« ليس في كلامنا عودة إلى ما قبل الوحي، فلو فعلنا ذلك لناقضنا المنهج التاريخاني الذي نقول به. لا ندعو إلى رواقية جديدة. مخطئ من يظن ذلك. واهم من يتمناه، إذ في أخلاقيات الرواقية القديمة سمات لا تقل قبحا وشناعة من التي نؤاخذ عليها منحى السنة» عبد الله العروي / السنة والإصلاح « كلام روسو في عقيدة القس الجبلي ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهمِّ الديني. وهذا الهم عاد بعد أن غاب، وإن قُدر له أن يغيب مجددا فهو لا محالة عائد..» عبد الله العروي /دين الفطرة فوجئ المهتمون بالمنجز النظري لعبد الله العروي، بنوعية المؤلفات التي أصدر مؤخراً، وهي مؤلفات يتقاطع فيها البحث بالترجمة، ويتمم الواحد منهما الآخر. بل إن البحث والترجمة في مؤلفاته الصادرة في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تكشف أننا أمام مفكر يواصل جهوده في التنوير، بطرق أخرى في الكتابة والبحث والنقد والمراجعة. الأمر الذي يجعلنا نعاين شكلا من أشكال مواجهة بعض المفكرين العرب لأسئلة الواقع العربي، في ضوء المتغيرات والمستجدات التي تصنع تحديات جديدة، تدعو إلى التفكير فيها، والعمل من أجل إيجاد مخارج وحلول لها. واللافت للنظر في آثار العروي الأخيرة، يتمثل في إدراكه المتواصل للمسؤوليات الكبرى الملقاة على كاهل النخب المسلحة بمقدمات الفكر الحداثي، وذلك من أجل مزيد من البحث الرامي إلى تجاوز الصور القديمة والأشكال المستجدة لبنيات التقليد السميكة والصلبة، السائدة في ثقافتنا ومجتمعنا وأنظمتنا السياسية. أصدر عبد الله العروي سنة 2008 كتاب السنة والإصلاح، وبعد ذلك بسنة أصدر كتاباً آخر بعنوان من ديوان السياسة. وفي مقدمة هذا الأخير، أعلن أن مجال هذين المؤلفين يقارب موضوعين أساسيين، في مشروعه في التحديث الثقافي والسياسي. يتعلق الأمر في الكتاب الأول بالعقيدة، وهو بحث غير مباشر في كيفية تجاوز التقليد. أما مجال الكتاب الثاني فهو السياسية، وموضوعاته الأساس، النوازع والتربية والدولة والمجال السياسي والهوية واللغة والإصلاح. وفي قلب هذين المصنفين، يختار المفكر أساليب أخرى، في العودة إلى موضوعات وقضايا ركَّبها في مصنفاته الأولى. ونحن نعتقد أن تنويعه يمكِّنه كما وضحنا آنفاً من التفكير مجددا في مختلف القضايا الموصولة بتجاوز التأخر التاريخي العربي. وإذا كان مفهوم التأخر التاريخي، قد شكل منطلق رؤيته في البحث في كيفيات الإصلاح والتجاوز، في نصه أزمة المثقفين العرب 1974، حيث عمل في تشخيصه لأزمة الثقافة العربية، على توضيح كيفيات تأرجحها بين المنطق السلفي والمنزع الانتقائي، فإن مفهوم السنة ومرادفه التقليد، قد شكل في نص السنة والإصلاح، العنوان البارز في المنازلة المتواصلة في المجتمع العربي منذ أربعة عقود، بين الحداثة والتقليد، حيث تتنوع الوقائع ويتواصل الصراع، تتجدد النخب، وتتطور المناهج والأدوات، ويظل المثقف التاريخاني عنوانا ليقظة عقلية متواصلة، مُوجِّها بصره في اتجاه هدفٍ واضح ومُحدد، مهما تنوعت العلل واستشرت، ذلك أن حاجتنا في المجتمع العربي إلى الحداثة والفكر التاريخي تظل أولوية مؤكدة. يمسك الباحث في كتاب السنة والإصلاح بجوانب من العقيدة، وقد استوت في صورة تقاليد وذهنيات وبنيات ثقافية داخل المجتمع، ليفكر في علاقتها باستمرار التأخر التاريخي. والهدف كما أشرنا واحد، يتمثل في البحث في سبل تفكيك وزحزحة التقليد، ثم توطين مقدمات المجتمع العصري، مجتمع الحداثة والتاريخ. وبعد صدور الكتابين المذكورين، أصدر عبد الله العروي مصنفين مترجمين، الأول لمونتسكيو(1689-1755)، تأملات في تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط (2011)، ثم كتاب روسو (1712-1778) دين الفطرة، أو عقيدة قس من جبل سافوا (2012 ). فما هي علاقة هذين النصين بتاريخانية عبد الله العروي ومشروعه في التحديث؟ يعرف قراء العروي علاقة مشروعه في الفكر العربي بمشاريع التنوير، التي تبلورت في الفكر الفرنسي والأوروبي في القرن الثامن عشر. كما يعرفون أن إيحاءات عناوينِ مصنفاتٍ تُقارب موضوع صعود الأمم وانحطاطها، أو تقارب إشكالات الدين والتربية في مجتمعنا، تُعدُّ من صميم الخيارات الفكرية المعلنة في مواقفه وخلاصات أعماله. لكن لماذا يعود عبد الله العروي خلال السنوات الأخيرة، إلى إنجاز ترجمات ومقدمات لقراءتها، بعد أن واجه خلال العقود الأربعة الماضية، مجموعة من الوقائع التاريخية والهزائم والانكسارات العربية، وحاول التفكير فيها، مستعينا برصيده في التاريخ وفي الفكر والفلسفة السياسية؟ قد لا يستغرب الباحث القريب من روح الخيارات المبنية في أعماله من تمارينه في الترجمة، ومكاسبها البيداغوجية في تقريب بعض أطروحات فكر الأنوار للقارئ العربي. كما أن العناية بالمقدمات التي كتب العروي لهذه الأعمال، تكشف أن لجوءه إلى مثل هذه التمارين، والعناية بنصوصها ومفرداتها، يندرج ضمن خطته في مزيد من تقريب آرائه ومواقفه التحديثية، من القراء وأجيالهم الجديدة. وقد سبق له أن وضح في إحدى يومياته في الجزء الثالث من خواطر الصباح (1982-1999)، حاجة الفكر العربي إلى أمهات الكتب في الفكر الحديث والمعاصر، بحكم أنها تضيء الطريق أمام مساعي التحديث المتواصلة في فكرنا ومجتمعنا. روسو والدين الطبيعي لن نكتفي في الجواب عن هذا السؤال بالمواقف التي عبر عنها المترجم، أثناء تقديمه للنص المعرب. بل إننا سنفكر في الموضوع في ضوء توضيحاته المبسوطة في مقدمة الترجمة، وبناء على السياقات والشروط العامة الموصولة بفكره وبفلسفة روسو وأدوارها في سِجلِّ فكر الأنوار. ذلك أن حصول هذه الترجمة وصدورها في سياق زمني، موسوم بالانفجارات التي حصلت في كثير من البلدان العربية، ما يشكل مناسبة تدعونا إلى التفكير في العلاقة الممكنة بين ما يحصل في الواقع، وما يقدمه المُنَجز الفكري لعبد الله العروي في تجلياته الأخيرة. وعندما نطرح هذا السؤال، ونحن نفكر في محتوى هذا العمل و إشاراته ومجموع إيحاءاته، فإننا لا نروم من وراء ذلك، التفكير في أي نوع من السببية المباشرة والميكانيكية بين التاريخ وجدلياته المركبة والمعقدة، وبين وظائف الفكر، في التهييء لبناء ما يسعف بإضاءة مجرى التاريخ والتفاعل معه. إننا نفترض أن تاريخاً مماثلا لتاريخ تأخرنا التاريخي وتجلياته العديدة، يشتبك بصور مختلفة سلبا وإيجابا، مع منظومات الأفكار التاريخية، من قبيل مشروع عبد الله العروي، ذلك أن الرجل مَعنيٌّ منذ كتاباته الأولى، وبحثه في أزمة المثقفين العرب، ثم تفكيره في هزيمة 1967، ومواقفه من الناصرية وفشل الشروع القومي، ودعوته إلى القطيعة مع التراث والتقليد، ودفاعه المستميت على لزوم تمثل مكاسب الفكر المعاصر، وانتصاره للمبادئ الكبرى للحداثة والتحديث السياسي، وذلك بسعيه المتواصل لتوطين قيم الحرية والعقلانية والمواطنة والفكر التاريخي. ولاشك في أن حزمة الخيارات التاريخية، التي عملنا على تكثيفها في الفقرة السابقة، استنادا إلى مجمل أعماله، ما يدفعنا إلى عدم