في البدء كانت القيم.. يتألم معظم المسلمين لكارثة انهيار الجرف الإسرائيلي على قطاع غزة، ويبكي جراح الفلسطينيين وشهداءهم وأطفالهم. لكن لم البكاء؟ ! أ على انهيار جرف (صامد) زائف حَمَى "إسرائيل" لعقود خلت؟ ! أم على الخراب والجراح والدماء؟ ! إن كان بكاء على الثاني فمعقول ومقبول وعزاؤنا "إن تكونوا تألمون، فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون". ليس وقت نحيب.. ليس وقت بكاء، فلنلملم جراحنا.. ولنكفكف دموعنا.. ولنحبس عبراتها الدافئة على الوجنات، ولْتُحاصرها أناملنا عند الأجفان لتعيدها إلى الأعماق، عساها تولد طاقة توهج دافعة إلى التفكير الهادئ والتخطيط المحكم والضرب العاصف. قد لا يحمل كلامي جديدا إلى امرأة فلسطينية غزاوية التقطتها عدسات الفضائيات رابطة الجأش، ضَلّت دموعها سبيل الخروج، وبيتها دمار وأهلها زُفوا إلى دار القرار. هي لا تحتاج إلى كلماتي المسجوعة، ولا إلى تنظيراتي المتأخرة، إنها تستلهم من أبي القاسم ومن عز الدين القسام. امرأة فاق وعيها البلغاء والعقلاء، كل ما يمكن أن يأتي من إشارة من هؤلاء تجده غضا في وجدانها منحوتا في عقلها سجية، رَبَا صمودها أدعياء كربلاء. كيف لا وجدها الشهيد عز الدين مفجر الثورة الفلسطينية الكبرى(1936-1939)، وإمام الإعداد لمواجهة الأعداء. قمينة هي بذلك، لن تنسى ذكريات طفلة حملت حجارة الطير الأبابيل(1987-1991-1993)، ولم تأل جهدا، وهي شابة، بتصنيع صواريخ سجيل، ثم ضاعفت خصوبتها لإنجاب جيل بعد جيل.. جيل الطائرات وكل أصناف الذخيرة، جيل العصف..جيل النصر الذي تحاصر صواريخه تل الربيع(أبيب)، وتهدد كل مكان في "إسرائيل". في البدايات تكمن المآلات.. أطلت التقديم وأكثرت السجع في موضوع ما ينبغي فيه ذلك، إذ أن توقع المآلات تستوجب دراسة وتحليل المعطيات القائمة على الأرض. لكن، في نفس الآن، لا يمكن أن أعتبر جرعات التاريخ وإشراقات العقيدة والثقافة التي حوتها المقدمات السالفة ضربا من التحليق في السماء، بخاصة إذا كان متخصصو المستقبليات يجعلون من ثلاثية التاريخ والدين والثقافة أساسا لاستجلاء معالم المستقبل. ما يجري على الأرض توازن للرعب، لا بل هلع إسرائيلي كبير. ومساع مصرية، لا أدري إن كانت مغفلة أم خائنة، لا تدعو إلا إلى وقف إطلاق النار، وشروع إسرائيلي في اجتياح بري وبحري محدود هدفه ردم أنفاق غزة ! بعد تردد طويل، وقد سبقه هجوم فرقة "كوموندوس" القسام على ثكنة عسكرية إسرائيلية، وعمليات طائرات الاستخبار ووضع كافة أرجاء "إسرائيل" تحت النار. من غير المعقول عندي رفض حماس وباقي فصائل المقاومة بمفردها مبادرة التهدئة المصرية في ظل ترحيب عربي وأمريكي. ولا أحسبها حركة تغامر إلى هذا الحد وقد أشربت فكرة تفادي الحرب في غياب الإعداد الجيد من عز الدين القسام. لا شك في أنها مطمئنة لقدرتها على المواجهة ومناورة الأطراف الدولية أثناء التفاوض مستغلة كل ما يبديه سلوك هذه الأطراف من تناقضات ومصالح. تم تخطي المبادرة/ المؤامرة المصرية بنجاح، وبدأت بالظهور وساطات جادة: مساعي محور فرنساوتركياوقطر من جهة، ومساعي محور روسيا وإيران. ويبدو أن هذه المساعي لن تمض بالسرعة التي تريدها إسرائيل لوقف إطلاق النار، إلا إذا تدخل اللوبي الصهيوني بكل ثقله لاجبار "إسرائيل" على احترام المواثيق الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني، ولتذليل المسالك المعقدة أمام مختلف الأطراف المؤثرة في النزاعات القائمة عربيا للجلوس إلى حوار جاد يضع حدا للطغيان والقتال والدمار. إن كل المؤشرات تدل على دنو نصر مبين لصالح المقاومة: أوباما يهاتف نتنياهو مستشيرا عن إمكان تدخل بلاده للوصول إلى تهدئة! أمريكا مشغولة بالطائرة الماليزية وسماء وأرض"إسرائيل" ملتهبة بوابل صواريخ لا ينقطع! ومحور سياسي عربي- إسلامي(قطر- تركيا) داعم للمقاومة والمصالحة والديمقراطية. وحرب نفسية وإعلامية غير مسبوقة، وصَفّ فلسطيني متماسك يسير تجاه توحيد النضال في إطار منظمة التحرير. لم يوفق الكيان الصهيوني حتى في اختيار شعار المعركة (الجرف الصامد) الذي أبان منذ الانطلاق عن نية دفاعية مترددة، لأنها أدركت إصرار قوى العالم الحرة على المضي لإحداث التغيير المنشود. بينما كان شعار المقاومة مرعبا (العصف المأكول) يعكس قدرا عاليا من الثقة، وتصويرا يستخف العدو وينذر بسَحقه ولو بعد حين.