رأي شخصيّ حول تحقيق الحلم العربيّ يدير السّيّد محمّد الهاشميّ الحامديّ على قناة المستقلّة سلسلة حوارات تتعلّق بالحلم العربيّ حول موضوع رئيس خصّص للفائزين في الجواب عنه جوائز ماليّة هو: متى يصنع العرب السّيّارة والطّائرة والحاسوب؟! وكما فهمت فإنّ السّيّد الهاشميّ يقصد مساعدة الأمّة على تحقيق النّهوض العلميّ والتّكنولوجيّ وعلى المشاركة الفاعلة في الحضارة الإنسانيّة، وبدافع الغيرة على الوطن والأمّة ومن وحي قراءة بعض الكتّاب المرموقين الذين تناولوا القضايا الاقتصاديّة وقضايا التّنميّة كانت المساهمة التّاليّة تجارب لا ينبغي إغفالها: أكّد السّيّد (Lester Thurow) أستاذ الاقتصاد بجامعة مساشوستس في مؤلّفه \"الصّراع على القمّة\" (Head to Head) (*) أنّ السّياقات الاقتصاديّة لا تسعف عدّائي المسافات القصيرة خصوصا بعد اندلاع الأزمة الاقتصاديّة وارتفاع معدّلات التّلوّث البيئيّ على نحو ينذر بكارثة محقّقة، لذلك يتعيّن من وجهة نظره اعتماد حلول تعاونيّة تتضافر من خلالها جهود الدّول والشّعوب، فالأزمة المالية تظهر إفلاس النّظام الاقتصاديّ العالميّ، وتكشف العولمة وهم الرّفاهيّة وحقيقة السّوق الحرّة بالإصرار على ربويّة الأنظمة الماليّة والتّساهل بالمعايير الفنّيّة للمصرفيّة العالميّة والتّضحيّة بالرّقابة على تعامل البورصات بالمشتقّات النّاتجة عن عمليّة التّوريق، كما تؤكّد في نفس الوقت عدم اكتراث الشّركات الاحتكاريّة لما يتهدّد الإنسانيّة من كوارث بيئيّة واجتماعيّة، وسعيها إلى بناء عالم بخمس ثريّ بتنميّة الفقر في الدّول المستضعفة، وجعلها سوقا استهلاكيّا، ومدفنا للنفايات الصّناعيّة، ونهبا للمؤسّسات الماليّة، ومختبرا لتجربة الأسلحة المختلفة. فصحيفة (Le Monde) تنقل في عددها ليوم 19/06/03 عن السّيّد (Michel Rocard) أحد السّياسّة الفرنسيّين المرموقين قوله: <<إنّ الانتصار الذي حقّقته الرّأسماليّة في نهاية المطاف هو المأساة التي يصعب على الكثير من زملائي اليساريّين هضمها، إنّنا نعيش اليوم في ظلّ اقتصاد منفتح على العالم أجمع حيث لم يعد هناك مجال لضبطه وتنظيمه (La Régulation économique)، كما لم تعد هناك حدود لزخم المنافسة، إنّنا لا نبني المجتمع الذي كنّا نحلم به>> (**) فالتّفاوت الاقتصاديّ يفضي حتما إلى الاسْتِبْعاد الاجتماعيّ (L exclusion Sociale) لمجموعات بشريّة ما فتئت تنمو بشكل مضطرد لتشكّل القاعدة العريضة للهرم السكّانيّ العالميّ، ويدفع النّاخبين الذين لا يشعرون بالرّضا من الأوضاع القائمة إلى مقاطعة العمل السّياسيّ وعدم الثّقة بالسّياسيّين حتى في الأقطار التي تتميّز بتجربة ديموقراطيّة عريقة، فعندما لا تتوازن الاعتبارات الاقتصاديّة مع نظيراتها البيئيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة يتشكّل الاستقطاب بين الفاعلين على أساس المصالح المتباينة فتتعمّق الهوّة بشكل مأسويّ بين الأمم والطّبقات، وإذا علمنا أنّ الدّول العشرين \"الأكثر ثراء\" هي في الحقيقة حكومات شركات تديرها الشّركات من أجل الشّركات، اكتشفنا حجم الاختلال في ميزان القوّة بينها وبين دول بقيّة العالم، وأدركنا مقدار ما يحدّ به ذلك الاختلال من قدرة المستضعفين على حماية مصالحهم بشكل فعّال إن كانوا متفرّقين متنافسين وغير متضامنين، وإلى هذا التّحرّر من الاعتبارات الإنسانيّة يشير السّيّد هانس بيتر مارتين مراسل مجلّة (Der Spiegel) في أمريكا الجنوبيّة وزميله السّيّد هارولد شومان محرّر المجلّة نفسها بمكتب برلين، في المؤلّف المشترك عن )فخّ العولمة( الذي قدّمته سلسلة عالم المعرفة للقرّاء العرب بترجمة الأستاذ عدنان عبّاس عليّ (***) فيما أوردا عن عملاق التّجارة (Washington Sy Cip) من تصريح يؤكّد فيه أنّه لن تكون هناك حاجة إلى أيد عاملة أكثر من خمس قوّة العمل الذي يكفي لإنتاج جميع السّلع، فعلى هذا النّحو وبهذا المنطق سيواجه الآخرون في أربعة الأخماس المتبقّيّة مشاكل عظيمة يرى الجيوستراتيجيّون (Géostratégie) من بناة \"حضارة القرن الأمريكيّ\" أنّ العمل على تخفيف حدّتها ممكن بما يسمّونه \"حلمة التّسليّة\" (Tittytainment) وهو خليط من