الاختلالات التي عرفتها وتعرفها الجامعة العربية أصبحت بادية للعيان، حتى أن الكثير من الدبلوماسيين والسياسيين والمثقفين العرب تساءلوا ما من مرة: لأي شيء تصلح هذه الجامعة وما الغاية من انعقاد اجتماعاتها وقممها مادامت التوصيات الصادرة عنها لا تجد طريقها للتنفيذ، وما دام أنها وعلى امتداد 73 سنة من تأسيسها لم «تجمع» الدول العربية التي ازدادت فرقة وتشرذما وصراعات سياسية واقتصادية… في هذه الدراسة التي تنشرها «أخبار اليوم» على حلقات، يقوم الدكتور محمد تاج الدين الحسيني، بتسليط الضوء عن الإخفاقات التي عرفتها الجامعة العربية وجهود إصلاحها. إعادة صياغة وتنفيذ سبل الاندماج الاقتصادي: ينبغي الإشارة منذ البداية إلى أنه بالرغم عن التجربة الطويلة للجامعة العربية، بوصفها تأسست منذ سنة 1945، إلا أن آلية اتخاذ القرار كانت مطبوعة في كثير من الحالات بالارتجال والتسرع، كما أن الكثير من القرارات صيغت واتخذت لتبقى حبرا على ورق. ويبقى من الأمثلة البارزة في هذا المجال، تسرع الجامعة في إعلان إقامة السوق العربية المشتركة منذ سنة 1964، دونما وعي بالتجارب التاريخية في هذا المجال أو بضوابط القانون الدولي الاقتصادي التي ترتكز بالنسبة إلى الضوابط الاندماجات الإقليمية، على التدرج في الاندماج لضمان أفضل النتائج. ويقدم الاتحاد الأوروبي نموذجا معبرا عن النهج التدرجي، إذ اختارت البلدان الأوروبية أن تبني علاقاتها بشكل متدرج، وبفضل التوافق الفرنسي الألماني، من إقامة منظمة متواضعة للفحم والفولاذ قبل التفكير في توسيعها فيما بعد على مستوى الصلاحيات والسلطات، وكذلك أفقيا ليصل أعضاؤها إلى 27 دولة. من جهة أخرى، فإن جل الدراسات المقدمة في إطار قانون الاندماجات الإقليمية تفترض سلوك سياسة المراحل قبل التفكير في تحقيق السوق المشتركة، ثم تحقيق الوحدة الاقتصادية. ويمكن القول بأن التدرج المنطقي لتأسيس سوق مشتركة ينطلق من إقامة منطقة للتبادل الحر، ثم المرور بعد نجاحها إلى الاتحاد الجمركي، ثم إلى تأسيس سوق مشتركة قبل أي تفكير في الوحدة الاقتصادية. ويرتبط هذا التسلسل الاندماجي بالتعريفات التي حددتها المادة 24 من الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة، والتي تعتبر أن منطقة التبادل بأنها "مجموعة مكونة من إقليمين جمركيين أو أكثر يتم فيما بينهما إزالة حقوق الجمارك بالنسبة إلى المبادلات التجارية الأساسية المتعلقة بالمنتجات التي مصدرها الأقاليم التابعة لتلك المنطقة. أما الاتحاد الجمركي، فهو نموذج أكثر تقدما على مستوى الآلية الاندماجية من منطقة التبادل الحر، إذ يتحقق نتيجة حلول إقليم جمركي واحد مكان إقليميين أو عدة أقاليم جمركية عندما يؤدي هذا الحلول إلى تنحية حقوق الجمارك والقيود التجارية بين الأقاليم المكونة للاتحاد، وكذا عندما تصبح حقوق الجمارك وباقي التنظيمات المطبقة من طرف أعضاء الاتحاد في مواجهة الأقاليم الأجنبية عنه موحدة ومتطابقة. ويمكن القول باختصار بأن الاتحاد الجمركي = منطقة تبادل حر + تعرفة جمركية موحدة في مواجهة العالم الخارجي. أما السوق المشتركة ورغم أن الاتفاقية العامة لم تقدم تعريفا واضحا لها إلا أنها تعني، بالإضافة إلى إزالة القيود الجمركية بين