قال الله تقدست أسماؤه: "إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُومِنُوا وَتَتَّقُوا يُوتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ اَضْغَانَكُمْ هَاَنْتُمْهَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوافِيسَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْمَنْيَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِوَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" [محمد، 37-39]. أثبتت التجارب أن مشروعات التنمية البشرية لا يكتب لها النجاح، ولا تحقق المقاصد المرجوة ما لم يشترك المواطنون الأفراد والجمعيات المدنية في هذه المشروعات. وقبل أن أتعرض لهذا الموضوع بتفصيل، أود أن أصدر بمفاهيم ومنطلقات تتعلق بالمجتمع والتنمية بغية استيعاب ما سيأتي ذكره فيما بعد، فمن تلك المفاهيم أن المجتمع الذي يفقد التجانس على مستوى المبادئ والأفكار والأهداف، يستهلك طاقاته في التناحر الداخلي حيث يسوده نوع من الصراع الصامت. 1. إن الاتساق في الفعل الاجتماعي ينشأ من خلال تطابق المفهومات والمبادئ المشتركة أو تقاربها على الأقل، وحتى تكون هذه المبادئ عامل توحيد لا بد أن ترتكز على عقيدة واحدة... وحين تشكل العقيدة القاعدة الأساسية للحياة الفكرية تتوحد نظرة الناس إلى قضايا عدة مثل المباح والممنوع والسلطة والمسؤولية والمال والقيموالتربية والدين والثقافة والمستقبل، ومعايير التفاضل والتقديم والتأخير والخطأ والصواب.. فوحدة الإيمان بمثل أعلى، ووحدة المفاهيم كفيلة بتوليد دينامية الجماعة ذات القصد المتحد والمشاريع المتحدة، وكفيلة بتفجير منابع الرحمة والمواساة والتواصل الاجتماعي؛ 2. ومن تلكم المنطلقات أن المجتمع يكون مجتمعا بمفهوم المطابقة بمقدار ما يحس أفراده بعضهم ببعض، وبمقدار ما يوالي بعضهم بعضا، وبحسب ما يجري فيه من ضروب المراعاة والمواساة وتبادل المنافع. وإن في توجيهات نبينا صلى الله عليه سلم ما يدل على أن التفكير في منفعة الآخرين وإسعادهم ينبغي أن يتبوأ مكانا رفيعا في أولويات الإنسان المسلم ووقته وجهده.. لقد كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يخفف الصلاة حين يسمع بكاء الصبي، وكان يوصي الأئمة بأن يخففوا الصلاة لأن في من خلفهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وكان يوجههم إلى مراعاة الحس الاجتماعي المشترك كما في الحديث الصحيح عن البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام"[1]. إن في مجتمعنا اليوم من يستخدم نعم الله تعالى لإيذاء مشاعر الناس من المواطنين وغيرهم واستفزازهم من خلال الحفلات الفاخرة، والولائم العامرة، والمساكن الشامخة، والمراكب الفارهة.. وكل ذلك من تبلد الحس الاجتماعي الذي يؤذي ويخلف جروحا عميقة!! 3. إن غنى المجتمع بالجمعيات والروابط والمؤسسات الوسيطة والأندية والهيآت التي تخدم جوانب الحياةومصالحها المختلفة هو أبرز علامة على تقدمه كما أن الفقر الاجتماعي الحقيقي يتجلى في ندرة الجمعيات المدنية. في السنوات الأخيرة وقع اهتمام كبير بكتاب عالم الاجتماع الفرنسي "أليكس دي توكفيل" الموسوم ب"الديمقراطية في أمريكا"، لما تضمّنه من تقريرات منهجية مهمة في طبائع العمران الاجتماعي كقوله: "إن الجمعيات المدنية، والروابط والاتحادات الشعبية الصغيرة هي سر الديمقراطية الأمريكية، وأوضح أن الأمريكيين حين يلتقون بأعداد كبيرة فإنهم يتبادلون الحديث، ويستمع بعضهم إلى بعض، ويظهرون عن طيب خاطر كيف أن احتراما مستنيرا لأنفسهم يدفعهم على الدوام إلى مساعدة بعضهم بعضا، ويجعلهم يميلون إلى التضحية بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم من أجل رفاهية المجتمع" واستوصى في آخر كتابه بثلاث مؤسسات رئيسة باعتبارها المجدد الأمثل للقيم الديمقراطية: إحداها: الدين؛ فهو يشدد على أن المبادئ الدينية تتبوأ مكان القلب من المثاليات والقيم الديمقراطية؛ والثانية: المجتمع الأهلي، أو مجتمع البلدة حيث يتعارف الناس ويدعم بعضهم بعضا؛ والثالثة: الجمعيات المدنية والسياسية التي تمكن الناس من معرفة مسؤولية التفويض وطرق التدبير، وتكسبهم خبرات متنوعة وعديدة من خلال العمل الجماعي. وتأسيسا على ما سبق نقول: إن مشاركة المواطنين والجمعيات المدنية في التنمية إحدى القيم الضرورية المحورية باعتبارها غاية ووسيلة في الآن نفسه، وهي تمثل أهمية استراتيجية خاصة في تنمية المجتمع المحلي، ومعرفة