مجلس الحكومة يعفي استيراد الأبقار والأغنام من الضرائب والرسوم الجمركية    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان        إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله        ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهجرة النبوية: على خطى الرسول و زيارة لغار ثور على الطريق بين مكة و المدينة (فيديو)
نشر في أريفينو يوم 07 - 12 - 2010


الهجرة النبوية من فيلم الرسالة
عمرو خالد و الهجرة النبوية، متابعة لمسار هجرة الرسول على الميدان و زيارة لغار ثور الذي لجأ إليه الرسول مع أبي بكر
طرق هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينه
بقلم:
أحمد المتوكل
المعاني الخالدة للهجرة النبوية
تعتبر الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة من أهم الأحداث العظيمة في الإسلام، لما كان لها من أثر مهم في انتصار الإسلام والمسلمين، وكغيرها من أحداث السيرة النبوية العطرة فيها دروس وعبر جمة ينتفع بها المسلمون في كل زمان ومكان، وفي هذا المقال المتواضع سأقف عند بعض المعاني الخالدة للهجرة النبوية.
يستقبل المسلمون عاما هجريا جديدا، يتذكرون فيه هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهجرة المؤمنين الصادقين من ديارهم وأموالهم وأهلهم من مكة مهبط الوحي عندما واجههم أعداء الله ووقفوا ضد إيمانهم، وحاولوا طمس الدين الإسلامي، ولما أذاقوهم ألوان الأذى وصَعُب على الرسول وأصحابه إقامة دولة الإسلام ونشرَ أفكارهم في البلد الحرام، ولما ضاقوا ذرعا بمضايقات المشركين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونالوا ما نالوا من ضرب وحبس واستهزاء، وأصبح مستحيلا على محمد وأصحابه المكوث بين قوم يريدون لهم الخير، ويقابلوا ذلك منهم بالشر والتهديد والأذى، أذِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة فخرجوا مُسْتخْفِين، ولمَّا خطط المشركون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذِن الله لنبيه بالهجرة ومغادرة الوطن لنصر الإسلام، ولإقامة دولته في المدينة، بعدما هيأ الله للإسلام رجالا مخلصين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فتكونت الدولة الإسلامية هناك من المهاجرين والأنصار، وأصبحت قوية عزيزة فتحت مكة بعد ذلك، وهزمت المشركين، وقضت على صناديد الكفر والوثنية، ورفعت راية التوحيد في معاقل الشرك، وأقامت العدل على أنقاض الظلم والاستبداد.
إن الهجرة النبوية في نظر الإسلام وأهله -الذين يفهمونه حق الفهم- أعمق من تلك النظرة التاريخية التي يفهمها عامة الناس، فهي ليست حدثا تاريخيا عابرا مضى وانقضى، وما ينبغي لها ذلك، بل هي هجرة معنوية روحية وسلوك حضاري واختيار تُمليه الظروف، لا ترتبط بزمان ولا بمكان، إنها تعبير واضح عما يجب أن يكون عليه المؤمنون أفرادا وجماعات طوال حياتهم، إنها معنى حاملا ولفظا كاملا، تظل نبضا حيا في قلوب المؤمنين، وروحا تتجدد في كيانهم، تذَكِّرهم إذا غفلوا، وتوقظهم إذا ناموا.
إن باب الهجرة باق مفتوح ما بقي باب التوبة مفتوحا، وباب التوبة لا يُسَدُّ إلا بطلوع الشمس من مغربها، فالهجرة لَمْ تنته بعد، لأنها حركة دائمة وقيَم ومبادئ وانتقال مستمر من حال إلى حال، ومن مكان لآخر، تَلزَم المسلمين في كل زمان ومكان، فإذا كانت قد انتهت كحدث، فهي باقية كقيمة في الأمة إلى قيام الساعة، أعلى مراتبها الهجرة من الكون إلى المكون، وأول مراتبها الهجرة من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن المعصية إلى الطاعة، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون هجرةٌ بعد هجرة”
[1]، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد”
[2]، وبما أن الجهاد لا ينقطع، لقول الرسول عيه السلام: “الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال”
[3]، فالهجرة كذلك لا تنقطع، فما علينا إلا أن ننظر في سيرة المهاجرين الأُول ونتمعن فيما مدحهم الله به لندرك من ذلك أن الهجرة ماضية باقية ما بقي الكفر والإيمان، وأن الله ترك لنا بابا مفتوحا لنيل رضاه، ولإمكانية السير على تلك الخطى المباركة التي ساروا عليها بشرط اتباعهم بإحسان، يقول الله عز وجل في ذلك: ﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم﴾
، ويزيد الرسول صلى الله عليه وسلم من تأكيد هذا الأمر حيث يقول: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطعَ التوبة، ولا تنقطع التوبة، حتى تطلعَ الشمس من مغربها”
[4].
