لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. و”عقيدة لزمن الشؤم”، العنوان الفرعي لكتاب “السنة والإصلاح” لعبدالله العروي، والذي حذفه الناشر كما أعلن عن ذلك العروي في حواره المشار إليه أعلاه. هذا الكتاب يعتبره العروي وصيته الفكرية والروحية والأخلاقية، أو بعبارة دقيقة وصيته المتعلقة المتعلقة بإيمانه الديني، سيرا على نهج كبار الفلاسفة والمفكرين والحكماء، الذين كانوا “يكتبون وصيتهم الفكرية قبل وفاتهم. وكانوا يسمون ذلك بالعقيدة التي كانوا يبسطون فيها ما تعلق بإيمانهم بشكل إيجابي”. لقد استخلص العروي عقيدته الخاصة من خلال معاشرته للكتاب العزيز، عقيدة أرادها أن تكون صافية، بريئة، بسيطة، وخالية من أي تعقيدات كلامية أو فلسفية؛ بعدما قرأ القرآن قراءة مباشرة، وصفها ب”البريئة”، و”النزيهة”، والبعيدة عن كل أشكال التعصب والوساطة، والبوليميك والأدلجة. وكأني بعبد لله العروي يقتفي تجربة فيلسوف الأنوار، جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau))، في التعاطي مع المسألة الدينية، حيث اختار مشهدا طقوسيا شبيها بمشهد موعظة الجبل، وافترض سيدة تنصت لوصيته، كما أنصت شاب جبل “السافوا” لموعظة القس. فكانت موعظته شبيهة بموعظة الجبل، وعقيدته شبيهة بعقيدة قس جبل السافوا. ذلك أن العروي يتبنى، فيما يتعلق بالتربية الدينية، التصور ذاته، الذي نجده في كتاب إميل لروسو. وقد عبر عن ذلك صراحة في حواره مع “la revue economia”، حيث انتقد بحسرة مقررات مادة التربية الإسلامية، التي تلقن الأطفال الصغار، عن أمورالغيب وما يتعلق به من مشاهد وصور، لا تتناسب مع مرحلتهم العمرية، بحيث لم ينضجوا بما فيه الكفاية لتقبل واستيعاب مثل هكذا قضايا ومسائل. وفي هذا الصدد يقول العروي: “يحز في نفسي أن أرى في مدارسنا أن الكتاب المدرسي حول التربية الدينية يبدأ بفصل حول الغيب؛ لست لأنني أنفي الغيب، بل إنني أستغرب أن نكلم الأطفال عن الغيب، والحال أنه ينبغي أن نتحدث في الموضوع مع البالغين بعدما يكونوا غادروا المدرسة بزمن طويل”. ومن شدة إعجاب العروي برؤية روسو المشار إليها، نقل إلى العربية الجزء الخاص بالتربية الدينية من كتاب إميل (Emile ou De l'éducation)، ممثلا في موعظة الجبل، في كتاب اختار له عنوانا لا يخلو من دلالة “دين الفطرة”! ولاشك أنّ اختيار العروي لهذا النص لم يكن عملاً اعتباطياً أو ارتجالياً، كما أكد على ذلك في مقدمة كتابه، وإنما هو جزء من برنامجه النقدي لمختلف التصورات الرائجة حول درجة التفاعل بين الفكر الغربي الحديث والفكر الإسلامي الوسيط. معتبرا لحظة روسو الفلسفية، أواسط القرن الثامن عشر، هي اللحظة الفكرية الوحيدة التي اقترب فيها الفكر الأوربي من تمثل الفكر الإسلامي. ومع أنّ هذا التمثل لا يتجاوز الجوانب النظرية الصرفة، ولا يمس النظم والأخلاق والعادات، فإن العروي يعتقد أنّ نقل هذا النص للغة الضاد سيفيد القارئ أو المثقف العربي، في “القيام بتجربة ذهنية معينة” مشابهة لتجربة كاهن جبل “السافوا” الذي حاول الخروج من حالة القلق الوجودي والاضطراب المجتمعي التي عرفها عصره، من خلال رسم “عقيدة بسيطة، بيّنة، صادقة، توفق بين العقل والوجدان، وتضمن للفرد الطمأنينة وللمجتمع الوحدة والاستقرار”.