لماذا اختار العروي، بعد مسار عمري طويل، أن تكون وصيته الفكرية التي يتوج بها إنتاجه الفكري والمعرفي الغزير، عبارة عن تأملات في الكتاب العزيز؟ ما دلالة ذلك عند مفكر كبير ظل وفيا لشعاره الخالد «التاريخانية»، باعتبارها مفتاح تحررنا من التأخر التاريخي، والتحاقنا بركب التقدم الحضاري والرقي الإنساني، الذي ليس شيئا، سوى تحقيق الغرب في ديارنا؟ وماهي المسوغات التاريخية والقيمية التي تجعل العروي يعتبر الإسلام الأول هو مهد هذا الغرب والحضارة الغربية المعاصرة؟ ولماذا اختار العروي أسلوب الرسالة لبث بنود وصيته هذه، التي وسمها ب»عقيدة لزمن الشؤم»؟ ولماذا اختار النطق على لسان امرأة؟ هل لأن المرأة ، بحكم ما تكابده من أشكال المنع والميز، في عالمنا، أقرب إلى الحقيقة كما يعتقد؟ هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي سنحاول إثارتها ونحن نتأمل في «عقيدة» العروي التي استخلصها من معايشته للقرآن الكريم. يتعلق الأمر بحركة تربوية جديدة، تروم التأسيس لإصلاح ديني، لا ينفصل عن تنظيرات روسو السياسية والاجتماعية. إنه جزء من مشروع تربوي متكامل يهدف صناعة إنسان جديد على أساس ما يوحي به الطبع الأصيل والوجدان السليم، وهذا ما عرف بالتربية الجديدة في الأدبيات الحديثة التي يُعدّ كتاب ج. جاك روسو «إميل» علامتها الكبرى والفارقة. لقد تتبّع روسو «إميل» من الولادة إلى الزواج، مركزاً على ما تتطلبه كلّ مرحلة عمرية من تدابير وما تقتضيه من أشكال توجيهية ومقتضيات تربوية، حتى إذا بلغ الطفل؛ أي إميل، سن الخامسة عشرة فتح مع مربيه ملف العقيدة الدينية، لا ليفرض عليه اختياراً عقدياً معيناً، ولكن لكي يضع قدميه على طريق الاختيار السليم، حتى يتمكن من اتخاذ قراره الاعتقادي بعقله هو، لا بعقل غيره من الأوصياء، سواء كانوا مربيين أو رجال دين أو فلاسفة. ليس الطريق السليم سوى طريق الفطرة الإنسانية الأصيلة والبريئة، والذي يقود إلى دين الفطرة. وهو طريق سيثير حتماً غضب الفلاسفة؛ لأنه يؤدي إلى الإيمان الديني، ويتسبب في نقمة رجال الدين، لأنه يذهب إلى العقيدة الدينية مباشرة، في بساطتها ووضوحها، بعيداً عن وساطاتهم الطقوسية وتعقيداتهم الكلامية. وتلك تجربة عايشها روسو نفسه، كواقعة مؤلمة، بعدما «أدانه الفلاسفة على لسان فولتير، والكاثوليك على لسان رئيس كنيسة جنيف». فعاش سنواته الأخيرة «لاجئاً، وحيداً، مشرداً، نادماً (…) ابتدع أسلوباً جديداً في محاسبة النفس، وذلك في مؤلفه الشهير الاعترافات (1770) وفي كتاب «جان جاك يحاكم روسو»»(1776)». هكذا يلخص العروي مقولات روسو في العبارات التالية: «الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد». إنه الإيمان التلقائي والدين الفطري الذي ينقاد إليه الإنسان بشكل طبيعي، حينما يتحرر من كل المسبقات، سواء أكانت مسبقات لاهوتية متوارثة عند رجال الدين، أو مسبقات مادية مقررة عند الفلاسفة الماديين. إنّ المرجع الوحيد الذي ينبغي للشاب الحائر عقدياً اعتماده هنا، كيما ترسو سفينته على شاطئ الإيمان هو «حكم ضميره، نور وجدانه»، بعدما عمل على «تصفيته من شوائب الاتباع والتقليد حتى يظل بريئاً نقياً صافياً كما خرج إلى الوجود، وحتى ينعكس فيه مباشرة وبصدق، خطاب الصانع الأول». قد يسأل سائل: لماذا يعود عبدالله العروي إلى هذا النص بالضبط، وفي هذا الزمان بالضبط؟ مهما تكن تأويلات العروي لمنجزه التعريبي هذا، فإننا لن نستطيع كبح جماح الرغبة القوية التي تدفع إلى تأويل هذا المنتج على ضوء ما يعرفه عصرنا من عودة قوية إلى الدين، ومن لجوء جماعي إلى عقيدة الإيمان، وهي ظاهرة لا يمكن أن يبقى عبدالله العروي، وهو المؤرخ والمثقف والمفكر، بعيداً عنها قولاً وتحليلاً، وترشيداً وتوجيهاً. تهمّ عبدالله العروي طبعاً العقيدة الدينية الإسلامية، بحكم انتمائه لمجتمع إسلامي، لذلك نجده يسجّل من دون حاجة ضرورية إلى ذلك أنه توجد «مؤشرات كثيرة على أنّ روسو لم يكن يحمل أيّ عداء مبدئي للديانة الإسلامية»، بل إنّ الظن يغلب عند العروي أنّ روسو «أدرك أنّ مفهوم دين الفطرة أقرب إلى عقيدة الإسلام منه إلى اليهودية أو المسيحية». لذلك يختم صاحب «السنة والإصلاح» تقديمه بكلمات تتعمد إخفاء ما في نفسه من تفاعل عقلي وحنين وجداني للمنهج التربوي الديني عند روسو، بما هو منهج نابع من ضمير فردي حر متفاعل مع الدين الفطري، حيث يختم قائلاً: «كلام روسو (…) ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهمّ الديني. وهذا الهمّ عاد بعد أن غاب، وإن قدر له أن يغيب مجدداً، فهو لا محالة عائد ما دام الإنسان إنساناً».