لم يكن البعد السميائي هو عنصر التفوق الوحيد في الإبداع في العقل العسكري بين المقاومة وجيش الاحتلال الصهيوني، بقدر ما شكل علامة فارقة في قدرات الخداع الحربي والالتفاف العسكري وهو ما جعل نصر غزة يبتدئ قبل انطلاق المعركة ومنذ جولة التسمية. وهاته التسمية "العصف المأكول" تصور في إحكام وإبداع مصير المحتلين وتقارنهم "بمآل أصحاب الفيل بذلك المصير الذي يصير إليه أوراق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل . في ما يشبه تقطيع أوصالهم وتفرق أجزائهم ويصير كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة" حسب تفسير القرطبي. وعند السيد قطب "كعصف وقع فيه الآكال وهو السوس، أو أكلت الدواب بعضه، وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها. وفي التحرير والتنوير أن العصف هو ورق الزرع وهو جمع عصفة". والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا . وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين" . ونفس هذه الصورة تتكرر اليوم في أرض المحشر والمنشر حيث يتحول الجيش الذي لا يقهر إلا حطام كحطام ورقة الزرع إذا دكته البهائم بأرجلها وتلك هي صورة الكيان الصهيوني في الرأي العام الدولي من جراء جرائم الحرب المرتكبة ضد الأطفال والمنازل وفي نظر قطعان المستوطنين ممن لم تتمكن الكلمات الجوفاء والوعود الكاذبة من حمايتهم من يد المقاومة واعتقلوا في الملاجئ طيلة 51 يوما ومنعوا من التمتع بأبسط الحقوق، فهل يعي المتصهينين هذه المعادلة أم يقفزون إلى الأمام كعادتهم في انتظار صفعة جديدة . وصورة الكيان الصهيوني صارت أهون من هذا العصف المأكول لدى القوى التي تدعمها حسب زلة لسان وزير خارجية أمريكا نفسه وحسب ما يتواتر في الشهادات الإعلامية لمحللين عسكريين وغيرهم من داخل الكيان . إن هذا الدرس وهذه الدلالة من نصر الله للبيت العتيق كما توحي به السورة الكريمة التي اختار منها العقل العسكري الفلسطيني شعارا لمعركة 51 يوما إذ أن "أول ما توحي به السورة -حسب ما ذهب إلى ذلك السيد قطب في ظلاله – أن الله سبحانه وتعالى لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم يعتزون بهذا البيت، ويحمونه ويحتمون به. فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة الإلهية لتدفع عن بيت الله الحرام، حتى لا تكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته، بحميتهم الجاهلية." وكذلك الشأن بالنسبة لحفدة قريش من حكام الخليج وسلالة الفراعنة بمصر ومن سدنة أنصام القومية وأوتان الوطنية وشعارات الممانعة الفارغة ورواد الطائفية الذين أراد الله أن تنتصر غزة وكل فلسطين دون أن تكون لهم جميعا يد في ذلك بل وفي عز انحيازهم لأبرهة العصر نتانياهو وجنده وحلفائه الجدد الذي يتباهى بهم. عندما اختارت كتائب القسام هذه التسمية فهي أرادت بذلك أن تحيل على معنى من معاني هذا النصر التي تذكر بها سورة الفيل بوصفه نصرا لا يد فيه لغير الله وجنده من عباده الصادقين وملائكته المردفين ولا منة فيه لغير المنان وليست لطاغية من طغاة المنطقة أو فتان من فتاني الطائفية وأدعياء المقاومة بل المنة أولا وأخيرا في نصر العصف المأكول للواحد الأحد. أما الدرس الأهم في السورة في القرآنية وفي تطبيقاتها المعاصرة في صورة الانتصار بغزة، "فهو ما "ذكّر الله سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهي خاضعة لسلطانها – ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليغلبوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى، فأهلكهم الله، وردّ كيدهم، وأبطل تدبيرهم، بعد أن كانوا في ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا." ونفس الأمر ينطبق على الصهاينة