شاع في الأدبيات الإسلامية الاستناد إلى الفتنة للتخويف وإيقاف العمل الاصلاحي، ويجد هذا المصطلح بما يحمله من سنوات الجمر والرصاص والتخويف والتسيب وكل أشكال اللاأمن واللاستقرار في المخيال الجماعي الملجأ الأول والأخير الذي يعولون عليه في التحذير من همِّ الإصلاح، ويذكرِّون في الموضوع قرآنا يتلى، من مثل قوله تعالى:(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك) (سورة المائدة). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (سورة البقرة.( (إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (سورة الأنفال.( (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) (سورة النساء.( (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة). (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) (سورة البروج). وهذه الآيات صادقة عادلة، ولكن النزاع في صحة ما استفاده هؤلاء منها، وسياق توظيفها هو الذي ننازع بعض القوم في ذلك. وإلا كيف نوفق بين الآيات القطعية الناطقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى والدفاع عن النفس والعرض والحرمات والأموال وقول كلمة الحق عند السلطان الجائر وتعرض الأنبياء للملاحقة والأذى والقتل.. وهكذا دواليك في كل ما له ارتباط بفقه النهوض والدب لا فقه النكوص والقعود. وأما توظيف هذه الآيات لإطالة أمد الفرعنة والظلم فأمر معيب على كل حال. فالآيات لم تأت للتخويف وإهانة إنسانية الناس، وإنما جاءت لسعادتهم وعزهم ورفعة شأنهم. مفهوم الفتنة عند العلماء إن حديث العلماء عن الفتنة إنما هو أساسا حديث عن تلك الضريبة التي يتحملها عموم الناس ويتفاجأون بها مع أنه لا دخل لهم في صناعتها ولم يستشاروا في أمرها فيؤخذ برأيهم في مآلها وعاقبتها. نعم، إذا كانت هناك نخبة من الأمة علمية أو فكرية أو سياسية أو غيرها اتخذت قرارا قد يكون له من وخيم العواقب على أنفس الناس وحياتهم وأموالهم.. فوجب عدم التغرير بالخلق والإلقاء بهم في مهالك رأي الرائين الذين مهما عظم فكرهم وصدقهم وإخلاصهم فإنهم إنما يتكلمون بلسانهم هم لا بلسان الجماعة. ومن هنا، وجدنا أنه عندما يفهم الناس حقيقة الواقع الذي تورطوا فيه يَدَعُون صاحب الاختيار وحده لا يقتسمون معه مغارم قراره. إن قول الفقهاء بالفتنة له وجه من النظر معتبر في أمثال هذه الخطوات التي يتخذها البعض مما يتحمل الغير وزرها، ليس لهم قول سابق إرادي فيه. وسيقولون: وجرمٍ جَرَّه سفهاء قوم وحَلَّ بغير جَارِمه العقاب أما إذا اختار سواد الناس وجمهورهم الأعظم الدفاع عن حريتهم، فلن يكون فقيه أو عالم يقدِّر أمانة الميثاق سينهض إلى تثبيطهم محتجا بتجنب التورط في الفتنة. إلا أن يكون عالم سوء ليس ناصحا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا خرج كبار الأمة وصغارها، ذكورها وإناثها، عالمها وجاهلها..