إن الصحافة والإعلام ببلادنا، المملكة المغربية، باعتبارها ركيزة لازمة لأية نهضة مجتمعية، فلا يمكن تصور بناء ديمقراطية، وما نصبو إليه من تحديث البنيات المؤسسية، بدون صحافة متطورة ناصحة، شكلا ومحتوى، قادرة على إقناع القارئ وتنويره في الخارج قبل الداخل. هكذا تحدث المرحوم محمد بن عيسى، ( 1937 – 2025 ) في افتتاح " خيمة الابداع" لتكريم محمد البريني في موسم أصيلة الثقافي 42 خلال دورته الخريفية سنة 2021 والتي دأبت مؤسسة أصيلة على تنظيمها احتفاء برواد الحركة الإعلامية والفكرية والثقافية. فالصحافة كانت بوابته الرئيسة التي قادته الى دواليب ممارسة الشأن العام في مجالي الثقافة والدبلوماسية، حيث بدأ حياته العلمية بجامعة مينيسوتا الأمريكية في شعبة الصحافة، قبل اشتغاله بالبعثة المغربية الدائمة في الأممالمتحدة كملحق إعلامي بها، وبعدها بهيئة الأممالمتحدة في نيويورك وأديس أبابا، (1965-1967)، قبل أن يعين مستشارًا إعلاميًا إقليميًا لأفريقيا في العاصمة الغانية أكرا (1967-1971 ) وفي مطلع ثمانينات القرن الماضي، تزامنت ادارته لجريدتي "الميثاق الوطني" و"المغرب" باللغة الفرنسية، وعمله السياسي الثقافي البرلماني، مع تحمل محمد البريني لمسؤولية إدارة صحيفة " الاتحاد الاشتراكي". وعن هذه الفترة يتحدث عن علاقته بالبريني، ومن خلالها يمكن التوقف عن تصوره لعلاقة الاختلاف في الموقف السياسي والممارسة الصحافية، حيث يقول الراحل محمد بن عيسى: " كنا زميلين على طرفي نقيض فب انتماءاتنا الفكرية والسياسية، أوان كان المغرب يشهد احترابات نكدة بين الحكومات المتعاقبة والمعارضة، تجاذبات لم تكن لتترك إمكانيات اعتراف بالمشترك، أو فسحة حوار بين الفرقاء المتذبذب كان انتماؤنا معا راسخا إلى قناعة قصارها خدمة الوطن ، من أي مرجعية أو قاعدة كانت". لكن على الرغم من هذا الاختلاف السياسي، فإن الفقيد بن عيسى يوضح بأنه: " وشيئا فشيئا انخرطنا عبر جرائدنا في نسج صلات فوق كل احتراب سياسي كانت عقلانيته الكبيرة، ووعيه السياسي المتجاوز للحظته، تستشرف المتوخى خارج الأحكام الفكرية الجاهزة التي أهدرت زمنا ثمينا في تاريخ المغرب المعاصر. ما أتمثله بوضوح بعد كل هذه السنوات، هو أن وقتا غير هين مضى في ترسيخ قناعاتنا المشتركة، عن مآزق الانغلاق، والتمترس خلف قناعات ارثوذوكسية". شخصيا وإن كنت أعرف سي بن عيسى، حينما كنت أتعامل معه باعتباري صحافيا بوكالة المغرب العربي للأنباء وكان حينها على المستوى الدبلوماسي وزيرا للشؤون الخارجية ما بين 1999 و2007، وكذلك أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة الدولي، فإن هذه العلاقة ستتوطد بعد مغادرتي للوكالة، خاصة بعدما طلب منى اعداد كتاب ( محمد البريني .. العقل السياسي والعقل الصحفي .." ، واقتراح برنامج ندوة مشاركين من أهل الصحافة والإعلام المرموقين. فالفقيد محمد بن عيسى لم يكتف طيلة هذه الندوة، وفي لقاءات على هامشها، بالتوقف عند مسار والتجربة المهنية للمحتفى به وخصاله، بل كان في مداخلاته يسلط الضوء على التحديات التي تواجهها وسائل الاعلام، في ظل التحولات التكنولوجية، والإلحاح على المشاركين بالتركيز على بحث السبل الكفيلة بالارتقاء بمستوى الممارسة الإعلامية المهنية، في عالم متغير وتحولات الإعلام، عالم القرن العشرين، عهد جديد حامل لأسئلة جديدة، لم تكن بالتأكيد مطروحة عند الآباء المؤسسين للصحافة المغربية، ملحا على ضرورة الارتقاء بمستوى المهنة وتكريس أخلاقيات الصحافة والدفاع عن استقلاليتها. وهكذا إذا كانت الساحة الثقافية، والدبلوماسية، قد فقدت برحيل سي محمد بن عيسى، أحد رجالاتها الذين بصموا الحياة السياسية الوطنية، بطابع خاص، منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي، فإن الصحافة والاعلام، بدورها قد فقدت أحد رموزها الذي كان قيد حياته شاهدا وفاعلا ومواكبا لمحطات عاشها مغرب ما بعد الاستقلال، وأواخر سبعينات وبدايات ثمانينات القرن الماضي، بصراعاتها تناقضاتها السياسية والاجتماعية. وإذا كان سي محمد بن عيسى، مؤسس موسم أصيلة الثقافي ، أكبر المنتديات الثقافية الوطنية والقارية قد رحل عنا جسدا، فإن الأفكار التي دافع عنها خاصة في مجال الاعلام والثقافة، والتراث الذي خلفه، سيبقى نبراسا للأجيال الصاعدة، وسيخلد في الذاكرة الوطنية، وهذا ما يجعل أثره حيا سيظل كرجل دولة مقتدر ودبلوماسي محنك، أبان عن كفاءة عالية في مختلف المناصب السامية التي تقلدها، بكل تفان وإخلاص، سواء كوزير للثقافة، أو وزير للشؤون الخارجية والتعاون، أو كسفير للمغرب بواشنطن، أو كمنتخب برلماني وجماعي، كما جاء في برقية التعزية والمواساة التي بعث بها جلالة الملك محمد السادس إلى أفراد أسرة المرحوم. فالتقدير الذي كان يحظى به وما كان يتحلى به من خصال إنسانية رفيعة، ناجم بالخصوص، ومن سعة الأفق والفكر وشغف بالثقافة، إذ أخذ على عاتقه هم الإشعاع الثقافي والفني لمدينة أصيلة، مسقط رأسه، التي سخر نشاطه وجهوده في خدمة تنميتها، وفرض إشعاعها الثقافي والجمالي وطنيا ودوليا، لا سيما من خلال تأسيسه وتسييره لمؤسسة منتدى أصيلة، مجسدا بذلك مثالا يحتذى على الأخذ الصادق بمفهوم المواطنة المسؤولة، كما أكد جلالة الملك في ذات البرقية.