شكلت الهجرة النبوية من مكة، موطن النشأة والأهل إلى المدينةالمنورة حدثا كبيرا في تاريخ الإسلام وصراعه مع الأعداء والمنافقين، أعاد ترتيب الأوضاع داخل البيئة الاجتماعية لشبه الجزيرة العربية، وأفرز تحولات عميقة فيما يخص صراع التوازن والقوة بين كفار قريش مساندين من اليهود وكيدهم في تقويض الدين الجديد وإقباره في مهده، وبين مثابرة ثلة المؤمنين في الحفاظ عليه. ولم تكن الهجرة النبوية أسلوبا جديدا لدى تلك الثلة المؤمنة، فقد سبقت لها أن جربته في هجرتين نحو الحبشة، لما تفرسه المصطفى من عدل ملكها النجاشي وإمكانية ممارسة الشعائر الدينية في حرية وآمان، هاتان الهجرتان كانتا سببا في إسلام ملك الحبشة. لكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة كانت بحق الدرس الكبير للمسلمين استحقوا به الثناء الإلاهي في الدنيا بقوله تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعدما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة) (النحل 41)، ومغفرة وتكفير للسيئات في الآخرة، يقول تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) (آل عمران 195). وكانت بمثابة ميلاد جديد للدولة الإسلامية تتخذها بداية للتأريخ، ليس فقط لأن النزاع لمن يكن حول تعيين مكانها وإنما لكونها نقطة تحول كبرى وعلل ذلك علي كرم الله وجهه ذلك بقوله: (الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها). وهذا التأريخ في دلالتها العميقة يشير إلا أن أمة الإسلام تعتبر بأحداث التاريخ، فهل استفاد المسلمون في وقتنا الحاضر من هذه الذكرى؟ ومن زاوية أخرى ألا يدفع الواقع الجريح للمسلمين من هجرة للدنيا وجهاد في سبيل الله استناء بسيرة الصالحين عبر التاريخ وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم. الهجرة سيرة الصالحين على طول الخريطة القرآنية ارتبط الحديث عن الهجرة بالسعي إلى الله وحفظ الدين مقابل الفتنة والاضطهاد، فهي سنة كونية لا ترتبط بزمان أو مكان لأنها منشأ المكرمات وتفاعل الحضارات في أفق الكمال المتمثل في إخلاص العبادة لله والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطط لهجرتين إلى الحبشة لم يكن بدعا في ذلك، فهو يستن بأبيه إبراهيم عليهما السلام حينما حاربه قومه وضاقت به الأرض، هجر بابل قال الحق سبحانه: (وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) (العنكبوت: 24) وفي آية أخرى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني) (الصافات: 96) فالهجرة ارتبطت بطلب الهداية وتجاوز معيقات التعبد. وكذلك قصة أصحاب الكهف، فقد كانوا من علية القوم يتمتعون بالحياة في أفضل صورها، لكن ضرورة الحفاظ على مستوى الإيمان ودرجته العالية، دفعهم إلى الهجرة والإيواء إلى الكهف الذي يفتقد إلى أبسط وسائل العيش، وكان سبب الهجرة معاداة قومهم المشركين يقول القرآن حكاية عنهم: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا ياتون عليهم بسلطان بين، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فآووا إلى الكهف ينشر لكن ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا) (الكهف آية 15-16) وأثابهم الله تعالى بأن وقاهم السيئات، وكانت رحمته عليهم بالغة بحفظهم سنين عددا ليكونوا عبرة لما خلفهم، فخلدوا في التاريخ بذكر القرآن لهم. وكذلك يوسف عليه السلام ترك الملذات وهجر الفاحشة واختار السجن لما لم يتيسر له الهجرة المكانية (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، في هذا السياق القرآني العام، تتأطر الهجرة النبوية في هجرة الكفر والاضطهاد إلى العزة والحرية في التعبد. هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لسنة الصالحين الهجرة تجشم للصعوبات، فالإنسان إذا ألف شيئا تعسر عليه مفارقته، هذه الصعوبة تؤكدها قولة الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا مكة (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) فحنين الإنسان إلى موطن النشأة حنين مغروس في النفس لذا كانت الهجرة فرار لله، بعدما ضاقت سبل التعبد على المسلمين أمام تعاظم كيد مشركي مكة ومن والاهم من اليهود، فقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه ديارهم وأموالهم وحملوا أنفسهم صبرا على ذلك انتصارا للدين وابتغاء نصرته، فكان هذا الدرس النفيس في تفضيل الدين والعبادة عن ملذات ومتاع