كلهم قد نزل بسلاح حنجرته يقول: لا لمزيد من الاستبداد والظلم، لا لمزيد من خنق الحريات العامة، لا لقضاء وإبرام أمرنا دون الرجوع إلينا. إذا نزلوا جميعا يقولون: إرحل، إرحل، إرحل. فهل من عالم علَّمه الله تعالى يزعم أن يعود الناس إلى بيوتهم حتى لا تكون فتنة، ثم من يسمع له من هذه الأغلبية الصامتة التي قررت ترك الصمت. إن علماءنا الأولين لا يقصدون عند حديثهم عن الفتنة ذلك القرار الخطير الذي تتخذه الأمة وتنزل إلى ميادين التحرير عن بكرة أبيها. لا تتحدث كتب الفقهاء عن هؤلاء، بل يقولون رحمهم الله تعالى: إنهم إذا نزلوا فقد أحسنوا، وإن ما رآه الناس حسنا فهو عند الله حسن''. التجربة النبوية ولأن الناس قد يفتنون في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم وأهليهم عند هذه المحطات.. لم يكن صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم ينفرد باتخاذ قرار المواجهة دون الرجوع إليهم، بل كان له إصرار كبير على أن يتحملوا جميعا تبعات رأيهم. لقد خرج الصحابة للعير لا للنفير، وبتعبير القرآن خرجوا وهم:''يودون غير ذات الشوكة''، فقال لأصحابه وكرر عليهم: أشيروا علي أيها الناس، أشيروا علي أيها الناس.. وما زال يكررها قصد أن يسمع الرأي الصريح الواضح منهم. فقال له الأنصار: لكأنك تعنينا يا رسول الله.. والله لئن خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ولئن سرت بنا حتى تبلغ لبرك الغمدان لسرنا معك.. ووالله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. قال أصحاب السير: فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الإجماع الذي لن تكون من ورائه فتنة على الناس مهما تكن قابلات الأيام، لأنهم سيتحملون جميعا مسؤولية قرارهم، وسيدافعون عنه مهما كلفهم من الأثمان، وسيكونون مستعدين لاقتسام ما يكون من ضريبته. المقاصد الشرعية لتجنب الفتنة في سيرته صلى الله عليه وسلم العديد من أمثال هذه النوازل التي لم يكن يقطع أمرا من غير استشارة أصحابه واتفاقه معهم على ما يهم جماعتهم، إلا أن يكون الوحي الآمر، فهو عليه السلام وهم رضي الله عنهم سواء في الطاعة والامتثال لأمر ربهم. وتعود مقاصد الأخذ برأي الناس إلى الآتي: 1 لتجنب الفتنة فتنة الاستبداد نفسه وفتنة الناس، والتي أوتيت الأمة منه. أعني التضايق من الرأي المخالف. وكثيرون كانوا يدافعون عن حق أمتهم في القول وإبداء ما يرونه دون وجل، فإذا بهم يتحولون إلى طغاة بعد أن تمكنوا من الجلوس على كرسي القيادة. ولذلك قال الزعيم والمفكر عزت علي بيغوفيتش: هكذا تصنعون طواغيتكم. 2 حتى يعلِّم صلى الله عليه وسلم أصحابه وأجيال المسلمين أن سنته الواجب اتباعها والسير على منوالها هي عدم الطغيان السياسي وغيره، وأنه لا يجوز أن يشتط الرجل بعلمه وفقهه وفكره، فيقذف بالناس في مهاوي الغي. وهذا هو الذي دفع عبد الرحمان بن عوف أن يستشير جميع الناس في عهده من يختارونه خليفة لهم، حتى استشار المخدرات من وراء الحجاب. وهي أمنية عمر بن الخطاب التي جهر بها حين قال: لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعدي. فقد كان يفكر رضي الله عنه في بناء مؤسسات تحمي الناس من بعضهم البعض. 3 حتى يَقدِّم الاسلام للأمم أئمة يعون ويتقدمون، وليسوا أتباعا وراء كل ناعق. إن الاسلام حريص أشد الحرص على التوعية لا على التعبئة، لأنها أدوم وأجدر باحترام حقوق الإنسان. 