الأعضاء وتوحيدها تجاه الخارج إزالة كل الحواجز التي تعيق حركة انتقال وسائل الإنتاج من أشخاص ومواد و رؤوس أموال وخدمات، بينما يعتبر الاتحاد الاقتصادي أكثر تقدما من السوق، إذ لا تكتفي الدول الأعضاء بتحرير عملية انتقال وسائل الإنتاج، بل تتجاوز ذلك إلى خلق الانسجام والتطابق في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الدول المعنية تتجه نحو خلق أجهزة فوق وطنية تتنازل لها تدريجيا عن السيادة في مجالات تخصصها، وهو بالضبط ما أنجزه الاتحاد الأوروبي عندما وقع أعضاؤه اتفاقية ماستريخت سنة 1992. وإذا نحن قارنا هذه الضوابط مع الممارسة العربية، في إطار الاندماج الاقتصادي، فسوف يتبين أن آلية اتخاذ القرار تميزت في كثير من الأحيان بالتسرع والارتجال، بل وبخلط مراحل الاندماج مما كانت نتيجته التعثر والإخفاق. هكذا كانت الجامعة العربية سباقة إلى الإعلان عن تأسيس السوق العربية المشتركة منذ سنة 1964، إلا أنه ظهر فيما بعد أن يتجه التفكير إلى المرحلة الأولى للاندماج، وهي منطقة التبادل الحر فتم اتخاذ القرار بعد عدة عقود بإنشاء المنطقة العربية الكبرى للتبادل الحر، وذلك في شهر نونبر 1997، على أساس أن يشرع في التخفيضات الجمركية السنوية بنسبة 10% ابتداء من سنة 1998. ثم إن المجموعة العربية سارعت عند اجتماع الدورة 66 للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في شهر شتنبر 2000، إلى اتخاذ القرار بإنشاء الاتحاد الجمركي العربي. وتجدر الإشارة إلى أن أيا من هذه الاتفاقيات لم تصل إلى التنفيذ بشكل نهائي، بل إن كثيرا من البلدان العربية أصبحت تجد نفسها مضطرة إلى توقيع اتفاقيات موازية بخصوص المرحلة الأولى والمتمثلة في منطقة التبادل الحر، وهكذا عمدت كل من الأردن وتونس والمغرب ومصر إلى توقيع اتفاقية أكادير للتبادل الحر كوسيلة لتجاوز الجمود الذي عرفته العلاقات العربية بهذا الخصوص، كما أن الكثير من البلدان العربية عمدت إلى توقيع اتفاقيات ثنائية للتبادل الحر. ويبدو واضحا تبعا لذلك أن الطموحات الهادفة إلى إقامة اتحاد اقتصادي عربي تبقى بعيدة المنال، ويمكن التفكير جديا في إقامة سوق عربية مشتركة على المدى المتوسط أو الطويل، مع أخذ الملاحظات التالية بالاعتبار: * إن كل خطة استراتيجية للوصول إلى صيغة السوق المشتركة تفترض بداهة النجاح المطلق في إقامة منطقة التبادل الحر العربية، وبعد ذلك النجاح في إقامة الاتحاد الجمركي، وبعبارة أخرى، فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب بكيفية ذات أولوية توحيد الأقاليم الجمركية للبلدان العربية عن طريق تمكين سائر المنتجات المتبادلة بين مجموع هذه الأقاليم من عبور الحدود دون أداء الرسم الجمركي، ودون إخضاعها لقيود كمية أو إدارية، باستثناء ما ترخص به ضوابط المنظمة العالمية للتجارة. وعند استكمال هذه المرحلة، فإن على البلدان العربية أن توحد كمنطقة حرة تعريفتها الجمركية في مواجهة العالم الخارجي، وعندما تتحقق هذه الشروط بشكل جماعي، عندها فقط، يمكن التفكير جديا في إنشاء سوق مشتركة عربية يتحقق معها مبدأ الانتقال الحر للأشخاص والمواد والخدمات دون أية قيود. * إن تبسيط هذه المعطيات في إطارها الاقتصادي لا يمنع من