الإلهاء المخدّر وبعض التّغذيّة التي تمنع الجوع من أن يطلق المارد من قمقمه، أو بتسريب بعض الفيروسات الفتّاكة المدرجة ضمن الأسلحة البيولوجيّة التي تسبّب السّرطان والعقم والأمراض المهلكة للتّحكّم في النموّ الدّيمغرافيّ وتدبير ما يطرحه استهلاك الموارد الطّبيعيّة والأخطار البيئيّة المحدقة من مشاكل، وما يثيره توزيع الثّروات والتّوزيع السّكّانيّ من تناقض، فالتّصريح الجرّيء الذي أدلت به وزيرة الصّحّة الفنلنديّة والذي اتّهمّت فيه صنّاع القرار السّياسيّ في الولايات المتّحدة بالعمل على تقليص سكّان العالم بإرغام منظّمة الصّحّة على تصنيف أنفلونزا الخنازير وباء مهلكا لجعل التّلقيح المقترح لمحاربته إجباريّا بالنّسبة للشّرائح المستهدفة من الجيل القادم، فممّا يحرّض الشّكّ في نوايا المتحكّمين في تدبير \"النّظام العالميّ\" ويدفع إلى الاحتجاج على قراراتهم المتهوّرة إعفاء الشّركات المنتجة للّقاح من تحمّل أيّة مسئوليّة حتى وإن كانت مضاعفاته غير معروفة وتأثيراته الجانبيّة غير متأكّد منها، وهو ما اعتبرته الوزيرة مؤشّرا خطيرا على النّوايا المبيّتة (****) حقائق لا بدّ من استحضارها: أ) أسعف اختفاء الدّبّ السّوفيتيّ من غابة المسرح الدّوليّ في هيمنة وحيد القرن الأمريكيّ عليها، ولم يكن للتّنّين الصّينيّ أن يصل إلى ما وصل إليه لولا المرونة في تحدّي الثّغرة الزّمنيّة التي تفصل بينه وبين الغرب في مجال التّصنيع، والتّضحيّة بالبعد البيئيّ عند السّعي للحصول على الطّاقة اللاّزمة، فمع إصرار الولايات المتّحدة على العمل بمبدأ مونرو والمبدأ الذي أقرّة تيودور روزفلت سنة 1904، وفي ظلّ اقتصاد عالميّ مفتوح يغيّب الاعتبارات البيئيّة والاجتماعيّة تصبح المنافسة غير متكافئة ولا عادلة ب) لم يكن احتلال العراق للسّيطرة على النّفط وحسب وإنّما لتدمير القاعدة العلميّة والصّناعيّة التي أقامها نظام بعثيّ لا يمكن لمنصف مهما كان حجم الاختلاف معه أن يزايد على وطنيّته، فضمن هذا السّياق يمكن فهم ما تعرّض له العلماء والأساتذة الجامعيّون والأطبّاء العراقيّون من تقتيل، وما تعرّضت له المتاحف والجامعات والمصانع والبنيات الأساس من تدمير منهجيّ استهدف الذّاكرة الجمعيّة لشعب العراق والعودة به وببلاد الرّافدين إلى عصور ما قبل التّاريخ، وضمنه أيضا يأتي الهجوم على المشروع النّوويّ الإيرانيّ والحيلولة دون فكرة الوحدة سواء كانت على أساس قوميّ أو إسلاميّ أمميّ، فبمجرّد إحياء العمل بنظام الخلافة كان الهجوم على أفغانستان والإطاحة بنظامها بدعوى أحداث الحادي عشر من سبتمبر المدبّرة ج) لا ينبغي نسيان ما يتعرّض له شعب العمالقة من استئصال منهجيّ تديره حكومة العدوان الإسرائيليّ نهارا جهارا بالتّعاون مع حلفائها المعروفين وبالتّواطؤ مع أعوانها المألوفين، في وقت تعلن فيه \"ريباح\" (Rebah) التّابعة لجماعة ((أمناء جبل الهيكل)) خمس سيناريوهات لهدم المسجد الأقصى وتحرّض جماعة ((شهود يهوه)) حكومة تلّ أبيب على توسيع قاعدة الاستيطان بالقدس ونشر المزيد منها في الضّفّة الغربيّة لفرض واقع سياسيّ وسكّانيّ يساعد على تحقيق نبوءة توراتيّة كاذبة، وعلى التّوسّع والتّهويد واقتلاع أصحاب الأرض إمّا قتلا أو بالتّرحيل قسرا، وإمّا حصارا وعزلا وتطويقا، أو بتضييق سبل العيش الكريم وحجب الهوّيّة المميّزة بهدم المنشآت العمرانيّة وتخريب البنيات الاقتصاديّة وطمس المعالم الأثريّة والاعتداء على المؤسّسات الدّينيّة ومحو كلّما يؤسّس ويؤثّث الذّاكرة الجمعيّة ليس للشّعب المستهدف وحسب وإنّما لأمّة بالكامل وللعالم أجمع، وفي وقت يُمَجِّد فيه الإعلام الغربيّ ((الذّلقراطيّة)) التي أدخلتها دبّابات الاحتلال إلى بلاد المسلمين، ويكيل رديفه المحلّيّ المديح لانتخابات صوريّة لم تشارك فيها سوى فئات محدودة من مناطق معيّنة دون مراقبة دوليّة حقيقيّة تحت نَيْر قوانين وتشريعات وضعها المحتلّ في سياق عدوانه على المنطقة، بل تحت ضغط واقع مؤلم وإغراء دعاية كاذبة توزّع من الأحلام الورديّة ما يزرع الأمل في النّفوس، ومن الإكراه ما يُسَوِّغ اللّجوء إلى توظيف بطاقات التّموين لحمل النّاخبين على التّصويت لصالح