إن الهجرة المادية قد انقطعت بفتح مكة، ولقد بقيتْ أنواع من الهجرات عملا مستمرا دائما ماضيا في حياة الأفراد إلى الموت، وفي حياة الأمة إلى قيام الساعة، لكي لا يُحرم الخلَف من مِثل الأجر العظيم الذي فاز به السلف، لمَّا يكون الهدف هو إعلاء كلمة الله، واعتبارها مرجعا وحكما لا يعلو عليه شيء من أهواء النفوس وأحكام الجاهلية، وهكذا يتضح أن للهجرة معان تختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان:
وأول هذه المعاني: التوبة بمعناها الشامل، والرجوع إلى الله بالقلب والجوارح في السر والعلانية، والتوبة المطلوبة اليوم يجب أن يغلب فيها الهم الاجتماعي والسياسي على الهم الفردي، إذ التوبة الفردية لا تكفي وحدها لإصلاح أحوال المجتمعات الفاسدة على كل الأصعدة، بل لا بد من توبة عامة لكي تستقيم الأمور.
توبة تنقي القلوب من كل ما هو مشين، وتطهر مجتمعات المسلمين من كل مظاهر الانحراف والفساد، قال الله عز وجل: ﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾
، فيجب على المؤمنين أن يفروا من الله إليه يوميا إقتداء بالصالحين الذين جعلوا الله غايتهم وهدفهم، قال الله عز وجل: ﴿ ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين﴾
، فإذا كان أغلب الناس اليوم يهاجرون من أجل الدنيا ولأجل الرفاهية، فالمؤمن ينبغي أن تكون له وجهة أخرى غير وجهتهم، فيقصد بأعماله الله ووجهه الكريم، والهجرة الحقيقية سعي متواصل حثيث في رحلة القرب من الله، و هي تحول داخلي مقرون بعمل خارجي، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن الهجرة خصلتان: إحداهما: أن تهجر السيآت، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقبلت التوبة”
[5].
ثم الجهاد: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا”
[6]، فجهاد المسلمين في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وصدُّ هجمات الكفار العسكرية والفكرية والسياسية والاقتصادية، والوقوفُ أمامها بحزم وترصد، ومواجهتُها بالحجة والبرهان، نوع من أنواع الهجرة الباقية، سأل رجل الرسولَ صلى الله عليه وسلم بعدما وضَّح له -الرسول- أركان الإيمان قائلا: “فأي الإيمان أفضل؟، قال: الهجرة، قال فما الهجرة؟، قال: تهجرَ السوء، قال فأي الهجرة أفضل؟، قال الجهاد”
[7].
ومن أنواع الهجرة: الجهاد في سبيل الرزق وطلب العيش والكدح على النفس والأهل، وتوفير سبل العيش الكريم لهم من كسب حلال طيب، فعن مجاهد قال: “قلت لابن عمر إني أريد أن أهاجر إلى الشام، قال لا هجرة ولكن جهاد، فانطلِق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت”
[8]، وجهاد النفس وتزكيتها بالإيمان وحصرها عن المنكرات والرذائل، وهجر وساوسها وهواجسها، وقمعها ومنعها وردها إلى فطرتها وأصل خِلقتها، ومواجهة رعوناتها وميولاتها والوقوف أمامها بحزم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله”
[9]، وأوجه الجهاد أوسع من أن يشملها الحصر، لذلك كانت معنى ساميا من معاني الهجرة، والمسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى جهاد شامل في كل الميادين للنهوض بأوضاع الأمة المزرية.
ومن معانيها أيضا: تصحيح النيات باستمرار، للتأكد من الإخلاص لله قبل القيام بالأعمال وأثناءها وبعدها، فمتى وُجدت النية الصالحة في القلب توجهت الجوارح لله، وزكت الأعمال، ورجحت في الميزان عند الله عز وجل، وإذا لم تصحبِ النيةُ الصالحة الأعمالَ أصبحت هباء منثورا وإن كانت كالجبال.
ومن معانيها الخالدة: هجر رفقاء السوء وقرناء الغفلة والمعاصي، وخِلاَّن الرذيلة والمنكر، وصُحبة الصالحين المربين المجددين للدين والإيمان، والالتحاق بركب الصالحين الذين تظهر عليهم علامات الصلاح وسمات الاستقامة، قال الله عز وجل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”
[10]، فالمؤمنون الأولون هجروا مشركي مكة وصحبوا رسول الله وفازوا بصحبته.