إغفال السؤال الذي أطرنا به عملية عرضنا لجوانب من موضوعات كتاب روسو وأسئلته، وأسئلة مجتمعنا اليوم في موضوع الدين والسياسة، وذلك في سياق التفاعلات والتناقضات التي تحملها رياح الربيع العربي. فقد ظلت النخب الحداثية في الفكر العربي، تواجه الممانعة وسط النخب السياسية، وداخل أنظمة التربية والتعليم، وفي الفضاء الثقافي العام. إلا أن الممانعة المشار إليها، لم تقلل من حماس الحداثيين العرب، ومن بينهم عبد الله العروي، الذي واصل ويواصل العمل دون كلل، بحثا عن بلورة التصورات التي تسمح ببناء مخارج تُعطل آليات التقليد والممانعة، وخاصة في المستوى الذهني، لتتمكن المجتمعات العربية من الإقلاع النهضوي. وعندما تبرز هنا أو هناك، بعض مظاهر هذا الإقلاع، من قبيل ما حصل في أشكال الانفجار الجديد خلال سنة 2011، فإن ما يترتب عن ذلك، يدعونا إلى محاولة التفكير في النصوص والمواقف والخيارات التي ما فتئ يُرَكِّبها، لنعاين انطلاقا منها، ومن السياقات التي تواكب صور تفاعلها المحتملة، مع أفعال التاريخ الجارية في مجتمعاتنا. نفترض أن التفكير في علاقة ترجمات العروي الأخيرة، بأعماله السابقة ومشروعه في التحديث ككل، يعد مدخلا من المداخل المناسبة لبحث سياقات ونتائج أفعال الثورات العربية، في علاقاتها بمنظومات الأفكار في فكرنا المعاصر. فما هي علاقة نص دين الفطرة بالمشروع الفكري لعبد الله العروي؟ وما هي أهميته في أزمنة وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة في بعض البلدان العربية؟ في الدفاع عن حرية العقيدة قبل أن نقدم عناصر محددة في موضوع تحليلنا للإشكالات التي تثيرها الأسئلة، التي ركَّبنا في نهاية الفقرة السابقة،نريد أن نتوقف أمام الملاحظات الدقيقة والمختزلة التي أبداها المترجم، وهو يمهِّد لقراءة النص، موضحاً طبيعته ومقترحاً عناوين محددة لفقراته، ومتسائلا عن علاقته بالمشروع التنويري لروسو؟ استوعبت مقدمة العروي المكثفة ثلاثة محاور، ربط في الأول منها بين محتوى النص وبين العلاقة التي يفكر انطلاقا منها فيه، محاولاً تذكير قرائه بأهمية المقارنة في المنزع التاريخاني، ومؤكداً على جملة من المعطيات التي سبق له أن أبرزها وألح عليها في مختلف أعماله، يتعلق الأمر بضرورة الاستفادة من مكاسب التاريخ والعصر، لمواجهة العلل المتشابهة فيه، حيث يؤكد بوضوح قاطع، عدم إمكانية مماثلة نتائج ومعطيات خطاب روسو مع الكتابات المشابهة له في طريقة بسطها لعظته في فكرنا وتراثنا، وذلك بحكم أن منطلقات التفكير في النظر الروسوي، هو وجدان الفرد الحر المستقل، وهذا الأخير الغائب الأكبر في تصورات أصحاب النصوص المماثلة له في فكرنا، أمثال ابن رشد والغزالي وابن طفيل ومحمد عبده ومحمد إقبال. أما في المحور الثاني، فقد قام بإحصاء وترتيب موضوعات الكتاب، الأمر الذي ترتب عنه تحويل الترتيب الرقمي للنص المترجم، إلى ترتيب موضوعاتي، حيث وضع المترجم ثلاثين عنوانا لمجموع فقرات الخطاب وعددها 155 فقرة. أما المحور الثالث، فقد جاء موصولا بالثاني، حيث قام العروي بقراءة محتوى الخطاب في علاقته بفلسفة روسو الحداثية. يندرج نص روسو في إطار بنائه لمشروع إميل في التربية1762، وهو النص الذي جاء بعد نقده المثير للثقافة والعلوم، في خطابه حول العلوم والفنون 1751، ونقده للسياسة، عند محاولته التفكير في أصل التفاوت بين الناس 1755. نعثر في النص، على خطاب يلقيه قس على مسامع شاب فاقد للإيمان. يتأمل الشاب الخطاب، ثم يرسل نسخة منه