عقيدته وإيمانه بالله، حوارا حول ماهية الدين، والطريقة المثلى في ممارسته، وكذا في رسم علاقة المتدين مع الآخرين. إذ كانت غاية «روسو» من هذا الكتاب أن يرسم لنفسه «عقيدة بسيطة، بينة، صادقة، توفق بين العقل والوجدان، وتضمن للفرد الطمأنينة وللمجتمع الوحدة والاستقرار»، كما يقول العروي في مقدمة الكتاب، أي أنه أراد أن يرسم طريقا ثالثا للعلمانية بالتعبير السياسي الراهن. أما عن العمل الأخير، فهو عمل مسرحي يحاول أبطاله إقناع شيخ طريقة دينية بالمشاركة في الحروب التي كانت تخوضها إسبانيا، بعد طرد المسلمين من الأندلس، في أمريكا اللاتينية، حتى يتمكن من تزويج ابنته. غير أن بطل المسرحية، «دون ألفارو دابو»، الملقب بشيخ الجماعة، يرفض المشاركة في تلك الحروب لأنها ليست «حروبا مقدسة»، أي أن الرب لم يأمر بها. وبالرغم من أن أصدقاءه كادوا يوقعونه في شرك مؤامرة تمت بالتوافق مع ابنته «مريانا»، وبعد أن صدق أن اختيار الملك وقع عليه للمشاركة، إلى جانب أسماء بارزة من طريقة الجماعة، إلا أن «ألفارو» يكتشف المؤامرة، بفضل ضمير ابنته، الذي استيقظ فجأة، لينبه والدها إلى المكيدة. فيختارا معا الموت، حفاظا على نقاء طريقتهما. اختيارات كيف برر عبد الله العروي اختياراته الترجمية الثلاثة؟ بالنسبة للكتاب الأول «تأملات في تاريخ الرومان»، لا يعثر القارئ على جواب واضح وصريح عن هذا السؤال، بخلاف الكتابين الثاني والثالث- كما سنرى. لكن ما الذي دفع عبد الله العروي إلى ترجمة هذا الكتاب الذي يعتبره، هو نفسه، كتابا متجاوزا، بل كان متجاوزا حتى في لحظة تأليفه، كما يقول المتخصصون في البحث التاريخي؟ الإجابة مضمرة في تقديم الكتابين. إذ يمكن للقارئ أن يستخلص تبريرين أساسيين: أولا، يعتبر عبد الله العروي تأملات «مونتسكيو» عملا تمهيديا ل»مشروع أوسع تجسد لاحقا في كتاب «روح القوانين». ما هي علاقات كل قانون أعلى (كل دستور، كل شريعة) بالعوامل المتواجدة معه، المناخ، الاقتصاد، الأخلاق، الأعراف، الطقوس الدينية، الذهنية العامة.» ويختتم العروي هذا القول باعتبار مفاده أن «مونتسكيو» اختبر فرضياته من تاريخ الرومان. وبالفعل، كلما تقدم القارئ في قراءة الكتاب، يجد مقارنات بين النظام السياسي في عهد «لويس الرابع عشر»، والنظام السياسي الروماني. ومن هنا، يمكن القول إن عبد الله العروي يروم بهذه الترجمة التنبيه إلى أن ترجمة «روح القوانين» تبقى ناقصة بدون ترجمة «تأملات في تاريخ الرومان»، الذي يعتبر مؤسسا للمشروع الثاني. التبرير الثاني كامن في المقارنة التي يجريها عبد الله العروي بين ثلاثة وجوه بارزة في النظرية السياسية، وهي: ابن خلدون، «نيكولا مكيافيللي»، و»مونتسكيو» نفسه، مقارنا بين «الجبرية والحرية» عند الثلاثة. فالهم الفكري عند الأول، كما يقول العروي، هو تمحيص أخبار الدول والأقوام، لاستخلاص العبر، حيث تأتي هذه التجربة الفكرية بعد أن فشل ابن خلدون في تجربة سياسية. بينما يهتم الثاني بكيفية تأسيس الدولة وتحقيق دوامها، علما أن الغاية هي التخطيط العملي لممارسة السياسة. أما الثالث، فيهتم بأسباب قيام دولة ما أو