التكافل من الكفل وهو المثيل والنصيب، قال تعالى:من يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها (سورة النساء، الآية85) . كما يعني أيضا الضعف ومنه قوله تعالى:يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته (سورة الحديد، الآية28).وكفل الرجل وبالرجل كفلا وكفالة: ضمنه (المعجم الوسيط2/793). ومن ذلك قوله تعالى:وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم(سورة آل عمران الآية.44) أي يضمنها ويربيها ويتولى رعايتها. وصيغة التكافل تدل على التفاعل بمعنى المشاركة بين الطرفين، ومن ثمة تتجسد حقيقة التكافل الاجتماعي في التزام الأفراد ومساندة بعضهم لبعض، دون إغفال دور الدولة باعتبارها طرفا أساسيا بالنظر إلى التزاماتها في إطار تحقيق مصلحة المجتمع. 1 حقيقة التكافل الاجتماعي في الإسلام: التكافل الاجتماعي ينطلق من فكرة أساسية، مفادها أن المجتمع السليم ينبغي أن تسود بين أفراده قيم التآخي والتعاون، بالشكل الذي يضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة للأفراد ويحفظ كرامتهم. وكما هو معلوم فتحقيق ذلك رهين بمدى إحساس الإنسان بمسؤوليته تجاه أخيه، إذ يستشعر من خلاله أن عليه واجبات ينبغي عليه أن يؤديها من غير تقصير ولا إهمال. إن التكافل الاجتماعي من المنظور الشرعي تعبير صريح عن الأخوة الصادقة التي يدعو إليها الإسلام، ويسعى إلى تمتين أواصرها بين الأفراد؛ قال تعالى :إنما المؤمنون إخوة(سورة الحجرات ،الآية 10). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ( صحيح الإمام البخاري). فالإيمان لا يقف عند مستوى الاعتقاد، بل يرتبط بطمأنينة القلب وسلامة التصرف والسلوك، فهو ما وقر في القلب وصدقه العمل أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. من أجل ذلك يحرص الإسلام كل الحرص على تغيير السلوك البشري بما يتوافق مع القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة التي ترسم المعالم الصحيحة للتصرف السليم، فيتحقق بذلك الانسجام الكامل والتوافق التام بين العبادة والمعاملة مادامت الغاية واحدة وهي التقرب إلى الله وتحقيق المصلحة العامة. وفي هذا السياق يعتبر التكافل الاجتماعي في الإسلام عبادة من العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى لنيل ثوابه وكسب مرضاته، قال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة...(سورة البقرة، الآية:671). وقد قام المجتمع الإسلامي على مبدأ التكافل في مختلف العصور، كان أكثرها تجسيدا لهذا المبدأ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فقد نهلوا من معين التربية النبوية التي كانت أصدق تعبير عن نبل الأخلاق الإسلامية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا يقتدى به وأسوة للناس جميعا بسلوكه وأفعاله، وكذا من خلال نصائحه وتوجيهاته. ومن الأدلة التي يمكن اعتمادها في هذا الإطار الحديث الذي رواه أبو سعيد الخذري(ض) أنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لاظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لازاد له قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل(صحيح الإمام مسلم). ومن المواقف التاريخية التي تجسد بحق أهمية التشريع الإسلامي في ترسيخ مبدأ التكافل، بوصفه منهجا عمليا ، وسلوكا حضاريا يروم الحفاظ على كرامة الإنسان وصون حقوقه، ما ذكره القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل شيخ كبير ضرير البصر فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله...ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال:انظر هذا وضر باءه فوا لله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم. 2 الآليات الاقتصادية لتحقيق التكافل الاجتماعي: يزخر التشريع الاقتصادي الإسلامي بمجموعة من العقود أو التنظيمات المالية، التي تشكل آليات عملية كفيلة بتنزيل مقاصد الشريعة وتحقيق أهدافها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، نذكر من ذلك على سبيل المثال تشريع عقود شرعية ذات طابع إحساني، ثم تشريع فريضة الزكاة باعتبارها عبادة مالية وأداة للتنمية . فأما بالنسبة للعقود التبرعية، فهي تكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى دورها الإنساني في تحقيق التكافل الاجتماعي، وتأمين الحاجات الأساسية للأفراد. ومن هذه العقود ما هو على وجه التأبيد كالوقف والوصية والهبة، ومنها ما هو محدد على مستوى الأجل كالعارية والقرض الحسن. وتتحدد مقاصدها الشرعية في تقوية الإحساس التضامني وتحقيق الأمن النفسي داخل المجتمع، بالإضافة إلى تمتين الروابط الأسرية وكذا ترسيخ قيم الأخوة والتعاون وفق التصور أو النموذج الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (صحيح الإمام مسلم) . كما حث القرآن الكريم على الإنفاق وبذل المال في أوجه البر والإحسان، ووعد المتبرعين بالثواب الجزيل وبالأجر المضاعف قال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم (البقرة 261 ) . بالإضافة إلى ذلك بين الله تعالى أوجه إنفاق المال، محددا الجهات التي هي أحق بالاستفادة من هذا الإنفاق، قال عز من قائل : (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم). (البقرة،215). ويمثل الوقف نموذجا مهما للعمل التبرعي الإحساني الذي يسهم بشكل أساسي في تحقيق النفع العام وتأمين حاجيات الأفراد بشكل دائم ومستمر، فهو تبرع بمنفعة عين لجهة ما حال الحياة، وذلك على وجه التأبيد، ويقوم بالأساس على وضع الأموال في معزل عن التصرف الشخصي وتخصيص خيراتها ومنافعها لأغراض اجتماعية وتنموية كدعم المرافق الاجتماعية، وإنشاء مؤسسات ذات نفع عام.. أما عن فريضة الزكاة فهي تعتبر من أهم الموارد المالية التي تسهم بشكل ملموس في تحقيق التكافل الاجتماعي، ذلك أنها تمثل نظاما ماليا فريدا بالنظر إلى الخصوصيات المرتبطة بهذه الفريضة، وارتباطا بالمقاصد التي تروم تحقيقها. فهي بالنظر إلى المزكي تعتبر طهارة للنفس من صفة البخل ودنس الشح وطهارة للمال ونماء له قال تعالىخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلواتك سكن لهم (التوبة 103 ). وقال صلى الله عليه وسلم : إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره ( السنن الكبرى للبييهقي). أما بالنظر إلى أخذ الزكاة أو المستفيد، فهي تمثل أداة للتنمية والتكافل الاجتماعي، ففي إخراجها سد خلة المحتاجين وحفظ كرامتهم، وصون عفتهم، وتخفيف من معاناتهم النفسية وحماية لهم من رق العوز وقسوة العيش، وفي نفس الوقت مد لجسور التواصل وتثبيت لدعائم المودة بين الأفراد، وسبيل لإدخال السرور على المؤمن. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: إدخال السرور على المؤمن، قيل: وما إدخال السرور على المؤمن ، قال: سد جوعه وفك كربته وقضاء دينه. ( (السلسلة الصحيحة للألباني). وقال ابن قيم الجوزية موضحا مقاصد تشريع الزكاة: وأما حسن الزكاة وما تضمنته من مواساة ذوي الحاجات والمسكنة والخلة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم ... وما فيها من الرحمة والإحسان والبر والطهارة وإيثار أهل الإيثار، والاتصاف بصفة الكرم والجود والفضل، والخروج من سمات أهل الشح والبخل والدناءة فأمر لايستريب عاقل في حسنه ومصلحته، وأن الآمر به أحكم الحاكمين (مفتاح دار السعادة، 2/356). ومن أهم التجليات العملية لمقاصد الزكاة التكافلية والاجتماعية، ما يرتبط بمصارفها ومجالات إنفاقها، فكما هو معلوم يتم تخصيص جزء من أموال الزكاة لضمان وسد الحاجات الضرورية ذات الطابع الاستهلاكي لفئة من المجتمع، والتي هي عاجزة عن الكسب وغير قادرة عن العمل، إما بسبب إعاقة جسمية أو ذهنية أو بسبب مرض أو شيخوخة أو يتم أو لأسباب أخرى، قد يبتلى بها المرء ولا يقدر التغلب عليها فتتعذر عليه بذلك سبل العيش الكريم. كما يتم تخصيص جزء آخر من أموال الزكاة لتشغيل الطاقات العاطلة، وتمكين القادرين على العمل من سبل العيش الكريم، وذلك من خلال توفير الأدوات الإنتاجية لهم وتحسين أوضاعهم الحرفية والمهنية، وتحفيزهم على الإنتاج و الاستثمار . إذن فدور الزكاة لا يقتصر على توزيع الأموال على الفقراء بل هي وسيلة أساسية للتحفيز على العمل من خلال إيجاد فرص للشغل بالنسبة للعاطلين وتمكينهم ومساعدتهم على شراء أدوات العمل والإنتاج، خاصة أصحاب المهن وذوي الحرف الذي يعانون من ضيق ذات اليد ولا يملكون من المال ما يكفيهم للاعتماد على خبراتهم وتحسين أوضاع عيشهم . بالإضافة إلى ذلك تعتبر الزكاة موردا دائما لبيت مال المسلمين، وأداة شرعية للتأمين ضد مختلف الكوارث ووسيلة فعالة للتقليل من الآفات الاجتماعية. ففي تشريع الزكاة اهتمام بذوي الحاجات الطارئة من الغارمين الذين اضطروا للاستدانة، ولم يتمكنوا من الوفاء لأسباب تتجاوز إمكانياتهم، وكذا للاجئين والمشردين الذين أرغمتهم قسوة العيش وتقلبات الدهر للاستسلام للذل والبؤس. فمثل هذه الحالات وما شابهها، لها الحق في الاستفادة من أموال الزكاة، يقول تعالى:إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم. ( سورة التوبة ، الاية60). وبالفعل فقد ترجمت تلك المقاصد الشرعية للزكاة على مستوى الواقع، حيث تم من خلالها سد حاجة الفقراء وإشباع جوعتهم وقضاء الديون عن الغارمين، و تهييئ أسباب العفة والطهارة في المجتمع من خلال مساعدة الشباب على الزواج، فتحققت بذلك مظاهر العدالة الاجتماعية، والقيم الإنسانية الصادقة، وهذا ما تجلى واضحا في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي كتب إلى وإليه بالعراق: أن أخرج للناس أعطيتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني أخرجت للناس أعطيتهم، وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف، فاقض عنه، فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه أن انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه فزوجه، واصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت: وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فما أحوجنا إذن في وقتنا المعاصر إلى تمثل معاني وقيم تلك التنظيمات المالية الإسلامية وتيسير شروط وضوابط تفعيلها، وتنزيلها بشكل صحيح، خصوصا بعد أن أثبتت الحقائق التاريخية، والوقائع الميدانية على فعاليتها، ودورها الإيجابي في ترسيخ قيم التكافل والتعاون والعزة بمختلف تجلياتها للأمة الإسلامية.