التفكير جديا في الحواجز التي تعرقل تحقيق هذه الخطوات، والتي يأتي على رأسها غياب الإرادة السياسية والأنانيات القطرية الضيقة، واعتماد المكاسب الظرفية على حساب الامتيازات المستقبلية. ومن المؤكد أن التطبيق الديمقراطي السليم من شأنه أن يساهم في إزالة هذه العراقيل. فالحكومات المعبرة عن إرادة شعوبها ستكون، دون أدنى شك، قادرة على الانخراط في المسار الاندماجي ليس فقط، في مستوى إنجاح قيام منطقة التبادل الحر والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، بل حتى عندما يتعلق الأمر بالاتحاد الاقتصادي، فقد أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي أن الحكومات الديمقراطية وحدها القادرة على التنازل عن جزء من سيادتها لصالح المؤسسات الفوق وطنية التي أنشأها الاتحاد. * إن اعتماد هذا النهج يتطلب وضع خطة استراتيجية متكاملة، تأخذ بعين الاعتبار موافقة الأطراف المعنية من عدمها، مع تحديد الاستحقاقات بالنسبة إلى كل مرحلة، وتوضيح التزامات كل الأطراف في كل استحقاق، وترتيب الجزاءات في حالة المخالفة. * إن هذا المشروع الضخم والاستراتيجي بالنسبة إلى مستقبل الشعوب العربية وتنميتها ورخائها، لا ينبغي أن يتم الاقتصار على إدراجه كمحور ضمن جدول أعمال المجلس الاقتصادي، بل ينبغي أن تؤسس من أجله هيئة متخصصة عليا، تجمع في آن واحد وزراء الخارجية والاقتصاد والمالية، وترفع تقاريرها مباشرة إلى اجتماعات القمة. * إن أهمية هذا المشروع الاستراتيجي تتطلب، كذلك، الشروع العاجل في مجموعة من التدابير المواكبة التي يمكن أن يسند البت في تفاصيلها وآجال تطبيقها إلى لجنة مختصة من الخبراء، وهي التدابير التي تجعل الانتقال من مرحلة إلى أخرى مطبوعا بالسلاسة واليسر، وذلك من قبيل فتح الحدود المغلقة بين بلدان الجوار، خوصصة قطاعات الإنتاج التي لاتزال تحتكرها الحكومات، توحيد التشريعات المتعلقة بالتبادل التجاري والمنافسة ومنع الاحتكار والنظام الجمركي…إلخ، وذلك باعتبار أن كل تأخير في ملاءمة القوانين وربط مرجعيتها مع ضوابط منظمة التجارة الدولية إلا وسينعكس سلبيا على تجاوز مرحلتي التبادل الحر والاتحاد الجمركي والعبور إلى نموذج السوق المشتركة.
خاتمة: تحيي الجامعة العربية خلال هذه السنة الذكرى السبعين لإنشائها. وقد عرف المجتمع الدولي خلال هذه المدة تطورات مذهلة، أصبح معه ما كان معروفا بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية متجاوزا بكل تأكيد. فقد انهار توازن القوى القائم على الثنائية القطبية، وأصبح العالم يتجه بعد تراجع الولاياتالمتحدة كراعية لنظام الأحادية نحو نظام متعدد الأقطاب، لقد كانت التعددية قائمة على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي عندما تأسست المنظمة العالمية للتجارة في منتصف تسعينات القرن الماضي، إلا أنها أصبحت اليوم تشمل المجال العسكري، بل وحتى التسابق المحموم لاكتساب السلاح النووي. لقد أصبحت المجموعة الدولية بفضل سياسات العولمة مجرد قرية شمولية، وصارت التكتلات القوية هي وحدها القادرة على فرض إرادتها، بينما الكيانات المنفردة مرشحة، إما للتهميش أو لكي تخضع لنموذج جديد من التبعية والاستغلال. ويبدو أن حال المنطقة العربية