الحاجات والمشكلات، وكيفية حلها ومعالجتها، وتنمية قدرات الناس على الاعتماد على أنفسهم. وأتصور أن العمل الاجتماعي الذي يخدم التنمية البشرية لا بد أن يشتغل وفق مسارين متوازيين، أولهما: المقاربة التنموية وهي تقوم على تمكين الأسر ذات الدخل المحدود أو المعوزة من مشاريع صغيرة تدر عليها دخلا راتبا محترما، تكفيها ذل السؤال والحاجة؛ وثانيهما: المقاربة الوقائية وهي تقوم على تفادي المشكل الاجتماعي ومعالجته ومحاصرة مقدماته وأسبابه قبل وقوعه. فعلى سبيل المثال يشكل التفكك الأسري أحد الأسباب الرئيسة لأزمات اجتماعية خطيرة كالفقر والتسول وتشرد الأطفال والدعارة.. ومقتضى المقاربة الوقائية أن يطلق المجتمع مبادرات مكثفة لتحصين الأسرة من أسباب التفكك والانحلال وتقوية مناعتها ضد مشاريع التجزيء والتفتيت. إننا بحاجة في هذا الباب إلى إطلاق "ورشات الحوار العائلي" ومبادرات المجتمع المدني في التدريب على مهارات التواصل والحوار والتحكيم وتدبير الاختلاف والصلح "والصلح خير"؛ 4. إن الفائض الثقافي الإنساني المعرفي هو الذي يؤسس لثقافة الحوار والاحترام المتبادل، وفقه التواصل والمصالح المشتركة لكن حين يدفع الناس إلى زاوية ضيقة من زوايا الحياة، وتنسد أمامهم آفاق الإصلاح، وتحسين الأحوال، ودفع المظالم، فإنهم يفقدون الحس الثقافي الاجتماعي، ويدفعون ب"الوحش" الكامن في أعماقهم، ليصبح المسيطر المتحكم على كل مفاصل الحياة، وحينئذ يبدو المشهد كأن الناس لا يحسنون سوى العنف. ومن ثم لا بد من إشاعة روح التعاون والتآزر والتكامل... إننا نملك نسقا قيما معياريا عظيما لإنجاز وتنفيذ مختلف برامج التنمية الاجتماعية في شتى المجالات.. كبناء مجتمع المعرفة ومكافحة الأمية، والعناية بالأيتام والعجزة والمرضى وضحايا الكوارث، والاهتمام بالطفولة والشباب وقضايا المرأة، وإحداث مؤسسات ذات طابع إنساني اجتماعي، وتحسين الخدمات الاجتماعية في العالم القروي.. لكن ينبغي التنبيه على أن مشاركة الجمعيات أو المواطنين في التنمية رهين بمدى التقدم والنمو الاقتصادي للمجتمع، فالطبقات الفقيرة تكون عادة مشغولة بلقمة العيش التي تكفل لها البقاء، ويتسم سلوكها بالفردية، ويضعف اهتمامها بالقضايا العامة. ويرى بعض المتخصصين أن هناك نوعين من دوافع المشاركة التطوعية هما: الدوافع الغيرية التي تتمثل في الاهتمام بالآخرين والرغبة في خدمة الغير، والدوافع الذاتية كالدافع لتقدير الذات وكسب الاحترام والمكانة الاجتماعية... ومن ثم يمكن القول: إن درجة مشاركة المواطنين في التنمية متأثر بمستوى طموح سكان المجتمع المحلي، وأنه كلما زادت آمال الأفراد وطموحاتهم كانوا أكثر ميلا للمشاركة والحركة الإيجابية في الواقع. ولا شك أن الجمعيات والروابط إحدى الوسائل التي يمكن عن طريقها استثارة الناس وتثقيفهم وتحفيزهم على الخير والمبادرة الإيجابية في المشروعات الإنسانية الاجتماعية، وقد يرجع ذلك إلى أن هذه الجمعيات تمتاز بقدرتها القيادية المهنية وامتلاكها لرؤية واضحة واستراتيجية متكاملة، وهذا يجرنا للحديث عن العمل الاجتماعي المؤسسي فهو أكثر تقدما، وأعظم نفعا من العمل الاجتماعي الفردي وأوسع تأثيرا في مختلف مرافق الحياة من حوله، إذ إن العمل المؤسسي يسهم في جمع الجهود ولم الطاقات الاجتماعية المتناثرة، فقد لا يستطيع الفرد أن يقدم عملا محددا في سياق محو الأمية مثلا، ولكنه يتبرع بالمال أو بمكان مناسب لذلك، فتستطيع المؤسسات الاجتماعية أن تجعل من الجهود المختلفة متآزرة ذات أثر كبير إذا ما اجتمعت وتكاملت. ولا يمكن أن نفرغ من هذا المقال دون أن ننوه بأهمية التربية على القيم الاجتماعية من خلال وسائط التثقيف والتنشئة كالأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام لغرس قيم التضحية والإيثار والمشاركة وروح العمل الجماعي في نفوس الناشئة منذ مراحل الطفولة المبكرة. وفي هذا السياق لا بد أن تشتمل البرامج الدراسية للمؤسسات التعليمية على مفاهيم العمل الاجتماعي وأساليبه ونظمه ودوره التنموي، وإرداف ذلك بالبرامج التطبيقية كحملات تنظيف محيط المدرسة أو العناية بأشجار المدينة وأزقتها وشوارعها، وتعليم اللغات وإلقاء دروس التقوية وغير ذلك. ------------------------------------------- 1. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، كتاب اللباس، حديث أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع، ج:2 /401 - الحديث الرابع.