لمواطن كان مكلَّفا بتربية إميل. وهذه الطريقة في الكتابة التي يقوم فيها الأستاذ بنقل الخطاب إلى التلميذ بتوسط روسو، تستهدف تهذيب ضمير التلميذ، ليصبح مهيئاً وقادراً على فهم الجدل الفلسفي والديني. ضمن هذا الأفق، رتب روسو خطابه عن الإيمان، في الجزء الرابع من كتابه عن إميل في التربية. نقرأ في عقيدة القس من جبل سافوا جدلا يتناول موضوع الإيمان الديني، وذلك في سياق التفكير في التربية والتربية الدينية داخل المجتمع، حيث يعتقد روسو أنه يمكن أن يُعلَّم الأطفال بعد تجاوزهم سن الخامسة عشر، ما يوضح مسألة العلاقة بين الخلق والخالق. ويركِّب في خطابه عقيدة بسيطة منافية للتعصب، ومؤدية إلى نوع من التهذيب المساعد في تكوين المواطنين، وبناء مجتمع متجانس. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن معطيات نص روسو وتصوراته للدين والإيمان الديني، تندرج ضمن منظور مفكري عصر الأنوار للمجتمع الجديد، حيث كان يدور نقاش فلسفي حول حرية العقيدة والدين الطبيعي. ويتجه البحث في كثير من أعمال فلاسفة الأنوار للمقارنة بين مبادئ الدين الطبيعي ومبادئ الديانات الأخرى، مع محاولات للتميز بين الدين الطبيعي والنزعات اللادينية. أما أبرز الخلاصات التي ركبها التصور الفلسفي الأنواري للدين الطبيعي، فيمكن ضبطها في عنصرين أساسيين، يتمثل أولهما في إعطاء الأولوية للعقل، ويتمثل الثاني في مبدأي الوضوح والبساطة. وإذا كان بعض دعاة الدين الطبيعي ينكرون الوحي، فإن روسو منح في تصوراته الدينية مكانة خاصة للضمير الأخلاقي عند الإنسان. قد تكون هناك صعوبة في الربط بين بعض الأفكار الواردة في هذا النص، والأفكار التي أعلن روسو قبل ذلك في خطابه حول العلوم والفنون. و تزداد هذه الصعوبة عندما نقارن محتوى هذا النص، بمواقف بعض الموسوعيين، الذين اشترك معهم روسو في مرافعات فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، وتبنى مثلهم الدعاوى الكبرى لفلسفة الأنوار، والتي كانت تروم في أغلبها نقد الأوهام ومواجهة التقليد. إلا أن الانتباه إلى روح الخطاب، يدفعنا إلى ضرورة العناية بأبعاده السياسية، حيث نتبين أن روسو كان مثل أغلب فلاسفة القرن 18، متحرراً من الناحية الفكرية والأخلاقية، محافظاً من الناحية السياسية والاجتماعية. لا يهتم العروي في مقدمته للنص المترجم، بمتابعة الجدل المشار إليه آنفاً، في موضوع علاقة الفيلسوف بالقس، وعلاقة نص القس المفترض بأفكار جون جاك روسو، خاصة وأننا نقف في سياق النص، على ما يوضح تشبع روسو بمبدأ حرية العقيدة. كما نقف على احترامه لبعض القيود السياسية، التي يمنحها اعتبارات فاصلة في نصه، لنصبح في النهاية أمام أمرين يصعب التوفيق بينهما نظرياً، ذلك أن حرية العقيدة في الأفكار المستوعبة في النص مطلقة، إلا أنها في الوقت نفسه مقيدة سياسيا واجتماعياً. ولهذا السبب لم ينل خطابه في التربية كما وضح العروي، لا رضى الكنيسة ولا مواقف فلاسفة الأنوار الملحدين. عندما نتجاوز إشكالات من قبيل ما ذكرنا، نجد أن روسو يُخْرج عِظته في مشهد طقوسي معروف في السرديات الدينية. إنه يقدم خطابه من خارج المدينة، من رَبوةٍ عالية تُشرف على مجرى نهر البو، في وقت يصادف الشروق، حيث تبسط أشعة الشمس أمام الشاب اليائس روح الودِّ، التي تملأ القسيس ببساطة وسماحة الإيمان. نحو تجديد أسس الإيمان في مجتمع جديد. يمكن أن نشير إلى عينة من الموضوعات المرتبة في خطاب القس، كما رتبها المترجم لتوظيفها في سياق