لوائح معيّنة، وابتزاز المتردّدين منهم بحرمانهم من التّزوّد بالمياه الصّالحة للشّرب وقطع تيّار الكهرباء وشبكة الهاتف عن أحيائهم بعد تخريب قنوات صرفها الصّحّيّ، ثمّ يُراد بتمجيد هذا المسخ الذّئبقراطيّ تحريض النّخب العميلة على تسويقه ونقل عدواه إلى شعوبهم التي يتخيّلون أنّ التّخلّف الاقتصاديّ، والاستبداد السّياسيّ، والتّخذيل الثّقافيّ، والتّخدير الإعلاميّ قد حوّلها إلى قطيع ستحتدّ المنافسة بينهم وبين رعاته كلاّ بطريقته، على بيعه لمن يحتاج إلى ذبحه، فما جرى ويجري بالقدس من ظلم وعدوان تأكيد لمن هو في حاجة إلى تأكيد على رغبة العدوّ وحلفائه وأعوانه في مصادرة حقّ الأمّة في الوحدة والتّقدّم، وكعادتهم دائما وقف المرجفون في أطراف البلاد الإسلاميّة من المعذّرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف موقفا مخزيا بالسّكوت سكوت المشارك والوقوف وقوف المتفرّج على إخوة يذبحون في العراق وأفغانستان وغزّة ولبنان، ولولا لطف الله ثمّ غيرة بعض أبناء هذه الأمّة وعزمهم على التّعاون مع كلّ منصف على جلب الغزاة والطّغاة إلى المحاكم لوسمهم بالإدانة وشجبهم بالجريمة حتى لا ينجوا بفعلتهم، وليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيي عن بيّنة د) كيف يرفع الله إذن أقدار قوم يلعن فيهم الخلف السّلف ويُؤْذَى رسولُ الله بينهم في القرآن وفي صحبه وأزواجه وآل بيته، بل كيف يستقيم أمرهم وهم يلعن البعض منهم البعض وينصِّب بعضهم بعضا عدوًّا، هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طعّانا أو لعّنا أو فحّاشا أو بذيئا؟! ألم يكن خلقه القرآن؟! أم كيف يرفع الله أقدار قوم يشيعون الفاحشة في إخوانهم فلا يزور البعض منهم بعض البلاد \"الإسلاميّة\" إلاّ لشرب الخمور وممارسة البغاء والإنفاق على الشّهوة الحرام؟! قوم جعلوا فيهم بظلم منهم بدوا بدون، ويحتاج هلال رمضان في بلادهم إلى تأشيرة دخول تجعل بعضها صائما والبعض الآخر مفطرا؟! قوم قدّموا الأعراف القبليّة وعطّلوا شرع الله في تزويج الفتاة المسلمة فيهم قسرا لمن لا يكافئها، وفي إسقاط الجنسيّة عنها عند الزّواج بمسلم من قطر آخر ؟! أم كيف يرفع الله أقدار قوم حجم التّبادل التّجاريّ فيما بينهم لا يرقى إلى المطلوب فيما حجمه مع محتلّي الأمس يفوق التّوقّع؟! قوم ابتلوا بقرديّة (Singerie) سمجة لا يتوقّفون بها عن أن يكونوا مهرولين ومتأرجحين بين ذئبقراطيّة محلّيّة وذلّقراطيّة عالميّة، وبتبعيّة منكرة منعتهم من أن يرتضوا الشّورى التي سمّى الله بها سورة من الكتاب إعلاء لشأنها نظاما سياسيّا واجتماعيّا، ومنهجا ثقافيّا وأخلاقيّا ليحيوا فرض الجهاد الذي جعله المولى عزّ وجلّ ذروة سنام الدّين إحياء يكون بشرطه في محلّه وعلى نحو شامل ومندمج يغطّي مجالات الحياة سواء العلميّة منها أو الأمنيّة، والثّقافيّة منها أو التّقنيّة، والاقتصاديّة منها أو الغذائيّة والمائيّة، وسواء الإعلاميّة أو العسكريّة فلا تتنازعهم الأهواء القطريّة المذهبيّة منها والطّائفيّة، ولا العصبيّة القبليّة والعشائريّة فيكونوا عباد الله إخوانا كما أمر بل كيف يرفع الله أقدار قوم يكنزون الثّروات الخياليّة في المصارف العالميّة ويستثمرون مثلها أضعافا مضاعفة في البلاد الأوروبيّة والأمريكيّة وبلاد المسلمين في حال مزر من الفقر والعجز والمديونيّة تستجدي الاستثمارات الأجنبيّة؟! لقد اعتدي على هذه الأمّة مرّة يوم أن ضعفت فيها قوّة ذوي الإسلام ومات فيها الأبطال وباعها ضعاف النّفوس وبعض العاقّين من أبنائها للتّتر، واعتدي عليها ثانية يوم أن تفرّقت في الأندلس حصصا وممالك يبيع بعضها بعضا لملوك الرّوم والفرنجة وقشتالة إلى أن تراجعت دولتها وانقرضت، وكذلك حال كل دولة فسد أمر القائمين بها فانقطع عنهم الفتح والتّوفيق بعدما رهنوا إرادتهم للأعداء والمتربّصين بهم في الخارج سنة الله في الخلق ولن تجد لسنّة الله تبديلا، بل اعتدت على نفسها لما فرّطت بالدّولة الجامعة وأخذت بنحلة المحتلّ في بناء الكيانات القطريّة فكان تقصيرها واضحا في الدّفاع عن وحدتها وسيادتها وعن أرضها المقدّسة بفلسطين، ثمّ اعتدى المارقون من دينها الكافرون