رجال الدولة والساسة الكبار في العالم حينما يغادرون السياسة، طوعا أو إجبارا، ويفقدون السلطة لسبب أو لآخر، يلتزمون الصمت ويبتعدون عن الأضواء، ويختارون الاستمرار في خدمة أوطانهم بطرق أخرى، وهذا هو سلوك كبار ساسة الدولة بفرنسا أو حتى بالمغرب، الذي يزخر بنماذج متعددة، نذكر من بينهم الراحل عبد الله إبراهيم، عبد الرحمان اليوسفي وعباس الفاسي، الذين اختزلوا أو استقالوا من السياسة بشرف وبصمت وبأخلاق، وبقوا محترمين من طرف الكل. كلمة بنكيران استثنائية في سياق استثنائي عزل كلمة بنكيران أمام مؤتمر شبيبة حزب العدالة والتنمية- التي كانت قاسية حتى على بنكيران ذاته وعلى حزبه- عن سياقها العام، يفقدها شيئا من دلالاتها. يتميز السياق العام، الذي ألقى فيه بنكيران كلمته، بالسياق الغامض الذي فقدت فيه العديد من المؤسسات هيبتها. وقد استغل بنكيران هذا السياق الاستثنائي ليلقي أمام أمين حزب "البيجيدي" ورئيس الحكومة العثماني، وأمام شبيبة الحزب، كلمة أعادت كل شيء إلى درجة الصفر بين مكونات الحكومة وبين مؤسسات الدولة في سياق استثنائي دقيق وصعب. كلمة يستشف منها خصائص النرجسية العدائية المدمرة، وهذا ما يفسر تجاهل بنكيران عدو/ خصم الأمس السيد إلياس العماري وحزبه الأصالة والمعاصرة للتركيز على عدو/ خصم جديد هو عزيز أخنوش وحزبه التجمع الوطني للأحرار، مع فرق أساسي هو أن مواجهة بنكيران لإلياس ولحزبه كانت تتم من موقع مؤسساتي، أي أن مواجهة بنكيران ل"البام" وأمينه العام كانت تتم إما بصفته أمينا عاما ل"البيجيدي" أو رئيسا للحكومة، أما هجومه على عزيز أخنوش وحزبه فتم دون أي صفة مؤسساتية لبنكيران، وهو ما يطرح افتراضين: إما أن بنكيران يتبادل الأدوار مع قادة حزبه، وبالتالي فهم يتحملون مسؤولية شكل ومضمون كلمة بنكيران أمام شبيبة الحزب، وإما أنه كلام شخصي لا يهم إلا بنكيران، وفي هاته الحالة على الأمين العام ل"البيجيدي" وأعضاء أمانة الحزب إصدار بلاغ رسمي يتبرؤون فيه مما قاله بنكيران عن زعيمي حزبي التجمع الوطني والاتحاد الاشتراكي، أو التوقيع على بلاغ مشترك مع جميع زعماء الأغلبية الحكومية، بمن فيهم العثماني، وهو ما شكل موضوع اجتماع أحزاب الأغلبية الحكومية يوم الخميس مع العثماني دون إصدار أي بلاغ، نظرا لاختلاف وجهات النظر، وخطورة ذلك على علاقة العثماني ببنكيران من جهة، وكذا بأعضاء المجلس الوطني وأعضاء شبيبة الحزب من جهة أخرى، والذين لن يقبلوا أن يوقع العثماني إلى جانب لشكر وأخنوش بلاغا تنديديا ببنكيران. رسائل كلمة بنكيران أو الرسائل الانتحارية لبنكيران يصعب منهجيا فهم رسائل بنكيران دون ربطها بوضعيته ونفسيته. بنكيران الذي سطع نجمه عبر سنوات من العمل - أصبح بعدها ظاهرة سياسية واجتماعية مثيرة- هوى نجمه بسرعة غير متوقعة وتلقيه صدمات متتابعة، تمثلت في إعفاء ملكي من رئاسة الحكومة، وفقدان رئاسة الأمانة العامة