وقبتهم وسلاح جوهم وعدتهم وعددهم وحلفائهم القدامى والجدد وعملائهم على الأرض في الإعلام المصري والخليجي. بعد حجارة السجيل وهي كناية للصواريخ التي تحمل أسماء ورموز الشهداء القادة الذين ظن اليهود الغاصبين أنهم ارتاحوا منهم، فإذا بهم ينبعثوا من قبورهم ليقضوا مضاجع الصهاينة في عقر دارهم، هذه الحجارة التي استنزفت مالية الكيان دون أن يتمكن من إخمادها بقبته الحديدية وبغيرها، تواصل تأكيد بطش الضعيف المظلوم المتوكل على الله بالقوي الظالم المغتر بطغيانه المعتد بقوته وحوله وجبروته. لكن مفاجأة المقاومة جاءت من الدلالات العملية والعسكرية لشعار "العصف المأكول" الذي يوحي ظاهريا بتواصل واستمرار ذات الإستراتيجية وذات التكتيك العسكري مما جعل العدو يعلن عن هدف ظن أنه في متناوله، وهو إيقاف إطلاق هذه الصواريخ قبل أن يجد نفسه أمام جيل جديد من هذه الصواريخ لا تكتفي بالردع والترهيب ولا يكتفي بمجرد اعتقال السكان في الملاجئ وأخذهم رهينة عن بعد طيلة مدة الحرب، ولكن يمتد إلى مقابلة الحصار البري بحصار اشد منه وهو الحصار الجوي باستهداف المطار ومنع الصهانة لأول مرة من حقهم في السفر دون أن يصادر وثائق سفرهم فالحصار يقابله حصار والألم يقابله ألم والقصف يقابله قصف " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما " النساء 104. وأكثر المفاجآت التي دفعت العدو الغاصب إلى تغيير هدفه من الحرب في أبان المعركة ولأكثر من مرة، فهو الاشتباك من مسافة الصفر والإنزال العكسي من خلف خطوط العدو والقيام بمحاصرة أرتاله العسكرية المهاجمة من الخلف بواسطة الخنادق وهو سلاح أمضى وأكثر فتكا ومفاجأة، والذي تمكن فضلا عن إيقاع الخسائر الفادحة في الأرواح والمعتقلين من تحطيم صورة الجندي والمجند الصهيوني في عيون الصهاينة وداعميهم، كما تمكن من إبطال قدرات العدو على خوض الحروب البرية، وساهم كذلك في إغناء القاموس العسكري المعاصر ودشن لنظريات جديدة في الفكر العسكري الحديث، حيث عوض السقوط من أعلى كما توحي بذلك حجارة السجل رأينا الإنزال من تحت، والصعود من تحت والنزول المعكوس من قاع الأرض والانبعاث من تحت الركام في تمثل لقوله تعالى " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا "، فكانت لدلالات أضداد الكلمات بمثابة كلمات السر وشفرات المعركة وعطلة أدوات الإدراك العسكري للعدو وتفوقت عليه رمزيا وعمليا ومن ثم بدا النصر لغزة وبدأت الهزيمة بالصهاينة اليهود والمتصهينين العرب. ونفس الدرس من دروس حادثة الفيل يتكرر أيضا وهذه المرة بخصوص المعتدين ونهايتهم وسقوط رهاناتهم يقول السيد قطب "كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب – أبرهة وجنوده – أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يدنسه. والمشركين هم سدنته. ليبقي هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين، مصوناً من كيد الكائدين. وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية، ولا يهيمن على الأديان وعلى العباد ويقود البشرية ولا يقاد. وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام، عام الفيل". وتنزيل ذلك من خلال دلالات "العصف المأكول" هو أن الله لم يقدر لليهود المحتلين نتانياهو وجنده وحلفاءه الجدد- أن يحكموا يحطموا غزة وينزعوا سلاح المقاومة ويسيطروا على وكامل فلسطين حتى وأهلها من الفلسطينيين والعرب والمسلمين يبيعونها والمتصهينين من حكام العرب سدنتها، لتبقى فلسطين أرضا للرباط إلى يوم الدين ويبقى أهلها أهل رباط وجهاد وينكشف زيف الزائفين من مدعي المقاومة وأدعياء الممانعة من الحكام والأحزاب. قال تعالى : "إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ". صدق الله العظيم.