الدنيا يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة: "كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزء والسخرية، فلما أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة، أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم، هذه التضحية النموذجية بالنفيس في سبيل الله تؤكدها قصة صهيب الرومي لما هاجر بلا مال أو متاع تاركا ذلك لكفار قريش، مؤثرا ما عند الله مما عنده وملك يده، ولما بلغ الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال "ربح صهيب". وعليه فهجرة الرسول وصحبه لم تكن تخرج عن إطار هجرة الصالحين السابقين من إيثار ما عند الله على الدنيا وملذاتها. هجرة الرسول: الأسباب والإجراءات: لقد جعل الله لكل شيء سببا، ولكل سبب نتيجة، فكانت الهجرة سببا لعزة الإسلام والمسلمين، ولم تكن هذه السنة الكونية خافية على المؤيد بالوحي، فقد كان أبو بكر الصديق يستعجل الهجرة إلى المدينة كبقية الصحابة، ولكن الرسول يستمهله، ويستبطئه بقوله: اصبر عسى أن يجعل لك الله صاحبا في الهجرة، ويتشوق أبو بكر بأن يكون الرسول ذلك الصاحب، فيشتري ناقتين يعلفهما استعدادا للهجرة، وهنا تبرز صديقية أبي بكر فقد نذر ماله وأولاده لهذا الحدث العظيم في تاريخ الإسلام، فكان عبد الله ابنه وأسماء ذات النطاقين، وراعيه عامر بن فهيرة لكل واحد منهم دور في بناء الحدث، وقد انطلقت الإجراءات الأولية في اختيار مقصد الهجرة فكانت المدينة بناء على بيعة العقبة الأولى من طرف الأنصار، بيعة الطاعة والنصرة والحرب والتي سماها عبادة بن الصامت ببيعة الموت، فترك عليا للمبيت في فراشه تعمية على الكفار، ولرد الودائع لأصحابها وهنا درس آخر، فلم تلهه إجراءات الهجرة صلى الله عليه وسلم، للتفريط في حقوق الآخرين ولهذا سمى أمينا وصاحب الخلق العظيم. فتم الخروج عبر الباب الخلفي لدار أبي بكر بغية السلامة، ومكث ثلاثة أيام في غار ثور، كمرحلة من مراحل الهجرة الحاسمة، فقد تكفل عبد الله بن أبي بكر برصد الأخبار ومستجدات التدابير التي يخطط لها كفار مكة، فكان عند الفجر يقصد مكة يتحسس الأخبار وينقلها ليلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وفي كل رحلة كان الراعي عامر بن فهيرة يمر بالغنم ليمحو أثر عبد الله، أما أسماء ذات النطاقين فكانت تحزم الطعام بنطاقين لتحمله إلى الرسول وأبيها، كما استأجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من الكفار هاديا في الطريق بعدما اطمأنا إليه، ولما اعترض طريقهما رجل من الكفار يعرف أبي بكر وسأله عن مرافقه وكان البحث جاريا للقبض على النبي صلى الله عليه وسلم أجابه أبو بكر أجابه أنه من ماء وأنه دليله في الطريق. دروس وعبر من الهجرة ومن خلال الإجراءات السالفة الذكر، استشف علماء المسلمين دروسا عميقة نذكر منها: أخذ الأسباب لا ينافي التوكل: كان يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم توكل صادق على الله لإنجاز الهجرة، ولكنه بأخذه للأسباب الطبيعية والتي يقدر عليه كل البشر دعوة صريحة بأن النجاح في الأهداف مرتبط بقوة التخطيط، فكان الاستعداد المادي والتكتيكي فاستخفى بسواد الليل وبالغار، وسلك طريقا غير معتادة، ولم تكن الأسباب وحدها كافية بل يقينه في الله وتوكله عليه جعل كل المحاولات للقبض عليه تبوء بالفشل، يقول ابن حجر: فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب لأن التوكل عمل بالقلب وهي عمل بالبدن، ويقول أيضا: «الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي» أما الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله فيقدم السبب على التوكل يقول: «مهما أمكن المكلف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكل إلا بعد عملها لئلا يخالف الحكمة، فإذا لم يقدر عليه وطن نفسه على الرضا بما قدره عليه مولاه، ويتكلف من الأسباب ما لا طاقة به له». التورية والتمويه جائز مع الكفار: استفاد أهل اللغة من جواب أبي بكر لما سئل عن هوية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من ماء (دلالة على الماء المهين، وأنه دليله (أي إلى الجنة) درسا لغويا يسمى بالتورية ومعناه إطلاق لفظ يحتمل معنيين يعتقد السامع المعنى القريب والمراد هو المعنى البعيد، فجواب أبي بكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليله في الطريق يفهم المخاطب منه أنه طريق