للحزب، وتخلي أقرب مقربيه عنه في مدة زمانية قياسية. وبعد المؤتمر الوطني اعتقد الكثيرون بأن بنكيران سيتبع خطوات اليوسفي والفاسي، وسيختار التقاعد السياسي عن طواعية، لكن العكس هو ما حدث، حيث استغل مؤتمر شبيبة الحزب ليخلق الحدث، ويحرك ركود وجمود وروتينية الحياة السياسية، ويرسل رسائل إلى كل مكونات النظام السياسي، نذكر منها سبع رسائل هامة: 1- تأكيده بأنه ملكي حتى النخاع، وبأن علاقته بالمؤسسة الملكية هي علاقة تعاون لا تنازع، وبأنه ملكي وليس مخازنيا، وبأن احترامه كان وما زال للملك وليس للمحيط الملكي، مخاطبا إياهم "عيقتو باركا من البسالة".. كلمات من الدارجة، لكنها تحمل دلالات عميقة. لذلك من المتوقع أن تخضع هذه الكلمات للتفكيك وللتحليل من قبل من يهمهم الأمر. 2- اعترافه بخطورة زواج السلطة والمال بالسياسة. زواج اعتبره بنكيران خطرا على الديمقراطية، والرسالة –هنا- موجهة إلى أخنوش، الذي يُهيكِلُ حزبه على أسس مغايرة لما عهدناه في مناهج قادة حزب التجمع الوطني السابقين. ويتبين من اللغة الهزلية التي خاطب بها بنكيران أخنوش أنه شعر بصعود بورصة أخنوش كقوة هادئة صاعدة في السوق السياسي المغربي. أخنوش الذي فهم جيدا قوة منهجية "البيجيدي"، استفاد في ذلك من أخطاء الدولة، التي راهنت على حزب "البام" للحد من المد الإسلامي، واقتنع – في الوقت نفسه - بأن مواجهة قوة حزب "البيجيدي" لا يمكن أن تتم إلا عبر الآليات التنظيمية والديمقراطية، ونهج سياسة القرب من المواطن واختيار المرشحين النزهاء وربط الخطاب بالفعل. لكن ما تناساه بنكيران هو أن هناك خطرا آخر يهدد الديمقراطية، هو خطر زواج السلطة بالدين، الذي يعد من أخطر ما يهدد الديمقراطيات والدول. 3- مطالبة بنكيران حكومة العثماني والحزب بمتابعة أوراش الإصلاح، والنظر إلى المستقبل دون أي خوف أو تردد لكون الحزب يتوفر على قاعدة شعبية عريضة، وكأنه ما زال هو الأمين العام وليس العثماني. 4- تأكيده بأنه لن يعتزل السياسة، وبأنه سيبقى في الواجهة، في الوقت الذي يتفق الكل على ضعف القيادة الجديدة لحزب العدالة والتنمية، وعلى تراجع شعبية الحزب بقيادة العثماني. 5- التشبث برفض أي ابتزاز من أي شخص أو من أي جهة -وهي رسالة موجهة إلى من يسميهم بنكيران قوى التحكم- ولو أدى ذلك إلى الخروج من الحكومة. 6- تأكيد بنكيران بأن حزب العدالة والتنمية لا يسير برأسين أو بزعيمين، بل هو حزب موحد، ويجب أن يبقى كذلك، رغم الزلازل والصدمات التي هزته. لكن العارف بالأمور الدقيقة للحزب يعرف بأن بنكيران لم يقل الحقيقة، فواقع "البيجيدي" مشتت ويمر بأزمة داخلية صعبة. فالحزب يسير بأمانة عامة تدعم العثماني مقابل رئاسة المجلس الوطني وبعض البرلمانيين والمستشارين ورئاسة شبيبة الحزب الداعمين لبنكيران. 