المناقشة التي نحن بصددها، وقد اخترنا موضوعات هذه العينة، بناءً على تصورنا العام لمرجعية الإيمان الديني، كما تبلورت في نص روسو. ونحن نعتقد أن العينة المختارة، موصولة ببعض أسئلتنا في موضوع التفكير في الدين، وفي أخلاقيات التدين في مجتمعنا. أما الموضوعات المنتقاة فهي : الإنسان سيد الكون، فقرات 53-56 ، ضوابط الأخلاق، فقرات 83-89، الضمير، فقرات 90-96، دين الفطرة، فقرات 109-111، ضمير الفرد هو الحكم، عيسى وسقراط فقرات 144-147، تجديد دعائم الأديان، فقرات 150-151. نقرأ في فقرات هذه الموضوعات معطيات مستلة من العقيدة المسيحية، وخاصة في صيَّغها البروتستانية. وهي تبرز في أغلبها بساطة الإيمان وغياب الطقوس، الأمر الذي يكشف صور التحول الكيفي الذي بلوره الإصلاح الديني، ورتبت ملامحه العامة العقيدة البروتستانية وهي تُحول الطقوسي في المسيحية إلى أخلاق الضمير، رامية بذلك إلى الإعلاء من مكانة الفرد وحريته واستقلاليته. إن القس يعرف صعوبة الموضوع، ويعرف في الوقت نفسه ضرورة الإيمان، ويروم التخلص من الجدل اللاهوتي. وقد اعتمد روسو في بسط العقيدة على ما يسهل تحويل تجربته الوجدانية في الإيمان، إلى أداة لبناء فعل بسيط، قادر على التوفيق بين العقل والوجدان، مستهدفاً بعبارة العروي، تحقيق نوع من الطمأنينة للفرد، والوحدة والاستقرار للمجتمع. اتجه العروي بعد ترتيبه لمحتوى الفقرات المكونة لعقيدة القس، إلى تلخيص الروح العامة التي تستبطنها العقيدة المذكورة أحيانا وتُجَلِّيها أخرى، مُلخصاً روحها الموصوفة في جملة واحدة بلغته، الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد. وفي هذه العبارة المكثفة، التي أوجز فيها العروي روح دين الفطرة، ما يشير إلى أن المنطق الذي يبنيه التصور السابق، إنه كما بينا آنفاً، يصدم الفلسفة والكنيسة معا، لكنه في الوقت نفسه، قابل للتوظيف من قبل كلا الطرفين. لم يكتف العروي في مقدمته المركزة بتسجيل هذه الملاحظات، فقد كانت غايته من التعريب أبعد من ذلك. فهو يعي جيداً، أن النزعة الفردية في فلسفة روسو مطلقة، وأنها في العمق تعد أهم أركان الحداثة، كما أن تعامل روسو في نظره مع الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية سياسية، يمثل بدوره ركنا أساسيا من أركان الحداثة. وهنا نقف على نتائج تصورات روسو في موضوع تملُّك السعادة والرضا عن النفس، المستندين في المنظور الروسوي إلى الإيمان بدين الفطرة. ويوضح العروي في هذا الإطار، ضرورة استيعاب روح تصورات روسو من الدين، في ضوء معطيات مُصنَّفه إميل، حيث يجري ربط التدين بالمنظومة التربوية، لكن دون إغفال ما ورد في كتابه عن العقد الاجتماعي (1762). ففي الفصل الثامن من الكتاب الرابع من هذا الأخير، يرسم روسو المبادئ البسيطة للدين، في علاقتها بالمجال السياسي، حيث ينبغي أن تكون عقائد الدين في نظره، بسيطة ودقيقة وقليلة وبدون شروح ولا تعليقات. إن وجود المقدس في نظره مؤكد بالرؤية والوجدان، إضافة إلى الجزاء والعقاب، ومبدأ استبعاد التعصب الديني، وماعدا ذلك في نظره، كما نتبين ذلك في كتابه وباقي مؤلفاته، يترك للتقييم الحر للمواطنين. يتأسس الدين المدني (دين الفطرة) على قاعدة كبرى، تروم في معطياتها الحدسية والتأملية، تجاوز أدبيات السكولائية، وجدالات اللاهوت المسيحي، لتصنع بعض معالم الرؤية الحداثية للدين في مجتمع جديد. وتشكل خيارات فلاسفة الأنوار رغم تعددها وتناقضها، بمقدماتها الكبرى في المعرفة، المستندة