السياسة في هذا البلد تشبه جسدا نحيلا لمريض تدفع عربته إلى قاعة عمليات جراحية؛ بالمبضع والمشرط، ينجح الجراحون المهرة الذين عادة ما تُغطى أسماؤهم، ويُتستّر على حركاتهم، في إحداث الجروح ورتقها. وبواسطة التخدير، يمكنهم أن يفعلوا كل ذلك دون أن يشعر المريض بما يحدث من حوله. عمليتان جراحيتان على قدر بالغ من الدقة، أُجريتا على السياسة في البلاد منذ نونبر 2016، وقد نجحتا؛ زرع «حكومة» داخل الحكومة التي كان ينوي حزب العدالة والتنمية تشكيلها، واقتلاع إلياس العماري من قيادة حزب الأصالة والمعاصرة. عمليتان غيرتا كل شيء سيأتي فيما بعد. لكن هل نجا المريض؟ إذا كنّا مرغمين على تصديق عزيز أخنوش في شيء، فإننا، لا محالة، سنكون مضطرين إلى قبول حكمه النهائي على هذه الحكومة التي يشارك فيها لاعبا رئيسا: «الملك يقوم بكل شيء». هل نستطيع التحقق من عكس ذلك؟ نعم، لأن رئيس التجمع الوطني للأحرار كان دقيقا، فهو لا يعني ب«كل شيء»، أي شيء، لقد استخدم العبارة الغارقة في الآداب السلطانية، كما هي عادة أولئك المحسوبين على حاشية القصور: «المنجزات». لا يستطيع حزب العدالة والتنمية أن يعارض ذلك، كما لا يعارض أخنوش في شيء إلا إن كان في تقديره لا يعود إلى «منجزات الملك». وبالطبع، ليس لرئيس الحكومة الحالي أي شيء لقوله في هذا الصدد. فهو على قدر كافٍ من الوعي بحجم المرض في حكومته كما أغلبيته. يتوجب على سعد الدين العثماني الاقتناع، من الآن، بأن شريكه الرئيس يجرجره إلى 2021 حيث سيتركه هناك مقيدا، أعزلَ. في ذلك الحين، سيكون على حزب العدالة والتنمية أن يقود حملته صفر اليدين. لا يمكن للحيلة التي استعملها عبد الإله بنكيران أن تستخدم مرتين؛ إن طلب ولاية ثالثة هذه المرة سيقف عند حدود «المنجز»، وأما وقد جرى سلبه منه بالطريقة التي يرسخ فيها أخنوش ذلك في العقول، فإن كل ما تبقى هو أن يشحذ سكاكينه كما فعل بنكيران عام 2016 في مواجهة الغول الذي صنعه عدوا للجميع. لكن أي غول سيصنعه «البيجيدي» لنفسه هذه المرة؟ أخنوش، على ما يبدو. ستكون هذه حجة فاقدة للمصداقية السياسية على كل حال، لأن الناس ملوا مثل هذه الألاعيب السحرية. يستعمل العثماني، في الوقت الحالي، تقنية لافتة لتجنب إساءة فهمه؛ حركة رأس الدجاجة. يبقى الرأس ثابتا فيما الجسم يهتز بعنف تحت الضربات، أو فوق المطبات. يثير هذا الموقف شكوكا في ما إن كان للعثماني شيء مخبأ لعام 2021، لأن هذه القدرة الفائقة على الحفاظ على رباطة الجأش قد تكون مجرد إخفاء متقن لغضب عارم. لكن المعارك السياسية لا تخاض دون «عدو»؛ وعلى البيجيدي أن يحدده بفترة كافية. ليس هناك مشروع جديد بمقدور هذا الحزب أن يعرضه على الناس، فقد أنهكته السنوات العشر، وتآكلت صورته، ويكاد شركاؤه يتركونه وحيدا، منعزلا، في جسم لا حياة تدب فيه. لكن منطق الانتخابات يفرض، شكلا على الأقل، وجود منافسين حقيقيين. إننا نُطل بغرابة على منافسة مقبلة بين حليفين أغلبيين. لكن، ما عسى البيجيدي فاعلا؟ لا يستطيع البيجيدي صناعة عدو بحجم ذلك الذي لاحقه بنكيران طيلة سنوات قبل 2016، أي حزب الأصالة والمعاصرة. مغادرة إلياس بذلك الشكل المهين -وإن كان من غير ضروري فعل ذلك بتلك الطريقة آنذاك- تركت الحزب كما نراه الآن؛ كلما حاول الوقوف على رجليه، قصمت ظهره ضربة جديدة. كنّا على قناعة بأن القدرة الضعيفة لحكيم بنشماش على إدارة هيئة كهذه، لا ترجع لأسباب تتعلق بكفاءته السياسية، ولكن لأن إلياس ترك في الحزب الكثير من القادة الذين لا يستسلمون لأحد سواه. وبنشماش واحد من هذه الجماعة التي كانت تحصد الأرباح دون أن تفعل شيئا على قدر من الجدية. وماذا فعل بعد توليه مقاليد حزبه؟ ترك المفاتيح عند العربي المحرشي. من الصعب تخيل أشخاص، كأحمد اخشيشن أو عبد اللطيف وهبي أو محمد الحموتي، يتلقون الأوامر من المحرشي بعد ذهاب إلياس. كانت خطة بنشماش أن ينشئ بيروقراطية تُراكم لفائدته القوة والنفوذ المطلوبين لإدارة الحزب، لكنه أخطأ في الطريقة المتبعة. شبكة المصالح التي رعاها إلياس لفترة طويلة وجعلته «إلها»، سرعان ما تفككت بخروجه، لكنها خلفت وراءها أطماعا جديدة. من العسير على بنشماش بناء شبكة مصالح جديدة وسط الأطماع القائمة، لذلك، سرعان ما انهار كل شيء. لدينا الآن، بكل بساطة، حزب استعراضي؛ مفتول العضلات لكنه منخور القوى. هيئة تسير عمليا برأسين، ويُسيّرها تياران في معركة كسر عظم لم يعد بالإمكان إخفاؤها. وحتى تنتهي إلى ما ستنتهي إليه، فإن سلسلة الأزمات داخل الحزب ستقود دون شك إلى مزيد من الإضعاف. وفي هذه الأثناء، يحاول المشرئبون بأعناقهم إلى 2021 أن يستفيدوا من هذه المشكلة؛ «البيجيدي»، بتجاهلها بالمطلق، والأحرار بالقضم من أطرافها. في نهاية التحليل، إن كل ما بين أيدينا الآن هو شيء في طور التحلل. وسيكون صعبا أن يُعرض هذا للعموم بعد سنتين، فالناس ستزكم الرائحة أنوفهم.