في هذه الظروف كلها نتذكر جميعا حدثا عظيما وعزوة من الغزوات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر العظمى وكان تاريخها بالضبط يوم الجمعة 17 من رمضان سنة 2ه. وقد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، ولم يكن في نيتهم الدخول في حرب مع قريش وإنما كان الهدف هو التعرض لقوافلهم التجارية، لكن أبا سفيان قائد تلك القوافل فطن بذلك وشعر بالخطر فأرسل إلى مكة مستنجدا أو مستصرخا، وبالفعل خرجت مكة بمن فيها من الرجال والنساء وما فيها من العدة والعتاد لقتال المسلمين حفاظا على ماء الوجه والهبة الموروثة عبر الزمان، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذا الوضع إلا أن استشار أصحابه في الحرب فكان رد الجميع هو الإجماع على القتال، وبالفعل التقى الجمعان في معركة غير متكافئة عددا وعدة : - معركة بين قريش وما أدراك ما قريش، أصحاب الزعامة السياسية والدينية والتاريخية والاجتماعية في الجزيرة العربية، وبين دويلة صغيرة لم يمض على إنشائها سوى سنتين. - معركة بين قريش بألف مقاتل وبين المسلمين بثلاثمائة رجل وبضعة أفرد. - معركة بين زعماء مكة أهل التفاخر والكبرياء وأهل البطش والجبروت وبين قلة من المسلمين في المدينة وصفهم الله بأنهم أذلة فقال عز من قائل ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أدلة)، إلا أنه مع هذا التفوق القريشي من جميع النواحي فقد وقعت المعجزة وانتصر المسلمون وانهزم أهل الشرك هزيمة نكراء كسرت إيديولوجية التفوق الأبدي الذي كانت تعيش عليه قريش منذ زمان، وأفاق العالم مع هذا النصر المبين للمسلمين على واقع آخر ظهر بالجزيرة العربية، وعلى أمة أخرى بدأت تتكون وتنمو وفق منهج جديد جاء للعالم أجمع بقيادة رجل عظيم اسمه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا هو الإطار التاريخي لهذه الغزوة العظيمة، وهذه هي ظروفها باختصار. والذي يهمنا نحن في هذا الزمان زمن التكالب على الأمة، وزمن الهزائم المتتالية، وزمن التبعية العمياء للغرب، هو البحث عن أسرار هذا الفتح المبين الذي نقل المسلمين وهم أذلة كما وصفهم القرآن؛ إلى قمة المجد والانتصار، وحول أنظار العالم كله إليهم وإلى هذا القائد العظيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الدين الجديد، دين الإسلام، دين البشرية كلها. أسرار الانتصار وأرى أن النصر أتى بعد الله تعالى من أربعة أسرار هي : - السر الأول : يكمن في الإيمان القوي والعقيدة الراسخة وتحديد الهدف، فالإيمان بالله وتطبيقه الشرعي على الأرض يأتي بالنصر من السماء وينزل المدد من الله، قال تعالى: (وما النصر إلا من عند الله)، بمعنى مع جهودكم واتخاذكم الأسباب وتحديدكم للهدف فإن النصر ليس إلا من عند الله وهم يستحقونه لأنهم آمنوا وصدقوا وطبقوا شرع الله فكانوا الأجدر بالخلافة في الأرض والأولى بالبقاء لقيادة هذا العالم وإنقاذه من الكفر والشر والفسق والضلال. - السر الثاني : هو سلاح الصبر : فقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى الله تعالى ومع الجهود المضنية، والتضحيات الجسيمة والعمل المتواصل ليل نهار، فنتيجة هذه المدة كانت هزيلة جدا إذ لم يسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حوالي 200 رجل وامرأة إلا أن اليأس لم يعرف الطريق إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، وتشبث الجميع بسلاح الصبر، فصبروا على العذاب النفسي والعذاب الجسدي وصبروا على الحصار الاقتصادي والاجتماعي وتحملوا ظروف الغربة القاسية في الحبشة وصبرو... وصبروا... إلى أن جاء النصر العظيم من الله في معركة بدر الكبرى حيث فتحت لهم أبواب الجزيرة كلها وتحولوا بفضل الله تعالى من أمة مستضعفة إلى قوة عظمى زعزع نصرها عرشي كسرى الفرس وقيصر الروم الدولتين العظيمتين في ذلك الزمان. - السر الثالث : يكمن في القيادة الرشيدة والمشاورة الدائمة والأخذ بالأسباب : فأما القيادة الرشيدة فقد تجسدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المشاورة فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن دكتاتوريا يستبد برأيه، بل كان لا يقدم على أمر ولو بسيط حتى يستشير أصحابه مع أنه عليه السلام كان مؤيدا بالوحي، فقد شاور الأنصار وشاور المهاجرين قبل أن يتخذ الموقف الصعب ويأمر بالجهاد. وأما اتخاذ الأسباب : فمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يثق