انحطاطها، مقدما نماذج من الأسباب، تتلخص في «التشريع، والتربية، ورعاية الأعراف، وتدبير المعاش، ورسم الضرائب، وتعبئة الجيش، الخ». هكذا، نكون أمام تبرير مضمر في هذا الاختيار، ربما لم يعلن عنه العروي لأسباب منهجية. خطة نقدية خلافا للكتاب الأول، يعترف عبد الله العروي في الكتاب الثاني، منذ جملته الأولى، أن اختياره لم يكن اعتباطيا. إذ «يخضع هذا الاختيار لخطة نقدية»، ذكرها في مناسبات سابقة. ويرتبط هذا الاختيار بكون «الفكر الغربي لم يقترب من تمثل الفكر الإسلامي إلا مرة واحدة، وذلك أواسط القرن الثامن عشر»، أي خلال الفترة التي عاشها «جان جاك روسو»، بل في الفترة التي شهدت أوج عطائه. وعلى الرغم من أن العروي يعتبر المقارنة بين مفكر غربي وآخر مسلم لا تستقيم منهجيا وعلميا، إلا أنه يرى في نقل كتاب «روسو» «تجربة ذهنية معينة تساعدنا، في آن، على فهم كتاب روسو وكتابات إسلامية شبيهة به». ويعني بهذه الكتابات ما ألفه كل من «الغزالي، وابن رشد، ومحمد عبده، ومحمد إقبال...» ثمة تبرير آخر، في هذا الكتاب أيضا، يكشف عنه المترجم في الصفحة السابعة. إذ يقول العروي إن «فلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسيون كانوا متحررين فكريا وأخلاقيا، لكنهم كانوا محافظين اجتماعيا وسياسيا. هدفهم الإصلاح من فوق، ثورة استباقية حتى لا تباغتهم ثورة شعبية عارمة.» غير أن العروي يرى في «روسو» مفكرا «وفيا لأصوله الوطنية، جمهوري النزعة، شعبي الهوى»، مناديا بالعدل والمساواة، ومطالبا بالتغيير الجذري من الأسفل. وهذا ما جعل الثوار يضفون عليه صفة منظر الثورة الفرنسية. ومما لا شك فيه، فإن العروي ترجم هذا الكتاب لقيمة الرجل وأثره في هذا المجال. لكن هل يستقيم هذا التبرير مع هذا الكتاب، الذي يصنف ضمن فلسفة الدين؟ الإجابة باحتمال ذلك، لأن الكتاب يشكل محاولة في وصف علاقة الإنسان بالدين، وفي جانب منه علاقة الدين بالمؤسسات المدنية والدولة. ظروف خاصة يستبعد عبد الله العروي، في المقدمة التي وضعها لكتاب «شيخ الجماعة»، أن يكون الأسلوب هو ما استهواه في هذا الكتاب، واصفا إياه بكونه أسلوبا «كلاسيكيا وتقليديا وخطابيا، منمقا مضخما حد التشدق». والأمر ذاته ينطبق على التقنية المسرحية، التي يعتبرها هي الأخرى تقنية تقليدية تبتعد كل البعد عن التجارب المسرحية المعاصرة. لكنه يعترف أن اهتمامه بهذا العمل نابع من ظروف خاصة ترتبط بظروف استقلال المغرب، حيث يربط بين مضمون هذه المسرحية، التي عرضت على الركح خلال الخمسينات، وما كان يجري في المغرب خلال الستينيات. كما يربط بين «مظاهر اللؤم والخسة في إسبانيا»، التي تستعرضها المسرحية، وما عايشه المترجم في حياة المغرب المليئة «بالمساومات والتنازلات الدنيئة»، بعد الاستقلال. غير أن ما يثير الاستفهام، والاستغراب أيضا، هو أن العروي اختار هذا العمل، لأنه يمثل مرآة يتفحص بواسطتها نفسه من خلال وصف الغير لنفسه. ويكتفي العروي بهذا الحد من الاعتراف، تاركا المجال للنص، ليفصح عن مكنونه، وعن نوايا المترجم أيضا. ما الذي يفصح عنه هذا النص المسرحي؟ بعد أن تتمكن المملكة الإسبانية من طرد المسلمين من الأندلس، وأن تستعيد هيبتها أمام الإمبراطوريات الأوربية الأخرى، تحاول أن تقنع مقاتليها، الذين خاضوا «حربا مقدسة» ضد المسلمين قبل سنة 1492، بمواصلة القتال لتوسيع هوامش الإمبراطورية الإسبانية في أمريكا اللاتينية. غير أن بطل المسرحية لا يقتنع بالحرب، لأنها ليست مقدسة. وبسبب المساومات والتنازلات، وكذا الدناءة التي وصفها العروي، متحدثا عن استقلال المغرب، فإن «ألفارو» يرفض المشاركة في هذه الحرب، بعد أن يكتشف المؤامرة، التي حيكت ضده حتى تتزوج ابنته من ابن «دون برنا لدي لا أنسينا». الدين والتاريخ عندما يتفحص القارئ هذه الأعمال الثلاثة، يواجهه سؤال عريض: لماذا ترجم عبد الله العروي هذه الكتب الثلاثة، بالرغم من أنها لا تخضع لمنهج علمي خالص، وهو الذي يحرص، كل الحرص، على أن تكون نتاجاته دقيقة ومضبوطة بمنهج صارم؟ فكتاب «تأملات في تاريخ الرومان» عبارة عن شذرات في التاريخ يغيب فيها معنى «التأمل»، الذي يضعه «مونتسكيو» عنوانا للكتاب، بل سرد لأحداث تاريخية غير مرتبة زمنيا، ومقارنة مع ما كان يحدث في فرنسا زمان «لويس الرابع عشر». إذ يعطينا الكتاب «تاريخا انتقائيا للفترة الرومانية، من التأسيس إلى تواري نجم تلك الإمبراطورية»، بحسب تعبير سعيد بنرحمون («القدس العربي»، عدد 7303). أما كتاب «دين الفطرة»، فهو عبارة عن انطباعات فكرية عن روح الدين. إذ يبحث «روسو» عن «شكل التعبد المناسب لمجتمع يعتقد أنه وجد في علم الماديات بديلا كافيا شافيا عن الدين التقليدي». وقد ارتأى «روسو» ضرورة الخوض في هذا الإشكال، بعد أن حاجج الفلاسفة العلمانيين. إذن، فالغرض عند العروي من ترجمة هذا الكتاب لا يكمن في معرفة مطابقة أفكار «روسو» حول هذا «الدين الجديد» الذي يدعو إليه، وإنما في تقديم تصور مختلف عن العلمانية، لا يستبعد الجوانب الروحية من حياة الفرد داخل الجماعة، ويحصرها في منطقة معزولة. هذا التصور الجديد يقوم على اعتبار أن «الإيمان في خدمة النفس، والدين في خدمة المجتمع، والمجتمع في خدمة الفرد». كما يقوم هذا الاعتبار على النظر إلى الدين ليس فقط كظاهرة اجتماعية، وإنما كركن سياسي من أركان الحداثة نفسها. هذا الاعتبار يصيب الفلاسفة والقساوسة معا بالصدمة. لكن الجهتين قادرتان على توظيف هذا التصور، كما يؤكد عبد الله العروي. من الممكن أن يجد القارئ خيطا ناظما بين كتابي «روسو» و»دي مونترلان». فالكتابان معا يخوضان في المسألة الدينية، وكذا الطريقة التي يجب أن يمارس بها الدين في المجتمعات المعاصرة. فكتاب «روسو»، كما سبق القول، يصف طريقة التعبد، والعلاقة التي تربط المتعبد بالمجتمع. والكتاب الثاني يصف الطريقة، التي اعتمدها بطل المسرحية في ممارسة الدين، بعيدا عن التأثيرات السياسية في إسبانيا. لكن اهتمام الكتابين يختلف عن الكتاب «مونتسكيو»، الذي ترجمه العروي السنة الماضية. إذ يهتم بالتاريخ. وأي تاريخ؟ تاريخ الرومان، الذي أضحى بعيدا كل البعد عن التأثير في المرحلة الراهنة، اللهم من جانب معرفة أسباب تطور الإمبراطورية الرومانية وانهيارها. وحتى المسألة الدينية لا يعرض لها الكتاب