ومن معانيها الباقية: هجر حياة الفردانية وعيشة الانعزال والحياد والتفرج على أحوال الأمة إلى العيش لها ومعاناة همومها والتطلع إلى آمالها، وإيثار المصلحة الجماعية والسعي في الصالح العامِّ، وهجر الغثائية ووضع القصعة، والاندماج في سلك جماعة المؤمنين المجاهدين المتمسكين بالحق المدافعين عنه الذين يغارون على ثوابت الأمة ومقدساتها، ويقومون بواجب نصرة الدين، ويحاولون بناء مشروع الأمة المنهار، وإعلاءَ رايتها الساقطة، ورفعَ قيمتها الهابطة، واستعادة مكاسب الهجرة، فحظ المؤمن من رضوان الله- الذي فاز به المهاجرون الأُول- ينتظره بشرط أن يفعل ما فعلوا من هجرة ونصرة وجهاد بنفسه وماله وكل إمكانياته، قال الله عز وجل: ﴿ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم، والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم﴾
، وقال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”
[11].
ومن معاني الهجرة التي لا تنقطع: هجر الظالمين الذين لا يقبلون الإسلام ولا ينتصحون، وهجر مخططاتهم ومناهجهم وبرامجهم المعارضة للإسلام المبعدة له عن واقع الحياة، المسببة في الذلة والاستسلام والانهزام والتبعية، وترك الميل والركون إليهم وموالاتهم، وهجر السكوت عن جرائمهم وحربهم الشعواء على الإسلام واستضعافهم وإقصائهم للمسلمين الصادقين، وهجر أنظمتهم الفاسدة وتكتلاتهم الضالة وأحزابهم العلمانية التي أظهر الواقع أنها تطمس الدين، وتخذل المسلمين وتوالي الكافرين، وتعادي الصادقين وتعمِّي على برامجهم ومشاريعهم، قال الله عز وجل: ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، ومالكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون﴾
، وقال الله لرسوله الكريم آمرا له بترك الكافرين: ﴿ واهجرهم هجرا جميلا﴾
.
ومن معانيها: هجرُ الراحة والخمول والتقاعس والبخل والترف، إلى التضحية من أجل هذا الدين بالنفس والمال والأهل، واستلهام روح الامتثال والتضحية والبذل التي كانت تميز الصحابة في كل مرحلة من مراحل الإسلام، إقتداء بالصحابة الذين خدموا الإسلام بكل ما يملكون، فهذا صُهَيب ترك كل ماله للمشركين مقابل السماح له بالهجرة، وأبو بكر سخَّر نفسه وأهله وماله وجُهده من أجل انتصار الإسلام، ومصعب بن عُمَير الذي تخلى عن حياة الترف والبذخ وعاش للإسلام ……
وهجر التفرق والتمزق والتشتت والاختلاف الظاهر على المسلمين إلى الائتلاف والوحدة والتعاون، والوقوف صفا واحدا في وجه الأعداء الذين يواجهوننا متوحدين، وترك كل ما يقطع الرحم ويباعد المسلمين ويشتت وحدتهم ويمزق صفهم ويفرق كلمتهم، قال الله عز وجل: ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾
، وقال تعالى أيضا: ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص﴾
.
وهجرة المحرمات والمعاصي والابتعاد عن الفواحش والمنكرات والذنوب صغيرها وكبيرها، وكل ما يهبط بالمرء عن درجات التكريم الإلهي، وترك الانحرافات الفكرية والأخلاقية وكل قبيح من قول أو فعل، قال الله لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: “والرجز فاهجر” وترك مظاهر اللهو واللعب والأحقاد والضغائن وإذاية المسلمين وهتك أعراضهم واستباحة حرماتهم باليد أو باللسان، وعدم استغلال أموالهم والتصرف فيها بطريقة غير شرعية، واجتناب ظلمهم والاعتداء على حقوقهم، إلى خدمتهم ونصحهم والدفاع عنهم وتحقيق النفع لهم، فعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المهاجر من هجر الخطايا والذنوب”
[12]، قال السندي في شرحه لسنن ابن ماجة: “والمقصود من الهجرة القرب إلى الله تعالى، ولا يتم ذلك بدون ترك الخطايا، فالمهاجر الحقيقي الواصل لِمطلوبِ الهجرة: مَن ترَك الخطايا”
، وقال عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”
[13]، قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: “حقيقة الهجرة تحصُل لمن هجر ما نهى الله عنه”
، وعن عبد الله بن عمرو قال جاء أعرابي علَوي إلى رسول الله فقال يا رسول الله: أخبِرْنا عن الهجرة؟، إليك أينما كنت، أو لقوم خاصة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا مُت انقطعت؟، قال: فسكت عنه يسيرا ثم قال: “أين السائل؟، قال ها هو ذا يا رسول الله، قال: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر”
[14].
