أشار القرآن الكريم إلى أهمية الرضاعة الطبيعية، وحدد مدتها المثالية قبل أربعة عشر قرن؛ قال مولانا تبارك وتعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ اَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة، 231]. أقرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في بيانها الأخير توصيتها على الاقتصار على الرضاعة الطبيعية لمدة لا تقل عن 6 أشهر، إلا أنها أضافت توصيات جديدة تحث على استمرار الرضاعة الطبيعية، مع إدخال الأغذية التكميلية لمدة سنة أو أكثر حسب الرغبة المتبادلة من قبل الأم والرضيع. لقد جاء هذا البيان بعد عدة دراسات أكاديمية أجراها في السنوات الأخيرة باحثون من اختصاصات مختلفة، أثبتت فوائد الرضاعة الطبيعية بالنسبة للطفل والأم المرضعة والمجتمع.. حليب الأم.. غذاء فريد يعتبر حليب المرأة الحليب المثالي للرضيع، فتركيبه المتكامل يوفر للطفل كل حاجياته الغذائية الضرورية بتناسب عجيب مع أجهزته المختلفة. فهو الحليب الأكثر ملائمة واحتمالا والأقل ضررا من حليب البقر، وأي حليب آخر مهما اجتهد الإنسان في تعديله. يحتوي حليب المرأة على أقل نسبة من البروتينات مقارنة مع حليب الثدييات الأخرى لكنه يلاءم بشكل كامل حاجيات الطفل، فامتصاصها يتم بكل يسر وسلاسة.. تشتمل بروتينات حليب المرأة على الكزيين (Caséine)، والليزوزيمات، والغلوبولينات المناعية (Immunoglobulines)، التي تلعب دورا رياديا في حماية جسم الرضيع من الأمراض الجرثومية، وبروتين الترانسفيرين الناقل الخاص لذرة الحديد وكذا العديد من هرمونات النمو. فحليب المرأة ليس مجرد غذاء وحسب بل له عدة وظائف بيولوجية. كما يحتوي حليب المرأة على أنواع مختلفة من السكريات (الكلكوز، الكلكتوز، الفركتوز..) مقارنة بحليب البقر الذي لا يتوفر إلا على نوع واحد هو اللكتوز، فحليب المرأة يساهم في نمو بكترايا الأمعاء الطبيعية وبالتالي في الوقاية من التهابات الأمعاء الجرثومية. يتميز حليب المرأة بتوفره على أنزيمات خاصة تدخل في عملية هضم الدهنيات الموجودة به، لذلك فالطفل يستفيد من الأحماض الذهنية الضرورية لنمو مختلف أجهزته على الخصوص الجهاز العصبي والبصري.. وجدير بالذكر أن حليب المرأة يمر بمراحل مختلفة تتناسق مع عمر الرضيع. ففي خمسة أيام الأولى من الولادة يفرز الثدي اللبأ الذي يتميز بنسب أقل من الدهون واللكتوز والكزيين من الحليب الناضج، لكنه عشر مرات أكثر غنى بالخلايا المناعية، ومرتين أكثر احتواء على الأجسام المضادة المناعية. تصبح هذه المرحلة أكثر امتدادا في حالات الولادة المبكرة، لتُوفر فرصة أكبر لنمو دماغ الرضيع بشكل سليم. يتغير بعد ذلك تركيب الحليب في المرحلة الثانية، أي المرحلة الانتقالية لتتزايد نسبة الدهون والسكريات، وبروتين الكزيين، وتتناقص كمية الأجسام المضادة للمناعة، وبعد أربعة عشر يوم يصبح الحليب ناضجا، ويستمر تطور تركيبه بحسب حاجيات الرضيع. فوائد الرضاعة الطبيعية.. • الوقاية من التهابات الرئة تقلل الرضاعة الطبيعية الخالصة من الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي السفلي لدى الرضع، وتخفض عدد الزيارات الطبية والاستشفاء بنسبة 72% إذا استوفت 4 أشهر. كما لاحظ الأطباء أن الرضاعة الطبيعية الخالصة لمدة أربعة أشهر تخفض من شدة مرض التهاب القصيبات التنفسية الفيروسي بنسبة 74%. ولاحظ الباحثون أنه كلما كانت مدة الرضاعة الطبيعية الخالصة أطول كلما انخفضت نسبة حدوث أمراض الرئة خاصة في السنة الأولى. • الوقاية من التهاب الأذن الوسطى الحاد (Otite moyenne aigue) أوضحت دراسة البروفسور دنكان (Duncan et al)، وفريقه أن رضاعة الحليب الطبيعي لمدة لا تقل عن أربعة أشهر تضاعف حماية الطفل من التهاب الأذن الحاد مقارنة مع الرضاعة الاصطناعية، كما أن الرضاعة الطبيعية الممتدة على 6 أشهر تخفض نسبة هذه الإصابة بثلاثة أضعاف. تنخفض الإصابة بنزلات البرد والتهابات الأذن والحنجرة الخطيرة بنسبة 63% لدى الرضع الذين يرضعون رضاعة طبيعية خالصة لمدة ستة أشهر. • أمراض الجهاز الهضمي يقي الإرضاع الطبيعي من التهاب الجهاز الهضمي للرضيع بنسبة 64% ويستمر هذا التأثير لمدة شهرين بعد التوقف عن الرضاعة الطبيعية. لاحظ البروفسور لوكاس وفريقه (Lucas et al) أن التهاب الأمعاء الناخر كان أكثر شيوعا من 6 إلى 10 مرات لدى الأطفال حديثي الولادة الذين تغذوا على الحليب الاصطناعي وإن كان قد استعمل مكملا بدلا من الرضاعة الطبيعية الخالصة. كما يعتقد الباحثون أن استخدام الحليب الاصطناعي في وحدة رعاية الأطفال حديثي الولادة يكون مسئولا عن 500 حالة جديدة من التهاب الأمعاء الناخر منها 100 قد تكون قاتلة. • الوقاية من أمراض أخرى ينخفض معدل الإصابة بالموت المفاجئ بنسبة 36% بفضل الرضاعة الطبيعية، كما ينخفض خطر الإصابة بأمراض الحساسية كمرض الربو بشكل ملحوظ بعد إرضاع الطفل لمدة أربعة أشهر على الأقل بالرضاعة الطبيعية الخالصة. بالرغم من العوامل المعقدة التي تربك الدراسات حول السمنة إلا أن الملاحظون يقرون صحة انخفاض هذه الظاهرة بنسبة 15 % إلى 30% لدى المراهقين والكبار إن تلقوا الرضاعة الطبيعية مقارنة مع انعدامها. كما تفيد الدراسات أن الرضاعة الطبيعية الخالصة تساعد على انخفاض ملحوظ في نسبة الإصابة بمرض السكري نوع 1 (بنسبة 30%) ونوع 2 (بنسبة 40 %). من مظاهر الرحمة الربانية أن جعل رب العزة للمولود الجديد غذاء ملائما لحاجياته في ثديي أمه، فحليب الأم طاهر، إذ يأخذ الرضيع لبن المرأة مباشرة من الحلمة دون أن يتعرض لأي تلوث جرثومي ويتميز بحرارة ثابتة في جميع الأوقات. تقوي الرضاعة الطبيعية أواصر العاطفة والرحمة بين الأم ووليدها أو المرضعة ورضيعها فيجعلهما أكثر ارتباطا وينتعش الطفل حنانا ينعكس إيجابيا على تربية سلوك قويم. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..