4 أن يحمل كل فرد مسؤوليته في الشأن العام لأنه سيحاسب عليها أمام ربه، قال تعالى: ''وقفوهم إنهم مسؤولون''، وقال صلى الله عليه وسلم:''..وكلكم مسؤول..الحديث. ولا يتصور العقل محاسبةً في غيبة المسؤولية، ولا تتصور مسؤولية من غير حرية. وإذا علم الجميع أنهم مسؤولون عن مصالحهم وما يصيبهم، شمروا عقولهم وسواعدهم لخطوب الأيام، فيقتسمون الخير والشر، فإذا عمهم خير كانوا به أفرح وأشكر، وإذا أصابتهم لأواء هانت عليهم، لأنها نتيجة تدبيرهم، فيقومون دون تلاوم كما قاموا ابتداء لتجاوز عثرتهم. والذي يحز في نفس كل شخص أن يعاقب على ما لا دخل له فيه بالمرة. لا فتنة مع الأمة وما يخشى من الهرج والفتنة وغياب الأمن وظهور السرقة والتسيب صحيح وقوعه عبر التجربة التاريخية التي تكون بسبب قرار البعض، وأما إذا اتخذ القرار من الأمة فلن يقع بالتأكيد فتنة بالمرة أو تقع أمور لا ترضى ولكنها بنذرة عادية في كل تجمع بشري. لأن الأمة التي اتخذت قرار القول: لا، واتخذت قرار: إرحل. ستنهض ساعتها لحراسة أمنها وحمايته، ووأد كل فتنة لن تكون من الرعاع والدهماء، ولكن سيكون مصدرها هذه المرة الدولة التي ستنهض كي تكون ضد الأمة. والعجيب أن الحكام الذين استمرأوا الاستبداد بالترويج لمفهوم الفتنة ونحته في آذاننا أزمنة مديدة عبر إعلامهم، هم الذين اجتهدوا في إشعالها في كل من مصر وتونس واليمن.. فسحبت الدولة الشرطة من أجل الفوضى رجاء أن تدفع عامة الناس وأغلبيتهم بالاستنجاد بالدولة المارقة، وأطلقت الدولة من غير موجب قانون وحق أيدي البلاطجة وسجناء الحق العام واللصوص وأصحاب السوابق لإحداث الفتنة. ولكن الأمة هذه المرة ضربت مثالا آخر عاليا على قدرتها أن تحمي أمنها عن طريق تنظيم الشباب في الأحياء والأزقة والدروب والشوارع، فقاموا بأدوار الدولة التي يفترض فيها الضرب بيد من حديد على يد كل من يريد الفتنة. فسقطت نظرية الفتنة الفقهية التي ظُلمت وأسيء استعمالها لتبرير الفرعونية والدوس على حقوق الإنسان. ونحن نبارك وندعو للشباب الذين فتحوا أعيننا للنظر بعدل وعلم للتراجع عن كل قول ينزع سيادة الأمة. أعظم الفتنة فتنة حقوق الانسان إن أعظم فتنة وأكبر مصيبة عند العالم والمفكر والمثقف والسياسي الملتزم، ليست تلك التي تتعلق بالطعام والشراب، وإنما هي تلك التي لها تعلق بحرية الانسان وكرامته.. تعيش النخبة العضوية الملتزمة بتعبير كرامشي مأساة الحرية المنتقصة والإنسانية الغائبة. يريدون ومستعدون أن يعيشوا بأقل الرزق ولكن بمنسوب عال من الحرية والعزة. هذا ما عندي اليوم في تجديد الوعي بمفهوم الفتنة ومقصودها وسياقاتها عند الأئمة الأعلام، والمجال السياسي من أخصب المجالات التي تتطلب التجديد والتطوير، سواء في المفاهيم والتصورات أو في الآليات. إن القيم الإنسانية العامة كالعدل والحرية والكرامة...وغيرها، معانٍ إنسانية يتطلب حسن فهمها حتى لا تعود حزبية ضيقة لجنس أو دولة أو حضارة، وتحتاج إلى تجديد آليات حراستها. واعلم أخي الكريم امحمد طلابي أنني مع التجديد في الدين والدنيا معا، ومتيم به وإن قال القائلون وأنكر المنكرون.