بوحدتها على أمنها وتقدّمها ببيعها مرّة أخرى لحلف الشّرّ والعدوان بزعامة الأمريكان، وككلّ مرّة لم يفتح الله على البائعين الخائنين و المرتشين المتعاونين مع استخبارات العدوّ حتى مع تولّيهم المسئوليّة في حكومات عميلة تساند الاحتلال وتنظّر للعدوان، مثلما لم ينصر كلّ من عاداها من الغزاة والمستكبرين أو حاول وأد تطلّعها المشروع نحو المستقبل وهي واحدة موحِّدة وموحَّدة لا يخاف الفرد فيها على نفسه وماله إلاّ من الله والذّئب، من الدّار البيضاء إلى جاكرتا، ومن داكار إلى كابول ه) إنّ الأساس الموضوعيّ وليس العاطفيّ هو ما يعطي للوحدة زخمها وللحرّيّة مدلولها الإنسانيّ، من حيث إنّ الوحدة ضرورة تاريخيّة والحرّيّة مقتضى وجوديّ وهما معا ضمان للتّقدّم ورافعة لازدهار الأمّة، فالحرّية هي نموذج سلوكيّ يؤنسن الإنسان الذي يتميَّز عن غيره بالكينونة العاقلة وبالفعل المتعقّل المميَّز بالقصديّة وبما يملك من قرار الاختيار، وينضبط له طواعية من القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة التي تنمّي إرادة الأقوم وتخدم العدل وتحصّن الشّعور بالمسئوليّة، فالحرّية هي بهذا المعنى، وهي أهمّ الدوافع التي ترجّح الالتزام بالأهداف الرّفيعة والغايات الإنسانيّة النّبيلة على النّوازع الوضعيّة والميل إلى إشباع الرّغبات الأنانيّة الضّيّقة، وبغيره تصبح همجيّة مقيتة تعيد صياغة الكائن البشريّ فتجعله أشدّ بؤسا وفتكا وأقذر وحش يسير في الأرض على غير هدى لا يهذّبه دين، ولا يزينه خلق، ولا يؤمن إلاّ بنزواته المنفلتة من أيّ وازع أو ناظم أو رادع، ومن منظور الإسلام فإنّ الحرّية من صميم كرامة الإنسان الذي يستمدّ قيمته من كونه عبدا لله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، ومن ثمّة فهي واجب أكثر منها حقّا لأنّ مناط أيّ تكليف هو الأهليّة التي ترتبط بالعقل، وبالإرادة الحرّة ضمن السّقف الإيمانيّّ ومقاصد الشّرع الحنيف بوصفها حزام الأمان، أي ضمن الاحترام الصّادق للآخرين وللآداب العامّة والقواعد مرعيّة الإجراء والنّظام العامّ، واعتبارا لهذه الحقيقة استنبط علماء الأصول من النّصوص الشّرعيّة قاعدة فقهيّة مفادها أنّ: (كلّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب)، ورأى معظم الفقهاء والمتكلّمين أنّ اقتران الحرّية بالمسئوليّة شرط ينسجم مع مهمّة الاستخلاف ووظيفة الإعمار التي كلّف الله بها الإنسان منذ بدء الخليقة، وبالنّظر إلى ما للجانب التّأسيسيّ من أهمّيّة في مثل هكذا موضوع أقرّ الإسلام الحرّيات الفرديّة والجماعيّة ونظّمها بنصوص محكمة وثابتة تجملها العبارة البليغة المأثورة عن الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب: (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا)، فالسّعي إلى الحفاظ على كرامة وإنسانيّة الإنسان، والمحافظة على قوّة الأمّة ووحدتها ومناعتها وسلامة دينها لتمكينها من المساهمة في صياغة المستقبل الواعد بشكل يثبِّت خيريّتها، ويضمن أداء رسالتها بوصفها رسالة مدنيّة وأمن وسلام، ينبني على العناية بثلاثة أمور رئيسة هي: أوّلا: الاهتمام بالتّربيّة لأنّ الاهتمام بها أشرف الصّناعات من حيث إنّ كلّ صناعة تستمدّ شرفها من شرف محلّها، ولمّا كان الإنسان أكرم مخلوق وأكرم ما فيه قلبه الذي يسعى المربّي إلى إعانته على القرب من الله بتطهيره من الرّذائل لما ورد في الحديث الذي أخرجه الحافظ النّوويّ في الأربعين (ج 1 ص 82) حيث يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب)، لذلك كانت التّربيّة التي تعنى بتزكيّة القلوب وتلطيف النّفوس وتهذيب العقول وتقوية الأبدان وإصلاح السّلوك أشرف الصّناعات، وكانت من أنبل المهامّ التي اضطلع بها كلّ الأنبياء والرّسل عليهم أفضل الصّلاة وأزكى السّلام، فالتّفاعل العميق الملحوظ في الواقع بين جوانب الكيان البشريّ التي يفضي الرّبط الكامل بين مستوياها الجسديّة والنّفسيّة والعقليّة والرّوحيّة إلى بناء شخصيّة الإنسان على نحو متّزن يحقّق له كينونة فاضلة فريدة ومتميّزة عن جميع المخلوقات، جعل منهج التّربيّة في الإسلام يتصدّى لمعالجة الفرد والمجتمع معالجة