كلما حل فاتح محرم من السنة الهجرية، إلا وتذكر المسلمون هذا الحدث المفصلي في تاريخ الدعوة الإسلامية، الذي يبصم لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. هذا الحدث يعد جزءا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تاريخ الأمة الإسلامية وتاريخ البشرية جمعاء. إننا ونحن نخلد هذه الذكرى في بداية كل سنة هجرية نستحضر ما ينطوي عليه هذا الحدث من عبر بليغة وقيم نبيلة في ظل ما نعيشه من آلام متعددة وآمال واعدة. ولعل هذه المحطة تؤكد أن تاريخ الأمم والشعوب ليس تاريخ حروب ومعاهدات وأسر حاكمة …إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ومشروع للتعامل مع الإنسان "وفرصة لاختبار قدرة العقائد والأديان على التحقق في الزمن والمكان وعلى تأكيد واقعيتها ومصداقيتها ". ومن هذا المنطلق فحدث الهجرة غني بالعبر المتجددة والقيم المتأصلة بأبعاد حضارية كبرى، وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى مايلي: إن الهجرة تعد سنة الأولين من الأنبياء، فقد هاجر إدريس عليه السلام، وهاجرَ هود وصالح وإبراهيم ورسولنا محمد بن عبد الله عليهم جميعا أفضل الصلاة والتسليم. الهجرة حدث ضخم لم يقتصر الحديث عنه على سورة واحدة أو آيات معدودة، فالهجرة قصة تؤخذ منها العبر باستمرار وتذكر في أمور كثيرة وفي مناسبات عديدة. لقد ظلت أفواج المهاجرين متصلة سنين عددا وتطلب التعليق عليها مواضع مختلفة. ومن هنا تأتي أهمية المساحات المخصصة للحديث عن الهجرة في القرآن الكريم بكل أبعادها، فقد ذكرت في سورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة والنحل والحج والممتحنة والتغابن والحشر، وكان التعليق في كل سورة إبرازا لمعنى مقصود. إن الهجرة خطوة غيرت مجرى التاريخ من خلال إقامة مجتمع آمن، ولهذا فهي ليست فرارا من الأذى أو رحلة للترفيه، وإلا لم يكن مبررا للمكوث ثلاثة عشر عاما في ذلك الجو الملبد بسحب الاضطهاد والتضييق. إن الذي يبرر هذه المدة هو التمهيد والإعداد للإنسان المؤمن بعقيدة صلبة لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وتعلمنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى الواقعية الإيجابية التي كان يتميز بها، فكان ذلك من بين العوامل التي جعلته يبحث عن مكان جديد لصياغة الطاقات الإسلامية للاستمرار في المهمة بخطى أوسع وبإمكانات أعظم. وكان الانتقال إلى دائرة ثانية، وهي دائرة الدولة، قصد حماية المسلمين أفرادا وجماعات في اتجاه خطوات سريعة نحو التمكين والنصر، فكان تأسيس الوطن وسط الصحراء أعظم كسب أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بمعية المسلمين من مهاجرين وأنصار، فانتقلت الدعوة من الفكرة إلى الدولة ومن الإنسان إلى العمران ومن الضعف إلى القوة . إن الهجرة إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب، فحقيقة الدين لا تكتمل في قلب المؤمنين إلا إذا كان الإيمان بالغيب قسيم الإيمان بالحاضر. فالنصر غيب لكنه وعد من الله، مما يفسر نهوض المهاجرين الأوائل للقيام بحقوق الدين الذي اعتنقوه وثبتوا على صراطه رغم تعدد الفتن وكثرة العقبات، فكانت الهجرة تجسيدا للتضحية من أجل العقيدة وتصديقا عمليا لها "ليس بأمانيكم ولا أماني أهلي الكتاب من يعمل سوءا يجزى به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا." فتحقيق السعادة والتقدم وتغيير سلبيات الواقع ونواقصه لا يأتي بمجرد الأماني والأحلام، ولو كانت أماني المؤمنين، بل لابد من الأخذ بالأسباب وإعمال القوانين "سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ". ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين بانتصار رسالتهم وعلو رايتهم، فإنه ربط أفئدتهم بمستقل دائم وهو الدار الآخرة "فإما نذهبن بك وإن منهم منتقمون، أو نرينك الذي وعدناهم فإن عليهم مقتدرون، فاستمسك بالذي أوحى إليك أنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ". إن الشوق إلى أفراح الآخرة عند ربي العالمين وفي الإطار الإيماني العميق كانت تلبية نداء الهجرة بكل طواعية واعتزاز … في الهجرة تأكيد على أهمية التخطيط الدقيق وتطبيق قانون السببية في إنجاح الأعمال، حيث الاستعداد والإعداد بدءا بالإنسان الصالح المصلح الذي يستطيع حمل الرسالة والتضحية من أجلها، فكان الأخذ بالأسباب رغم أن الله تعالى وعد نبيه بالنصر "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد". فالأخذ بالأسباب دين، فها هو النبي يختبئ بالغار ويضلل العدو ويتابع أخباره ويحرص على ضمان التموين الغذائي لرحلته … ومن هنا تعلمنا الهجرة النبوية أن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية، لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين. وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل إن الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب وكأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يتخذ سببا ولم يخطط ولم يأخذ الاحتياطات اللازمة. ومع هذا الحرص يتأكد المفهوم الصحيح