أسوأ من غيرها، فقد كانت مضاعفات الربيع العربي سلبية بكل المقاييس، ومن تم أصبحت مسؤولية الجامعة العربية أعظم مما كانت عليه في أي وقت مضى. وإذا كان على الجامعة أن تستفيد الدروس من الإخفاقات المتوالية اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، فإن عليها اليوم أن تعيد حساباتها حتى تواجه واقعا يزداد مرارة مع توالي أحداث تفتت الدول وصعود الإرهاب والتطرف والعنف واستفحال آثار الحرب والدمار. ولا سبيل للمواجهة بالتأكيد، إلا من خلال صياغة خطة استراتيجية تعيد الجامعة من خلالها النظر في علاقتها بشعوبها، وتعمل في آن واحد على تحقيق الاندماج بين دولها، وفق منهج عقلاني تؤطره إرادة سياسية صادقة وتتوفر له الوسائل والمقومات لتفادي الفشل والإخفاق. ملخص الورقة: تنطلق هذه الورقة من قناعة راسخة بأن الجامعة العربية أخفقت في تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، وهو إخفاق لم يكن إلا نتيجة لعدم استيعاب إطارها المؤسسي ووسائل عملها للتحديات، التي أصبح يفرضها واقع المجتمع الدولي سواء على مستوى توازن القوى الشمولي والجهوي أو تحول المجتمع الدولي إلى قرية شمولية نتيجة ظاهرة العولمة، التي أصبحت تهيمن على مختلف نواحي الحياة. ومع رياح الربيع العربي ارتفع مستوى التحديات التي تواجه المنظمة، التي كان يظهر أنها بعيدة عن طموحات المواطن العربي العادي وهمومه، وأنها فعلا في حاجة إلى مراجعة علاقتها بفعاليات المجتمع المدني، وكذلك للمؤسسات التي تمثل الشعوب، بما فيها البرلمان العربي. لقد حاولت المنظمة تباعا، وعلى أعلى المستويات، صياغة مشاريع لتغيير الوضع القائم وتحقيق الإصلاح، إلا أن الجامعة ظلت مكتفية باتخاذ القرارات دون تمكينها من الوصول إلى حيز التنفيذ، وهو ما يؤثر جديا على مصداقيتها ويهدد استمرارها. وهكذا، وانطلاقا من هذه القناعة، فقد تم تقسيم هذه الورقة إلى محورين، يتناول أولهما الإخفاق في كل من الميدان الاقتصادي والاجتماعي وكذلك على المستوى السياسي والاستراتيجي، بينما تم التركيز في المحور الثاني على الاقتصار بالنسبة لمجالات تحقيق الإصلاح على ميدانين أساسيين يرتبط أولهما بما ينبغي أن تكون عليه الجامعة في إطار علاقتها بالشعوب العربية بما في ذلك إصلاح البرلمان العربي ومجال حقوق الإنسان وتوسيع مشاركة فعاليات المجتمع المدني في أعمال المنظمة، كما تم التركيز على إعادة صياغة وتنفيذ مناهج الاندماج الاقتصادي، والتي ينبغي أن تحتكم إلى منهج عقلاني وتدرجي تفرضه ضوابط القانون الدولي الاقتصادي انطلاقا من منظمة التبادل الحر إلى الاتحاد الجمركي وصولا إلى السوق العربية المشتركة، وذلك قبل التفكير في إنشاء اتحاد اقتصادي عربي، وتفاديا للفشل في هذا المسار، فإن الانتقال إلى مرحلة موالية يتطلب استكمال المرحلة السابقة لها بجميع عناصرها، كما يتطلب بالتأكيد تحقيق العديد من الشروط الموازية التي يبقى الاندماج بدونها ضربا من العبث. وبطبيعة الحال، فإن أيا من الإصلاحات المنوه عنها لا يمكن أن يتحقق دون توفر الإرادة السياسية لدى الدول المعنية، وهي إرادة لا يمكن أن تنبع إلا من مجتمعات تتمتع بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتحرير الأسواق.