شاملة تأخذ الإنسان على ما هو عليه: أي بفطرته التي فطره الله عليها، فتربط بين جميع جوانب الشّخصيّة دون أن تغفل شيئا من تلك الفطرة، ومن غير أن تفرض عليها ما ليس في تركيبها الأصيل. والمؤكّد أنّ هدف التّربيّة من منظور إسلاميّ هو جعل فكرة التّغيير في اتّجاه الأقوم نحو الأحسن التي تستمدّ مشروعيتها ممّا أشار إليه الله سبحانه وتعالى في الآية 11 من سورة الرّعد في قوله: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، وهي فكرة واضحة متمكّنة تشكّل مرتكزا فكريّا وحركيّا متينا يساعد على تجديد الوعي الإنسانيّ وإعادة بناء التّوجّه الرّساليّ للدّعوة الإسلاميّة بوصفه وسيلة لكلّ تغيير إيجابيّ وعدّة ضروريّة لتصحيح الأوضاع والتّوجّهات انطلاقا من أربعة مبادئ هي: 1 الاحترام الفعليّ لما ينشأ عن وجود الإنسان والكون من علاقة شرطيّة تؤسّس معنى الوجود بمفهومه العامّ، وتحدّد وظيفة ابن آدم في عبادة الله وتعمير الأرض من حيث إنّ تعميرها ممارسة للعبادة في صورتها الكاملة: الفرديّة والجماعيّة، الإنسانيّة والكونيّة. 2 الوعي بقوانين التّغيير الذي لا يكتمل إلاّ مع امتلاك الضّروريّ من ثلاثة أمور هي فقه الدّين، وفقه الدّعوة، وفقه الواقع في إطار نظام فكريّ عمليّ يحقّق بالنّسبة للأوّل منها تصحيح التّصوّر كشرط لتفادي التّنطّع، وتصحيح السّلوك كشرط لاجتناب الانحراف والتّطرّف، وتصحيح الالتزام كشرط للابتعاد عن الانتماء الكاذب، ويحقّق بالنّسبة للثّاني اعتماد الثّوابت الكبرى، واعتبار المقاصد العامّة للشّريعة المتمثّلة في الكلّيات الستّة وهي حفظ النّفس والدّين والعقل والنّسل والعرض والمال، ثمّ احترام قاعدة التّدرّج في الدّعوة إلى الخير، ومبدأ الرّفق عند التّعامل مع النّاس، بينما يحقّق للثّالث أي لفقه الواقع شروط التّنزيل القويم لأحكام الدّين الثّابتة على الواقع المتغيّر، والتّرتيب السّليم للأوّليّات على أساس العلم والاجتهاد بما يضمن ربط المشروع الإسلاميّ بحركة التّاريخ، ثمّ ببناء القدرة على التّدافع للخروج بالأمّة من حالة الغثائيّة والوهن. 3 السّعي إلى تحديد منطلقات الأزمة بأبعادها التّاريخيّة والواقعيّة بشكل علميّ ومتّزن لتبيّن عناصرها المتشابكة، واستيعاب أسبابها المتعدّدة بغية لجمها، ومن أجل السّيطرة عليها بما يمكّن من بناء الأسس اللاّزمة لنهضة شاملة وتنميّة مندمجة تصحّح مسار الأمّة وتدعم قومتها وتعيد أمجادها الحضاريّة والإنسانيّة 4 العمل على تحديد الملامح العامّة لمشروع التّغيير المطلوب تحقيقه كمشروع شامل منفتح وعمليّ يلتزم بسنن التّغيير وآليّاته التي لا تقبل التّقسيم والفصل، مع الحرص على توضيح مبرّراته، وبيان وسائله، وشرح أهدافه المرحليّة وغاياته النّهائيّة التي من أهمّها: * تشكيل العقل المجدِّد الذي يرتبط بالله عزّ وجلّ، والذي يعي ضرورة التّجديد وأهمّيته في نظام أيّة جماعة. * تحكيم الشّريعة في جميع مناحي الحياة الخاصّة بالمجتمع المسلم. * فتح آفاق الحوار المسئول مع العالم انطلاقا من المصالح الكبرى المشتركة بين جميع الشّعوب من أجل توفير المناخ العلميّ الحرّ والنّزيه الذي يحقّق تكامل الثّقافات وتضافر جهودها في بناء حضارة الإنسان وتنميتها. (*****) ثانيّا: التزام مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات من حيث إنّ الالتزام به ضمانة للسّلم والتّعارف والتّعاون بين النّاس الذين متى ما كانت الفروق الفرديّة الموجودة بينهم بمنأى عن مبدأ الوحدة وقاعدة المساواة، فإنّه يلزم من ذلك أن تكون تلك الفروق بعيدة عن مبدأ العدل الذي يستوي معه القويّ والضّعيف، والغنيّ والفقير، والذي يحمي مصالح القريب والبعيد، ويحفظ حقوق المسلم وغيره، لذلك فإنّ الإسلام يعتبر النّاس كلّ النّاس إمّا إخوة في الدّين أو نظراء في الْخَلْق يجب التّعامل معهم على أساس السّلم كعلاقة أصليّة تهيّئ أسباب التّعاون على الخير العامّ، وتمنح لكلّ منهم حرّيته الدّينيّة والدّنيويّة دون الإضرار بأحد أو انتقاص لحق أحد، قال الله تعالى في الآية الأولى من سورة النّساء: (يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء، واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا). ثالثا: التّأكيد على مبدأ المسئوليّة: فقد بيّنت الشّريعة الإسلاميّة من خلال الكتاب والسّنّة أنّ القصد ممّا أوْرَدَتْ من أحكام المعاملات إنّما هو تحصيل المصالح، وحفظ النّظام والحقوق، وترقيّة الحياة الاجتماعيّة، لذلك فإنّنا إذا تتبّعنا تعاليمها الخاصّة بهذا الباب نجد أنّها تشبه القواعد الكلّيّة، أمّا التّفاصيل والتّطبيق على الجزئيّات التي تختلف وجهة الصّواب فيها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص تبعا لما ينشأ عن هذا الاختلاف من الحاجات، فقد تُرِكَت لاجتهاد أهل العلم والنّظر يستنبطونها إمّا بتطبيق ظاهر النّصّ، أو باللّجوء إلى القياس والتّرجيح، أو بتحكيم المصلحة المرسلة، أو بطريق النّظر في العلل والأسباب ومراعاة الأصول العامّة والمقاصد الكبرى لشريعة الإسلام على أن يكون مقتضى اجتهاد كلّ مجتهد منهم هو نفاذ مبدأ المسئوليّة الذي يحفظ للنّاس حقوقهم ومصالحهم، ويقف بحرّياتهم عند حدّها النّافع، ويحقّق قول الله تعالى في الآية 21 من سورة الطّور: (والذين آمنوا واتّبَعَتْهُم ذريّتُهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتَهم وما ألتْنَاهُم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين)، وقوله عزّ وجلّ في الآية 24 من سورة الصّافّات: (وقِفُوهُم إنّهم مسئولون)، وقوله في الآيتين: 7 و8 من سورة الزّلزلة: (فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره) ويتطابق بالتّالي مع التّأكيد على مبدأ المسئوليّة عن الأقوال والأفعال الوارد في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاريّ في الصّحيح عن النّبي صلّى الله عليه وسلم حيث يقول: (ألا كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته)، ثمّ مع المبدأ العامّ للشّرع الإسلاميّ الذي تضمّنه التّوجيه النّبويّ في الحديث الذي أخرجه البخاريّ ومسلم في الصّحيح، كما أخرجه الدّارقطنيّ في السّنن في الجزء الرّابع على الصّفحة 227 بترقيم تحت عدد: 83، والإمام الشّافعيّ في الجزء الأوّل من المسند على الصّفحة 224 عن مالك عن عمرو بن يحيى المازنيّ عن أبيه، وأبو داود والنّسائيّ عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والإمام أحمد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا طاعة لأحد في معصية الله، إنّما الطّاعة في المعروف). و) يقتضي التّجديد استفراغ الوسع في العناية بستّة جوانب متضافرة لأهمّيتها في تشكيل المجال الثّقافيّ وهي: 1 الدّعوة إلى طلب العلم: حيث إنّ أوّل فريضة فرضها الله على المسلمين تعلّقت بأوّل آية نزلت من القرءان وهي قوله تعالى في مطلع سورة العلق: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم) 2 التّنبيه إلى الاختلاف كحقيقة إنسانيّة وواقع كونيّ: حيث لا يمكن من منظور إسلاميّ تخطّي واقع الاختلاف بين النّاس الذي ينشأ بحسب تباين أساليب معايشهم، وبفعل تمايز أمكنتهم وأزمنتهم وأحوالهم، وما ينجم عن ذلك كلّه من تنوّع في عاداتهم وأعرافهم وأذواقهم وعقولهم وأفهمهم، للسّير في اتّجاه يؤدّي لا محالة إلى الانغلاق والعزلة وإلى الدّخول في مواجهة مجهولة العواقب مع مبدأ تكامل النّوع البشريّ وسننه النّاظمة للحياة الاجتماعيّة على كوكب الأرض، فتقبّل الاختلاف والإقرار به وامتلاك القدرة على إدارته بمنهج علميّ متّزن هو أبرز تعاليم الدّين الإسلاميّ المستفاد من قوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) 3 التّفتّح على الغير ومحاورته بالتي هي أحسن لتنمية الاستعداد للتّواصل والقدرة على التّفاعل: لأنّ الانفتاح مبدأ إسلاميّ به يتحقّق التّراكم الذي يعتبر إحدى قوانين التّغيير، فهو طريق للوصول إلى كلّ النّاس في العالم، ووسيلة للتّعبير عن عقلانيّة إسلاميّة ترفض الخرافة والأسطورة وتدعو إلى الاجتهاد الذي يقوم على أرضيّة فكر مقاصديّ يؤمن بالعقل فعّالية إنسانيّة متميّزة تزداد أهمّيتها مع الالتزام بالمحدّدات العلميّة للتّأويل، ويؤمن بالحرّيّة قيمة وجوديّة ترتفع بارتفاع مستوى الانضباط للمسئوليّة، بقدر ما يقوم على توجّه رساليّ يتعامل مع الواقع