إن التصوف يرتكز في أساسه على القلب من حيث تزكيته، بتحليته وتخليته وترقيته، وهي من الوظائف النبوية الشريفة، فقد كانت التزكية من الأدوار الأساسية والأولوية للرسول صلى الله عليه وسلم اتجاه أمته، ومن الآيات الواردة في التنزيل المبيِّنة لذلك: قوله تعالى: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [البقرة، 129]. وقوله عز من قائل: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوْا تَعْلَمُونَ" [البقرة، 151]. وقوله جل وعز: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [اَل عمران، 164]. وقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْاُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [الجمعة، 2]. وفي حديث النعمان بن بشير المشهور قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب" [رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه، رقم: 50]. ويتساوق في هذا الأمر مع مقاصد الشريعة لأن "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا"[1]. هذا من حيث النظر الكلي، أما من حيث النظر الجزئي؛ فإننا نجد معظم مباحث مقاصد الشريعة هي مباحث صوفية، بل إن السبق في تفصيل القول فيها يرجع إلى الصوفية ولنذكر منها أمورا: الأولى: مسألة الإخلاص التي تناولتها المؤلفات الصوفية في أدق تفاصيلها وجزئياتها، فنجد أن أساس التفريق بين المقاصد الأصلية والتبعية هو الإخلاص؛ لأن "المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغبِّر في وجه مَحْضِ العبودية"[2]؛ الثانية: مسألة مقاصد المكلف وما يعتريها من تغير وتبدل، وتحديد المحال التي يثاب فيها والتي لا يثاب فيها. وتبين ضروب موافقة ومخالفة المكلف لقصد الشارع وغيرها من الحالات التي تعتري قصد المكلف. ولم يقف الصوفية عند وصف حالة المكلف القصدية بل بينوا كيفية الرقي بالقصد ليكون ربانيا وليتحقق بالخلوص؛ الثالثة: مسألة المقامات الإحسانية والتي تناولها علماء المقاصد في حديثهم عن المقاصد الأصلية والتابعة وتعلق الحظوظ بها؛ لأن الناس في أخذهم حظوظهم على مراتب: منهم: من لا يأخذها إلا بغير تسببه فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر، ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا، بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ... وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة، فلا يأخذ إلا من الملك؛ لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها، وهؤلاء هم أرباب الأحوال؛ ومنهم: من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم، إن استغنى استعف وإن احتاج أكل بالمعروف... فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ؛ إذ للقصد أثر ظاهر، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ولم يفعل هنا ذلك، بل آثر غيره على نفسه، أو سوى نفسه مع غيره. وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ"[3]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى --------------------------------------------- 1. الموافقات، ج2، ص: 144. 2. المصدر نفسه، ج2، ص: 167. وانظر كذلك: عوارف المعارف للسهروردي في حديثه عن الإخلاص، ص: 72. 3. نفسه، ج2، ص: 164-166.