للتوكل المقصود في ديننا. ولكن نجد اليوم أمة الإسلام تدير ظهرها لقانون السببية وتخرج عليه وتعبث بمقدماته ونتائجه، وتعالج قضاياها المصيرية بالترقيع اعتمادا على الإدارة للكوارث عوض الإدارة بالأهداف والمقاصد. إننا ونحن نعيش في ظلال الذكرى العطرة نؤكد على ضرورة عودة الأخذ بالأسباب وإتقان هذا الأخذ كمدخل حقيقي للنهوض ولتطور . إن الهجرة كجزء من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم تعد تطبيقا عمليا لمبادئ الإسلام، فهو القدوة لنا في جميع تحركاتنا وأعمالنا "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "، نستحضر خلق الرحمة ودوره في نشر عقيدة الإسلام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأهله، رحيما بقومه، رحيما بأعدائه الذين آذوه وأخرجوه من داره ونعتوه بأقبح النعوت وتآمروا على حياته وبذلوا جهودا لإيقاف دعوته، فلم يصدر منه صلى الله عليه وسلم فعل أو قول للانتقام ورد الاعتبار ولو في أحلك اللحظات وأشدها قسوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل حتى عندما أراد الله أن يطبق عليهم الجبلين فكان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم "عسى الله أن يخرج من بين أصلابهم من يوحد الله تعالى، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، فلعل آي القرآن وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتضمن مشاهد ومساحات معبرة على عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحمة والمحبة والعفو والتجاوز. ولابد أن نستحضر في هذه المحطة العظيمة وظيفة المرأة ودورها الكبير في الهجرة، وذلك لتعميق وعينا الحضاري وتقوية ذاكراتنا الجماعية، لنؤكد أن الإسلام أعطى نموذجا لتحرير المرأة من الظلم، فكانت بيعة النساء كمحطة ممهدة للهجرة، وكانت سمية بنت خياط –أم عمر بن ياسر في طليعة شهداء الإسلام، كما كانت أسماء بنت أبي بكر ثالثة ثلاثة اؤتمنوا على أخطر التحولات التي غيرت مجرى الدعوة الإسلامية، بل أسهمت في تدبير وتنفيذ هجرة الرسول وصاحبه أبو بكر الصديق بكل دقة وأمانة ووفاء واحتياط ودون خوف أو تردد. لكن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قاعدة الشرك، والتي حاصر أهلها دعوته، وهموا ليثبتوه ويسجنوه، بل دبروا لقتله، مكة هذه، ظل قلب النبي صلى الله عليه وسلم جياشا بحبها حتى لقد ناجاها لحظة الإخراج منها يوم الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم "والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". كما ظل حريصا في المدينة على أن يسمع من القادمين من مكة وصف معالمها والتذكر بمشاهدها. ومن هنا، نستنتج أن حب الأوطان فطرة إنسانية مطلوبة، بل لا تتناقض مع دوائر الانتماء الأخرى. صحيح أن الانتماء الأول والأكبر للمسلم هو للإسلام، لكن هذا لا يعني إنكار وجود انتماءات متعددة غير متعارضة فيما بينها، فالأمة كالجسد الواحد، لكن هذا الجسد له أعضاء. فحب الأوطان من الإيمان، بل وفي ظل ما نعيشه من أحداث ووقائع مؤلمة تسيء للأوطان وتسيء للدين وتسيء للإنسانية، يمكن القول دون مبالغة إن حب الأوطان وتعزيز الانتماء للوطن واجب من واجبات الوقت. فلا تناقض بين دوائر الانتماء الوطني والقومي والديني فهي دوائر متعددة لكنها متكاملة مترابطة، لا تعارض بينها ولا تتناقض . إن مقدمات الهجرة وطريقة استقبال أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه تؤكد الجهد الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأمين قاعدة جديدة لرسالته، ولذلك عمل صلى الله عليه وسلم منذ دخوله على إنجاز مهام المرحلة الجديدة حيث الانتقال من دائرة الإنسان إلى دائرة الدولة، ثم الحضارة. وفي هذا السياق يمكن الحديث عن أربع خطوات رئيسية. أولها، بناء المسجد كمؤسسة ومركز للقيادة والعبادة، ثم إصدار وثيقة المدينة التي انبنت عليها "دولة المدينة" كنواة صلبة موحدة اعتمدت على التعددية القبلية والبشرية والدينية، في إطار جامع الأمة الواحدة والدولة الواحدة ذات المرجعية الواحدة بتعدد الانتماءات القبلية والدينية. أما المرتكز الثالث فيتجلى في المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين لتنظيم علاقات اجتماعية، مبنية على أسس جديدة تحافظ وتقوي تماسك المجتمع الناشئ. وشكل الجيش مرتكزا رابعا لقوة رادعة تتولى الدولة الإسلامية وقيادتها الجديدة وتساعد على تحقيق أهدافها المرسومة. إن حدث الهجرة لم يكن النهاية، ولكنه كان البداية لمرحلة جديدة متألقة مليئة بالعطاء، والبناء مما يفسر غنى دلالاته الاجتماعية والسياسية، والتي لا تقتصر قاعدتها على الحقبة التي حدثت فيها وإنما هي ممكنة التجرد عن تشخصاتها في إطار الزمن المحدد لتكون لها دلالات عامة كاشفة عن جملة سنن اجتماعية وسياسية، وهو ما يؤهل هذا الحدث ليكون محطة إنسانية عامة تشحذ الهمم وتقوي العزائم نحو غد أفضل وأجمل، تحقق فيه السعادة وتحترم فيه القيم الإنسانية النبيلة في ظل عالم مشحون بالصراع والاقتتال وتدمير البيئة، وانتشار بالطغيان في الميزان . * أستاذ باحث