أشرت في مقال العدد الماضي إلى أن حال أمتنا في عصرنا غير حالها في القرون الخوالي من تاريخ التأسيس العلمي وما بعده، فهي اليوم أحوج ما تكون إلى إعادة النظر في طريقة ترتيب وعرض العلوم سواء في شكلها العمودي أو الأفقي، ومن ذلك تقديم حديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية ثم بعد ذلك تعليما، وذلك تساوقا مع البيان القرآني. والشاهد في هذا التقديم والتأخير أن الأصل في مهمة الرسل -بعد التبليغ -هي التعليم قبل التزكية، كما ورد ذلك بوضوح في دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الآية الكريمة: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" [البقرة، 128]. وإذا ما وقع أي انحراف عن مقاصد هذه الدعوة الحنفية، بعد ابتعاث الرسل والأنبياء ومجيء الآيات وأخذ حظ من العلم، فيتم حينها تقديم التزكية على التعليم لمعالجة ذلكم الخلل السلوكي، وبيان هذا وارد في قوله عز وجل: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ اَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" [اَل عمران، 164]. فهذه الآية كما ذكر الشيخ الطاهر بن عاشور في تحريره استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم، ومناسبة ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم. ولا يخفى ما وقع فيه أهل الإيمان من نكوص سلوكي يتنافى والتوجيهات النبوية يومها، فقدمت التزكية في هذه الآية على التعليم لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة كما ذكر الإمام البقاعي في مناسباته. وحال أمتنا اليوم يشكو الهزيمة في أُحد الأخيرية، ويعاني الأمرّين في أُحد الاصطفاء، ويكابد الممانعة في أُحد الشهادة على الناس..وما كان كل هذا أن يقع لولا مخالفة التوجيهات النبوية والإقبال على الدنيا وزينتها وغنائمها..! ولهذا فإن من شأن الترتيب القرآني الوارد في سورة آل عمران أن يقودنا إلى إعادة قراءة أمهات مصنفات الحديث والسنة بطريقة مختلفة تماما على ما هي عليه، أي أن يتم البدء بالتزكية أولا انطلاقا من كتب وأبواب الإيمان والبر والصلة والآداب والزهد والرقائق والفضائل وغيرها، ثم تتلوها ثانيا كتب وأبواب العلم والفقه والمعاملات وخلافها. فإن قيل جفت الأقلام وطويت الصحف في هذا الموضوع منذ زمن التدوين ولا فائدة ترجى من هذه القراءة، قلت فلماذا لا يتم اللجوء إلى أخف القراءتين: فما يضير المحدث قبل تناول أحاديث كتاب الإيمان وأبوابه مثلا أن يمهد له ببيان تجليات صفاء القلب المؤمن، وجمال نفسه المطمئنة، وإشراقة روحه الزكية، ونورانية مشاعره الوجدانية التي ارتضت الله تعالى ربا دون سواه، كما تجلى ذلك كله في شخص رسولنا الكريم، خير من آمن بالله وعبده ووحده ظاهرا وباطنا؟ وما يضير المحدث كذلك قبل تناوله أحاديث كتاب الطهارة وأبوابه أن يوطئ له بمقدمة يبرز فيها النموذج الحضاري المتميز الذي أرساه سيد الخلق للنظافة والنقاء والطهر والجمال كقيمة تعبدية نموذجية في التصور الإسلامي؟ وماذا يضيره كذلك في كتاب الصلاة وأبوابه أن يقدم له بتلكم العلاقة العجيبة بين الرسول والصلاة، حيث جعلها صلى الله عليه وسلم معراجه نحو مولاه وخالقه حتى أصبحت قرة عينه، فكانت من آخر وصاياه عليه الصلاة والسلام لأمته قبل انتقاله إلى جوار ربه؟ وهذا دواليك في كل كتاب كتاب وباب باب.. إن فصل الحديث باعتباره علما عن السنة باعتبارها هديا وسلوكا قد تقتضيه الخاصية المنهجية لعلم الحديث، لكنه غير مقبول في منهج التزكية والتربية وبناء النفوس والأمم. فإذا كان المراد اعتبارهما من مصادر التشريع الإسلامي زمن التدوين والتأسيس، فهما قبل هذا كله يخرجان من مشكاة فيها مصباح النبوة، ويشكلان في ائتلاف بديع شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أبعادها وتجلياتها، وإن أي فصل تعسفي بينهما في الفكر الإسلامي يمكن اعتباره قطيعة معرفية وسلوكية تزلزل المنظومة التربوية الإسلامية برمتها. يُتبع في العدد القادم إن شاء الله