بوصفه معطى تاريخيّا يخضع عند مواجهته لقوّة الإرادة، وعند التّصدّي لإصلاحه لمدى الالتزام بشروط تنزيل الأحكام ومعايير ترجمة القيم إلى سلوك ملموس غير أنّ لهذا الانفتاح قواعد تجب مراعاتها منها: معرفة الغير الذي يراد الانفتاح عليه معرفة كافية في ذاته وعلاقاته: في لغته ثقافته مذاهبه أفكاره مبادئه عاداته وتقاليده، وفي أنظمته أوضاعه مواقفه دوافعه أهدافه ووسائله، فعلى ضوء هذه المعرفة يبنى منهج الانفتاح وتحدّد مراميه وأدواته، ومن خلالها يفهم ما يجب تجنّبه وما يجب الاستفادة منه، وعلى أساسها تتمّ إدارة المشاركة فتحدّد نوعيّتها وتبنى عمليّة التّدافع لتجري المنافسة بطرق ووسائل مشروعة. الحرص على انفتاح لا إفراط فيه ولا تفريط، مع اليقظة الكاملة لكي لا يتحوّل إلى شكل من أشكال التّنازل عن ضروريّات الشّريعة وثوابتها فيصبح وسيلة لرفع قابليّة الأمّة للغزو والذّوبان، وخطرا داهما يهدّد دولتها بالضّعف والانحلال وهو ما لا يمكن أن تتحقّق معه المصالح المطلوبة والمقاصد المرجوّة. 4 التّأكيد على أنّ العناية بالأسرة فرع من العناية بشأن المرأة كلّه: ففي القرآن الكريم سورة عرفت بسورة النّساء، وأخرى سمّيت بسورة مريم، وثالثة اهتمّت بشأن من شئون الحياة الزّوجيّة سمّيت بالمجادلة، ورابعة اختصّت بأمر فسخ ميثاق الزّوجيّة فسمّيت بالطّلاق وهي وغيرها من سور الذّكر الحكيم اعتنت عناية خاصّة بأمر المرأة حيث أسبغت على عقد الزّواج صبغة الميثاق الغليظ، وأحالت إلى الرّوابط الإنسانيّة النّبيلة التي تجمع بين طرفيه فتجعل منهما نواة اجتماعيّة منسجمة ومتماسكة ترتكز على علاقة المودّة والرّحمة ما يؤهّلها لحفظ العرض وتسلسل الذّرّيّة بالبنين والأحفاد لتتفرّع عنها الأجيال شعوبا وقبائل تتعارف وتتعاون، ولتنشأ عنها الأمّة الفاضلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتحقّق للإنسان معنى الكرامة 5 التّأكيد على قيمة العمل: باعتباره فاعليّة حرّة تميّز الكائن العاقل بالقصديّة في السّلوك، وتنشئ آثارا تؤنسن وجوده الاجتماعيّ وترتّب عليه المسئوليّة عن أفعاله التي تجري عليها الأحكام الخمسة باعتبار عنصر النّيّة وبحسب ما تفضي إليه من نتائج ملموسة، أي يجري عليها إمّا حكم الإباحة أو الوجوب أو النّدب أو الكراهة أو الحرمة، قال تعالى في الآية 105 من سورة التّوبة: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وسَتُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبِّئُكم بما كنتم تعملون) 6 التّأكيد على قيمة الوقت باعتباره فرصة لا تعوّض: فقد أقسم الله بالعصر في السّورة الثّالثة بعد المئة فقال: (والعصر إنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر) ليميّز بذلك بين أسلوبين في إنفاق الوقت: أي بين أسلوب الإنفاق الاستهلاكيّ الذي تؤول عاقبته إلى الخسران والنّدم، وبين أسلوب الإنفاق الاستثماريّ الذي يرعى الاستقامة على أمر الله من حيث هي أرقى تعبير عن الحرّيّة ويهتمّ على منهج الأنبياء بعمل الصّالحات ممّا ينفع النّاس كلّ النّاس، قال الحسن البصريّ رحمه الله: )الإنسان بضعة أيّام كلّما انقضى يوم منها انقضى بانقضائه بضع(، فتدفّق الزّمن وتعاقب الأيّام واللّيالي يرفض الكسل والتّراخي ولا يسعف في إحراز التّفوّق والفوز بالمكاسب إلاّ للمجدّين من ذوي الهمم العالية والعزائم الصّادقة الذين يتميّزون بالمبادرة إلى استغلال ما تسمح به المناسبات الحالّة من إمكانيّة النّجاح والظّفر بالآمال، وفي هذا المعنى يورد القرءان الكريم صورة تبيّن تحسّر من فوّت على نفسه عمل البرّ والغنيمة من الخير عبر قوله تعالى في الآية 27 من سورة الفرقان: (ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا، لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني، وكان الشّيطان للإنسان خذولا) إمكانيّات لا بدّ من استثمارها: إنّ المتأمّل لخريطة العالم الإسلاميّ سيجد أنّ تضاريسها المتنوّعة تزخر بشتّى الثّروات الوافرة سواء البرّيّة منها أو البحريّة، المعدنيّة منها أو الحيوانيّة والنّباتيّة، وتملك من وسائل الطّاقة التّقليديّة والمتجدّدة، وتدّخر من الإمكانيّات المادّيّة