بالله الذي وعده إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما القافلة، فإنه عليه الصلاة والسلام اتخذ جميع الأسباب والاحتياطات اللازمة، فقد نظم الصفوف ووزع الألوية واختار البقعة الصالحة للقتال، ووضع كل رجل في مكانه المناسب، وأرسل الجواسيس الاستخبارية في كل اتجاه وهذا كله لا ينافي التوكل على الله بل هو استجابة لأمر الله تعالى؛ الذي يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم). - السر الرابع : فضل الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل : فمع اتخاذ الأسباب وحسن التنظيم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الدعاء، وكان يرفع يديه إلى السماء يدعو ربه حتى يسقط الرداء من على كتفيه، فاستجاب له تعالى لهذا النبي العظيم فقال الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلى بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) الأنفال الآية 10. بدر : دروس وعبر لا ينبغي لغزوة مثل بدر أن تمر على المسلمين مرور الكرام، ودون الوقوف عندها وقفة تامل كبيرة، فغزوة بدر محطة كبيرة في حياة الاسلام وفي مسيرة المسلمين بل إنها الحدث الذي غير مجرى التاريخ كله، ومنح للمسلمين فرصة الانطلاقة القوية للدعوة الاسلامية وبناء المجتمع الاسلامي، وسهل عليهم أمر فرض الذات بالقوة وسط جحيم من الفتن والقلاقل، ومكنهم من تحويل انظار العالم إليهم كقوة يحسب لها ألف حساب. ودروس غزوة بدر كثيرة وحري بالمسلم أن يعرف بعضها: 1-في غزوة بدر نجد سنة من سنن الله في الكون وهي أن الله سبحانه وتعالى يعطي دائما الفرصة للجهد البشري في صنع القرار، وهذا أمر ملحوظ في قصص الأنبياء السابقين، فمثلا يأمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام فيقول (واضرب بعصاك البحر) فهذا جهد وعمل أمر به موسى مع أن الله تعالى قادر على أن يفتح البحر دون حركة موسى، والأمر مثله يوجهه إلى مريم عليها السلام عند مخاضها؛ فيقول الله تعالى لها (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا)؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على إطعام هذه المسكينة التي خرجت من مخاض عسير وتعيش ظروفا نفسية عظيمة، لكن حكمة الله تعالى اقتضت أن تعطي دائما الفرصة للجهد البشري، والأمثلة كثيرة في قصص القرآن. وفي غزوة بدر، كان بإمكان الله تعالى أن ينصر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وان ينصر المسلمين دون حرب ودون هذه الفتن، لكن حكمة الله أوجبت هذا الاحتكاك وهذا التدافع واقتضته سنة الصراع بين الخير والشر، ثم يأتي النصر من عند الله لنصرة أولياءه الصالحين. 2-الحذر من عاقبة الظلم واتقاء مصير الظالمين : فغزوة بدر عرفت مقتل 70 صنديدا من علية رجال مكة؛ كانوا من قبل يموجون في بحر الظلم والطغيان والجبروت ويأتون الفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن، يقتلون المؤمنين ويحاصرون المسلمين وتصدو لأكبر وأعظم رسالة سماوية خرجت للعالمين، ورغم ذلك فان الله تعالى أمهلهم ومتعهم وأفاض عليهم من نعمه إلى أن جاء أمر الله تعالى بهلاكهم فخرجوا نحو مصارعهم؛ لينتقم الله منهم بسيوف أهل الإيمان يقتلون شر قتلة ويدفنون دفن الجيف في قواليب بدر ليكون مصيرهم النار والعياذ بالله قال تعالى : (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). 3-إن غزوة بدر قد وقعت في رمضان شهر الصوم والصبر، وهذا تنبيه لنا جميعا؛ إن هذا الشهر العظيم هو شهر النشاط والعمل الجاد والمتواصل وفرصة الجهاد المستمر وشهر الانتصارات، بعكس ما يعتقده البعض في هذا الزمان انه شهر الخمول والجوع والعطش، وشهر قتل الوقت في كل ما لا ينفع في انتظار آذان المغرب لقضاء الليل في كل ما يضر من المأكولات المختلفة وفي كل ما يشغل عن قيام الليل من السهرات الماجنة والأغاني الساقطة عبر القنوات الفضائية. 4- في غزوة بدر اثبات لحياة البرزخ وعذاب القبر ويتجلى هذا في وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على جيف مشركي مكة يخاطبهم بقوله: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا"، ولو لم يكن هؤلاء يسمعون ما خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل قوي على وجود حياة البرزخ بعد الموت وثبوت عذاب القبر ونعيمه وما يتبع ذلك من بعث ونشور؛ وفي هذا كله درس مفيد لمن ينكر الحياة بعد الموت أو يشك في ذلك. بنسعيد بلعيد