7- تأكيد بنكيران دعمه للحكومة، لكنه دعم مشروط بضرورة الحفاظ عن استقلالية اتخاذ القرار، واحترام إرادة المواطن، وعدم استمرار العثماني في قبول ابتزازات بعض أحزاب الأغلبية الحكومية أو بعض القوى النافذة. يتبين من رسائل كلمة بنكيران أمام أعضاء شبيبة الحزب بأنها متعددة ومست مؤسسات مختلفة من الدولة بأسلوب قاس ومباشر، يفهم منه أن بنكيران، الذي فقد الكل، يريد أن يلعب بالكل من أجل الكل، لذا جاءت رسائل كلمته كمدافع قوية في كل الاتجاهات. لكن ما نسيه بنكيران، وهو يوجه مدافعه في كل الاتجاهات، هو أنه سيكون أول ضحاياها، إلى جانب حزبه. لذلك يمكن القول بأن رسائل بنكيران هي رسائل ذات بعد انتحاري بالمعنى السياسي، وستكون لها تداعيات على مستقبله السياسي، وعلى مستقبل حزبه. أهداف كلمة بنكيران شخصية بنكيران ومزاجه وطريقة تدبيره للخلافات وللسياسة تعكس شكل ومضمون هاته الكلمة. فالرجل حينما تحدث كان يهدف إلى تحقيق نوعين من الأهداف: 1- أهداف تكتيكية، مفادها إقناع الرأي العام بأنه ما زال قويا، وبأنه ما زال قادرا على التحمل، وبأنه ما زال الناطق باسم الحق وباسم الشعب والمدافع عن المظلومين من سلطة أصحاب السلطة والجاه والمال، وإن كان ذلك يتعارض مع فقدان بنكيران الصفة القيادية. لكن كاريزميته وقوة تواصله واختيار كلماته مكنته من تحقيق أهم أهدافه التكتيكية، وهي العودة بقوة إلى النقاش العمومي، وإلى واجهة السياسة الوطنية، وتقزيم أمين حزب العدالة والتنمية وتيار الاستوزار أمام شبيبة الحزب والرأي العام، وتقوية مواقع أتباعه داخل المجلس الوطني، وداخل شبيبة الحزب. 2- أهداف استراتيجية، حيث أرادت الشبيبة تكريم بنكيران، فإذا به ينبعث ويحول سياق التكريم إلى تأزيم الوضع داخل حزب العدالة والتنمية، وداخل التحالف الحكومي، وهذا من أهم أهدافه الاستراتيجية، ونبرهن على ذلك بردود الفعل المختلفة لأعضاء من الحكومة، بل إن قوة كلمة بنكيران دفعت وزراء حزب التجمع الوطني للأحرار إلى مقاطعة المجلس الحكومي، وحتى بعض وزراء حزب الاتحاد الاشتراكي، مما يعني أن الهدف الاستراتيجي لبنكيران هو خلق تصدع داخل الأغلبية الحكومية ليتحول إلى أزمة سياسية قد تؤدي إما إلى حل الحكومة أو الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، يعتقد معها بنكيران أنه يمكن أن يعود إلى السلطة، وهو في رأيي المتواضع من المستحيلات. لذلك فكلمة بنكيران أمام شبيبة الحزب كانت محكمة ومدروسة، حددت لها أهدافا تكتيكية وأخرى إستراتيجية، والأكيد أن كلمة بنكيران عن المحيط الملكي وعن عزيز أخنوش وإدريس لشكر لن تتوقف تداعياتها مع بلاغ مشترك للأغلبية الحكومية حتى لو وقع عليه العثماني، أمين حزب العدالة والتنمية، بل إن تداعياتها ستكون على المستوى الاستراتيجي، مما يعني أنه سيؤثر على مستقبل التحالف الحكومي الضعيف أصلا، وعلى علاقات المحيط الملكي وقادة حزب التجمع الوطني بحزب "البيجيدي" وقادته. تداعيات كلمة بنكيران لغة ورسائل كلمة بنكيران شكلت زلزالا سياسيا – مهما