والبشريّة ما يسمح بقومة محقّقة من الكبوة الحضاريّة، ويساعد على ملء كلّ ثغرة يطلب ملؤها لتحقيق التّقدّم في المجالات العلميّة والصّناعيّة والتّقنيّة وغيرها، وسيجد أيضا أنّ المجتمع المسلم يمتلك القيم الموجّهة المتمثّلة في أخلاق الإسلام وشريعته الخالدة من حيث إنّ أيّ منظومة للعلوم والتّكنولوجيا ليست حياديّة، فهي تستبطن رغم عالميّة قوانينها توجّها عامّا مصاحبا لحركتها ينبثق عن تلك القيم الموجّهة التي يؤمن بها المجتمع (******) وبالنّظر إلى ما يمتلك هذا العالم في مجال الطّاقة والمعادن، والثّروات البحريّة والزّراعيّة، وفي المجالات الماليّة والخدميّة والتّجارب العلميّة والصّناعيّة يصبح في حكم اليقين الثّقة بقدرته على المنافسة بل على الرّيادة في مضمار العلوم والتّقنيّات وسائر الميادين الذّكيّة، غير أنّ ما يعيق تحقّق حصول هذه الطّفرة النّوعيّة هو غياب الإرادة السّياسيّة المتمثّل في نفور النّخب الحاكمة من الوحدة التي ستذهب حتما بجميع ما يتمتّعون به من امتياز، وفتور المطالبة الشّعبيّة بتلك الوحدة على أساس أن يكون الولاء فيه لله وللرسول ولعامّة المسلمين دونما تعصّب للغّة أو الجنس أو اللّون أو العرق، وميل النّخب الحزبيّة والحركات المدنيّة عن تأصيلها والتّنظير لها بفعل الارتباط القطريّ ومتطلّبات التّنافس على \"الحكم\" وما ينشأ عنه من ترابط في المصالح الضّيّقة المطلوب إذن: توطين العلوم والتّكنولوجيّات المختلفة عبر عمليّة الاستيعاب والملاءمة وتحسين القدرة على الاستخدام والتّطوير والنّقل والتّعميم، وذلك بتنمية المعارف وتحسين المهارات وتوفير الوسائل الكفيلة بتحسين الشّروط الموضوعيّة والارتقاء بالمؤهّلات الذّاتيّة لتحقيق هذا الإنجاز الحضاريّ المتعلّق بتوطين العلوم والتّقنيّات تسخير جميع الموارد في عمليّة تشجيع البحث العلميّ وحضّ القطاع الخاصّ على المشاركة بإيجابيّة في هذا الجهد لإحراز المزيد من التّقدّم والنّجاح في إنهاء التّبعيّة للخارج ردم الهوّة الفاصلة بين القطاعات الإنتاجيّة التّقليديّة والقطاعات الحديثة من خلال المساعدة والتّأهيل لتنمية الخبرات وتحسين وسائل وشروط التّنافس، ولإنجاز تحوّل هادئ ورصين دون الإخلال بتوازن النّمو الاقتصاديّ أو التّضحيّة بمصالح فئات عريضة من الشّعب استثمار الإمكانيّات المتوفّرة أو التي يمكن توفيرها في تغطيّة الحاجيّات الحقيقيّة بما يناسب المعطيات الطّبيعيّة والتّركيبة السّكّانيّة والبنية الهيكليّة القائمة للاقتصاد واستراتيجيّات التّنميّة المتّبعة (******) من حيث إنّ الحاجة هي أمّ الاختراع، ومن حيث إنّ التّنميّة تبدأ بالإنسان من أجل الإنسان ما يجعل نقطة البداية هي التّفاعل مع هذا الإنسان الوعي بحقيقة عدم ارتباط التّنميّة والتّقدّم المدنيّ بالتّصنيع فقطّ، «إذ أنّ طبيعة التّنميّة والتّقدّم شموليّة تتأسّس على الإرادة الحرّة وتتّجه نحو الاستقلال السّياسيّ والاقتصاديّ، وتعتمد نهضة في جميع مجالات الحياة وتفاعلا حيّا وإيجابيّا بين الشّعب والعلماء والزّعماء والقادة وعلى هذا الأساس وبهذا المعنى فهي تنطلق من أحشاء المجتمع لتصبح خيارا استراتيجيّا يبعث الدّفء في الجسد ويحرّك شرايينه ليقوّي نبضه الإنمائيّ الذّاتيّ» (******) والله المستعان وهو أرحم الرّاحمين، والسّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته التّوقيع: محمّد بن محمّد بن عليّ بن الحسن المحبّ [email protected] (*) \"الصّراع على القمّة\" (Head to Head) تأليف (Lester Thurow) سلسلة عالم المعرفة العدد 204 دجمبر 1995 (**) \"اقتصاد يغدق فقرا\" (Wirtschaft Die Arm Macht) تأليف (Horst Afheldt) عالم المعرفة العدد 335 يناير 2007 (***)\"فخّ العولمة\" (Die Globalisierungsfalle) تأليف (Hans Peter Martin & Harald Schumann) سلسلة عالم المعرفة العدد 238 أكتوبر 1998 (****) نقلا عن صحيفة محلّيّة \"ملفّات تادلة\" الصّفحة الأولى العدد 188 من 01 إلى 15/12/09 (*****) معالم في منهج التّغيير ذ. أحمد العماريّ سلسلة أفكار2 (******) قضايا التّنميّة والاستقلال في الصّراع الحضاريّ ذ. منير شفيق الطّبعة 2 دار النّاشر