إلى مكاسب الفلسفة الحديثة، ومقدمات المنزع الوضعي في النظر إلى التاريخ والسياسة والمجتمع، أبرز دعائم هذا الخيار في النظر إلى الإيمان، ودوره في حياة الفرد وأنظمة المجتمع. صحيح أن خلفيات التصور الروسوي للدين في نص إميل، موصولة بنزعته الرومانسية ذات الأفق الأخلاقي المؤَسَّس، انطلاقا من تمييزه بين الطبيعة والثقافة، وصور حنينه للطيبوبة والبساطة كحالتين مرادفتين للطبيعة الإنسانية. إلا أن الطابع المركب والمتناقض لخطاب القس، يجعله موصولا في بعض جوانبه بمعطيات الكتاب الرابع في العقد الاجتماعي، وقد خصصه روسو للدين المدني. وضحنا آنفا، أن عظة الأستاذ التربوية، في موضوع الإيمان الديني، ينبغي أن تكون متأخرة في سلم التعليم، وأن لا يتم تلقينها للناشئة إلا في سن متأخرة. وأن يتجنب القس الحديث عن الألغاز، التي تُركِّبها جدالات المتكلمين، و يُلقَّن التلميذ بدل ذلك عقيدةً بسيطة سمحة، وخالية من التعصب، عقيدة قابلة للرسوخ في الضمير والفؤاد. وقد وضح العروي أن تَحقُّقَ ذلك، يماثل ما يتحقق في النظام الجمهوري الديمقراطي الذي لا يستمر، إلا إذا قام على تعاقد بين أفراد تربوا منذ الطفولة ليكونوا مواطنين حقا. فلا مناص في نظر روسو، كما يوضح العروي من خلق مستأنف، حتى يتسنى بناء مجتمع جديد، ونشر عقيدة جديدة. وما يمنح التصور الروسوي من الدين المدني في نظرنا قوة، هو استناده في بناء هذا التصور، على مبدأين موصولين بالطبيعة الإنسانية، نقصد بذلك مبدأ الحرية والتطلع نحو الكمال. وتشكل ملكة السعي نحو تَمَلُّك فضيلة الكمال، نزوعا بشريا فطريا يتيح للإنسان تجاوز عزلته، فيصوب جهوده نحو بناء المجتمع والتاريخ. يعي العروي جيداً أن موقف روسو من الدين والمعرفة والتقدم مركَّبة، وأحيانا متناقضة، وهو يشير في سياقات مختلفة من مقدمته، إلى الطابع المعقد والمختلط لجوانب من فلسفته. فهل يمكن القول إن هدفه من تمرين الترجمة المُنجز الآن، هو الدفاع عن المنظور الروسوي للدين، الذي يلح على بساطة وفطرية التدين؟ يمكن أن نشير في سياق التفكير في السؤال السابق، إلى أن الحديث عن عقيدة القس، ضمن فلسفة سياسية رومانسية، ومُؤسسة على مفردات المنظور السياسي الليبرالي، في لحظة من لحظات بنائه لمنظوره العام في موضوع السياسي ومجاله وكذا محاولته رسم صور من معالم تقاطعه مع المقدس، تجعلنا أمام بعض أوجه الخلفيات المرتبة لملامح العلمانية في الفلسفة السياسية الحديثة. إن مفاهيم من قبيل الفرد، الضمير، الطبيعة، المجتمع، البساطة، نفي التعصب، تندرج في السجل النظري للتحديث السياسي، حيث يشكل مجموع المفردات السابقة ما يمكن اعتباره بمثابة قاعدة مركزية في المنظور الفلسفي الحداثي. ومن المؤكد أن الإشارات والتلميحات التي وردت في تقديم المترجم، إضافة إلى نص روسو في مجموعه، تُعدُّ مفيدة في باب توسيع دوائر الجدل حول الموقف من الدين، وان العروي يرغب في تعميم كل ذلك. إلا أنه يجب أن نحترس من مجرد الاكتفاء بما ذكرنا، ذلك أن العروي ينبهنا بعبارة صريحة، إلى أن ما هو قوي في نص روسو، يتمثل في إبرازه للضمير، ضمير الفرد الحر، وإلحاحه على الصدق والصراحة في باب الإيمان. ثم يضيف موضحاً، أن أحاديث القس الجارية بلسان روسو عن الدين الفطري وطبيعة الإيمان، لم تكن تعالج موضوعاً مجرداً عن الدين، إن موضوعها المركزي هو الهم الديني، أسئلة الدين في مجتمعنا اليوم، وهي أسئلة موصولة كما نعرف بمشروع العروي، ومشروع توطين الحداثة في فكرنا المعاصر.