اختلفنا حول شكلها ومضمونها- لكونها اتخذت مواقف قاسية وساخرة من عدد من مؤسسات الدولة ورموزها، لذلك لن تمر كلمة بنكيران ككلمة عابرة في زمن سياسي عابر، بل ستكون لها تداعيات ستدفع بعدد من الفاعلين والمؤسسات إلى تحديد مواقفهم من بنكيران ومن حزبه ومن الزواج بين السلطة والدين، ليس في الحاضر فقط، بل حتى في المستقبل. بل إن الدولة يمكن أن تضحي بحزب العدالة والتنمية إذا استمر بنكيران في سياسته الاستفزازية، التي أثبت الواقع عجز أمانة العثماني عن احتوائه. العثماني وحزب "البيجيدي" وكلمة بنكيران سياسيا يتحمل الأمين العام ل"البيجيدي" وقيادة أمانته مسؤولية مباشرة لأنهم التزموا الصمت بعد كلمة بنكيران، ولم يصدروا أي تنديد من العثماني، بصفته الأمين العام للحزب، ولا من أي عضو من أعضاء الأمانة العامة. لذلك من المنتظر أن يكون السيد العثماني أول ضحايا كلمة بنكيران لأنه تم تقزيمه أمام كل هياكل الحزب أولا، وأمام الرأي العام ثانيا، وأحرجه أمام المحيط الملكي ثالثا، وأمام التحالف الحكومي رابعا، في وقت دقيق من تاريخ حكومة العثماني، التي تعاني أزمات بنيوية متعددة. الأغلبية الحكومية وكلمة بنكيران عرت كلمة بنكيران حقيقة ضعف انسجام الحكومة وهشاشة مكوناتها. والغريب في الأمر أن تحدث هذه الكلمة أزمة بين مكونات الحكومة، التي كان عليها أن لا تعطيها أكثر مما تستحق، وأن تجيب عن كلمة بنكيران بتفعيل برنامجها الحكومي، والاستمرار في تدبير السياسات العمومية بكيفية أكثر قوة وأكثر فعالية بدل تخصيص أحزاب الأغلبية الحكومية اجتماعات للرد على كلمة بنكيران، مما سيضعف العثماني أكثر أمام بنكيران وأتباعه، خصوصا أن من الضروري أن تبقى المؤسسات أقوى من الأشخاص لأنه لا يعقل أن تؤثر كلمة لسياسي دون أي صفة مؤسساتية في زعماء ستة أحزاب تشكل السلطة التنفيذية. الخلاصة، برهنت كلمة بنكيران أمام شبيبة الحزب بأنه ينتمي إلى فئة الشخصيات النرجسية المدمرة والشغوفة بالرغبة في الحصول على إعجاب الناس وبأي ثمن، ولو على حساب القيم السياسية والأخلاقية، بل ولو على حساب حاضر ومستقبل حزبه. لذلك تؤكد كل النظريات السياسية بأن القيادة النرجسية هي أحد الأساليب التي لا يهتم فيها القائد سوى بنفسه، معتمدا في ذلك على أيديولوجية الهيمنة والعدائية دون الوعي بمخاطر التداعيات. طلب للزعيم بنكيران تعرف سيدي الكريم مدى احترامي وصدقي معك، وتعرف مواقفي منك ومن حزبك، والتي أديت ثمنا غاليا عنها من طرف عدة مؤسسات، لذلك لي طلب رجاء... رجاء ورجاء، أرجوك أن تنسحب من عالم السياسة بشرف وبكبرياء، وأن تبتعد عن منهجية الإثارة والتشويش على حلفاء الأمس ورفاق دربك في حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم السيد العثماني، الذي تعتقد بأنك تدمره، في حين أنك تدمر ذاتك ومستقبل حزبك. وتذكر –جيدا- قبلة جلالة الملك على جبين الزعيم عبد الرحمن اليوسفي.