وهجرة أماكن الشر والظلم والتزوير والمواطن التي ترتكب فيها المحرمات كمجالس الخمر والقمار والغناء والفجور والشبهة ومجالس الغيبة والنميمة إلى المساجد ومجالس العلم والإيمان، فمن جلس مجلسا تُتَناول فيه المحرمات فهو مشارك لأهله في الإثم وإن لم يفعل ما فعلوا، لقول الله عز وجل: ﴿ وقد نُزِّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتمُ آيات الله يكفر بها ويستهزؤا بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكمُ إذا مثلهم﴾
، وقال تعالى: ﴿ وإما يُنْسيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين﴾
، فالمؤمن الحق هو الذي يترك السوء وأهله ومكانه إقتداء بالرسول وأصحابه الذين هجروا المشركين وبيئتهم.
إن المؤمنين الذين يثبتون على الحق ويلتزمون به ويدعون إليه، ولا يؤذون أحدا، ولا ينتهكون المحرمات، ويعبدون الله حق عبادته، ويسعون في الأرض بالإصلاح والتعمير في الوقت الذي يكثر فيه الإجرام وينشط دعاته، وتزداد الفتنة والاضطرابات، وتنتشر الرذائل والمحرمات، وتداس الكرامات، حينذاك يكون تشبثُ المرء بدينه وتركه لما يغضب الله عز وجل واختياره لطريق الله المستقيم ولزومه له، كل هذا يعطيه ثواب الهجرة ويرفعه إلى درجة المهاجرين الأَول، قال الرسول البشير صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهرْج كهجرة إليَّ”
[15]، والهرْج هو الفتنة والقتل والاضطراب.
فعلى شبابنا وشاباتنا أن يهجروا الأخلاق السيئة التي وفدت علينا مع ركب الحضارة الزائفة التي أراد أصحابها دنيا بلا دين وحياة بلا أخلاق ولا مروءة، وأن يتجنبوا السقوط في مستنقعات الرذيلة والابتلاء بمفاسد العصر التي هي من سمات الجاهلية الحديثة، كالتدخين والمخدرات والخمور والعري والغناء الصاخب الماجن والزنا وكل ما يضر بدينهم ومالهم وصحتهم وخلقهم وسمعتهم، وأن يقفوا لمخططات الأعداء بالمرصاد وأن يكونوا منها على بينة لكي لا يصبحوا كأبناء الغرب الذين يعانون من المشاكل الأخلاقية والاجتماعية والأمراض النفسية.
ثم هجرة الغفلة وترك الابتعاد عن الله إلى ذكره وعدم الفتور عن ذلك باللسان وبالقلب سرا وجهرا ليلا ونهارا، قياما وقعودا وعلى الجنوب، بانفراد وفي الملإ، قال الله عز وجل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا﴾
.
فلا يتم إسلامنا ولا يزيد إيماننا ولا يكمل إحساننا إلا إذا هاجرنا بقلوبنا وجوارحنا إلى الله في السر والعلن بالتوبة الصادقة الدائمة في حياتنا كلها، واستصحبنا الله معنا في قلوبنا ووجداننا في رحلتنا اليومية إليه سبحانه، وتوكلنا عليه وأحكمنا الخطط وأخذنا بأسباب النصر، ولم نأبه بعراقيل وكيد الأعداء، ولا نحزن لشيء أصابنا مهما كان، اقتداء بالرسول والصديق.
فهذه أنواع من الهجرات الباقية التي يقدر عليها كل مسلم، ما فيها نصب ولا تعب، ولا تترك آلاما في النفوس ولا خسارة في الأموال، ولا وحشة في الأهل ولا غربة في الأوطان، فإذا تمسك المسلمون بهذه المعاني وساروا على خطواتها ازداد إيمانهم وتماسك بنيانهم وقويت شوكة الإسلام وانجمع شمل الأمة الممزق، وعادت لها عزتها المفقودة، وطهرت الأرض من الفساد والمفسدين، واندحر الباطل وأهله وعادت الحاكمية لله الحق، وتُركت قوانين الكافرين، وحُررت أراضي المسلمين من المتسلطين، وحررت النفوس من الخضوع للجبابرة الطغاة، ورجعت الكلمة للصالحين الراشدين، وتُرفع راية الحق عالية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم.
وبهذه الأنواع من الهجرات يستبين للمسلم سبيل الهدى من سبل الضلال، وبها يكمل له دينه، وتسلم استقامته من الزلل والانحراف، وبها يتجدد الدين وتصفو معالمه، بها الإسلام انتصر، وبها يبقى ويستمر.
وإن المؤمن لا يستطيع أن يثبت على دينه ويستقيم على أمره ويحفظ إيمانه من الشوائب والمكدرات وأمام الفتن إلا بالهجرة، لأن الإيمان الخالص يستلزم الهجرة ويقوم عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.