السفر وهو يقصد الطريق إلى الجنة، واستفاد منه الفقهاء جواز استخدام المعاريض لدفع البلاء والشر وأوجب ذلك ابن تيمية في قوله: «وقد يكون واجبا إذا كان دفع الضرر واجبا ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك». قال ابن حجر: «ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل الحق وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز» وهو المعنى نفسه في قول النووي رحمه الله «استعمال المعاريض عند الحاجة... وشرط المعاريض المباحة إلا يضيع بها حق أحد». جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره: فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أرقط فكان دليله في سفره وهو على دين قريش فأمنه. اليقين التام في نصر الله وتأييده. وتؤكده الآية الكريمة (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وقوله صلى الله عليه وسلم لطمأنة رفيقه (ما ظنك باثنين الله ثالثهما). المسجد بؤرة التخطيط في الإسلام لما أنجى الله الرسول ورفيقه من موت محقق، كان أول عمل بدأ به هو بناء مسجد قباء في المكان الذي بركت فيه ناقته بعد شراء المكان من صاحبيه الغلاميين، وعلى مر التاريخ ظل المسجد مقر السلطات الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي المسجد تمت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، فضحى الأنصاري بنصف متاعه وداره وتخلي عن زوجته الثانية لأخيه ليسجلها القرآن مفخرة لهم: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وقوله (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم). فوائد جليلة للهجرة: ظلت الهجرة سبيلا للخلاص من الفتنة، ووسيلة لتخير مكان يعبد فيه الله بحرية وآمان، وإلى جانب هذه الفائدة الأصيلة للهجرة هناك مزايا أخرى استنبطها العلماء من الآيات القرآنية منها: نشر الدين وهداية الناس ولهذا الهدف ارتبطت الهجرة بكونها في سبيل الله يقول تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) ويترتب عن ذلك الشهادة يقول تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله). ابتغاء رحمة الله: يقول سبحانه: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله). وسيلة لاستجلاب الرزق ورفع حالة الهوان يقول تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء 97). واقع المسلمين يدفع إلى الهجرة اقتداء بالصالحين لو نظر المسلم حواليه، لوجد أن الدم الإسلامي هو الدم الرخيص كما في فلسطين وأفغانستان والشيشان، ولو نظر نظرة أخرى لرأى أن المسلمين استلذوا عيشة الهوان وأصبحوا أحرص الناس على حياة وأية حياة، وسبب هذا وذاك هو حب الدنيا والخلود إلى المتكأ الوثير، والمشروب اللذيذ، والمأكل النعيم، وأصبح الحرام يهيمن على الحلال في شتى المناحي: في الفكر والاقتصاد والاجتماع والسياسة و.. فلا تجد المسلم يقوم بعزلة شعورية للمنكر الذي يغمره في الشارع وفي وسائل الإعلام بشتى أنواعها المكتوبة والمرئية والإلكترونية، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح فهو يقصد الهجرة المكانية أما الهجرة الشعورية النفسية فقد أبقاها سنة ماضية في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» فهل استنفرنا للدم الفلسطيني المراق ليل نهار وللدم الأفغاني والشيشاني ولدم المستضعفين في كل مكان؟ وفي الاقتصاد هل هجرنا الاعتماد على الخمور والقمار وكراء أعراضنا بمبرر إنعاش السياحة وحماية الاقتصاد؟ وفي الاجتماع، هل هجرنا اجتماع الأهواء والقرارات الجائرة في حق المستضعفين وقلنا: إن الظلم حرام وحرمة الإنسان أعظم من حرمة البيت الحرام؟ وفي السياسة، هل هجرنا إملاءات اليهود المغلفة بالشرعية الدولية إلى شرع الله وتحكيمه على القوي والضعيف على الذات والآخر؟ لاشك أن الجواب عن ذلك سيكون لدى كل مسلم بالنفي، يؤكد هذا واقع المسلمين في إصدار القرارات وتنفيذها، فهم في حالة غياب وشرود لأن هجرتهم لم تصل بعد لأن تكون في سبيل الله سيرا على نهج الصالحين وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن المفارقة أن تجد المسيحيين يهاجرون إلى الأدغال لنشر دينهم المحرف، وتجد المسلم يركن إلى الأرض والراحة نسأل الله أن يجعل عامنا الجديد خير من عام مضى، عام هجرة وجهاد في سبيل الله ونصرة لدينه وعباده الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه. عبدلاوي خلافة