4- التصميم المعماري إن بناء القصر لا يعتمد بتاتا على تصميم تطبيقي ولا على تعليمات مهندس معماري، وإنما فقط على خبرة المعلم البَناء الذي يحدد شكل القصر وحجمه ووضعه اعتمادا على الموقع والموضع وعدد السكان المحتملين ومواد البناء المتوفرة. ويتشكل القصر عادة من بنايات متراصة يحيط بها سور عريض ومرتفع، تتخلله عدة أبراج للحراسة. "إن كلمة القصر التي تقابلها كلمة الدوار والمدشر في باقي مناطق المغرب الأقصى، تستعمل للدلالة على السكن القروي في واحات وادي زيز ووادي غريس وكذلك وادي دادس ودرعة. كما تستعمل بعض الكلمات الأخرى كمرادف لها كالقصبة وكذلك كَصيبة وكَصيرة التي هي تصغير للقصبة والقصر"[1]، ويطلق عليها بالأمازيغية تغرمت وإغرم. إلا أن القصبة "تختلف بحوض وادي درعة عن تلك الموجودة بسجلماسة؛ لأنها في الأولى تكون محاطة بسورين يتراوح علو الداخلي منها ما بين 1.40 و 1.80 مترا، أما السور الخارجي فيكون أعلى من سابقه ويبنى بمواد صلبة كما توجد بزواياه الأربع أبراج عالية. بينما القصور بسجلماسة لا تتضمن إلا سورا واحدا وغالبا ما تلتصق به جدران المنازل"[2]. ويذهب أحد الباحثين إلى أن "الهندسة المعمارية للقصور بسجلماسة أقدم من مثيلاتها بدرعة"[3]. ومهما يكن الأمر "فالقصور قرى محصنة في السهول الصحراوية أو ما قبل الصحراوية تتسم ببنية منتظمة على وثيرة واحدة تندرج ضمن حصن له أبواب ضخمة واستحكامات ركنية أي قائمة في زوايا القصور"[4]. وربما كانت "الضرورات الأمنية هي التي أجبرت على بناء الأسوار حول جنبات القصور وهي أسوار غالبا ما تشيد فوق أساس من الحجارة درءا لفيضانات الأنهار. والقصور بسجلماسة تتخذ في غالبتها شكلا مستطيلا تتخللها أربعة أبراج في الأركان وتكون جدرانها سميكة يتراوح عرضها بين متر واحد ومترين وعلوها ما بين 5 و 10 أمتار ولا يوجد بالقصر إلا مدخل واحد غالبا ما يكون مزخرفا[5]. وتتميز القصور بتافيلالت في معظمها بتنظيم داخلي جد منسق، ذلك أن القصر غالبا ما يتخذ شكلا مستطيلا يحيط به سور عال تتخلله أبراج في الأركان وما بينها وعلى جانبي المدخل الوحيد الذي ينفتح مباشرة في السور وسط أحد الواجهات. ويكون المدخل عبارة عن قوس يزين إطاره بنقوش جميلة، وهو يؤدي إلى رواق مغطى يفضي بدوره إلى ساحة داخلية. وقد يكون السور الخارجي للقصر منفردا أو مزدوجا، أما الساحة الداخلية فتتوزع عنها مرافق القصر من المسجد، والزقاق الرئيسي الذي تتفرع عنه بشكل منظم الأزقة الثانوية والدروب والدور. و "القصر بزقاقه الرئيسي وأزقته الثانوية يشبه دروب المدن الإسلامية، مما يؤكد أنه ليس حسب شكله تجمعا سكنيا قرويا. كما أن اتجاه هذه القصور لم يكن اعتباطيا: فالزقاق الكبير يتجه غالبا نحو قبلة المسجد"[6]. ويضم القصر عدة منازل متراصة ومنتظمة حول أزقة ضيقة مغطاة. وتلعب الأزقة عدة أدوار منها ما هو طبيعي مثل التهوية ومنع تسرب الرياح المحملة بالغبار والرمل، ومنها ما هو اجتماعي يتجلى في ضمان أواصر التآزر والتكافل ومنها ما هو اقتصادي حيث تستغل الأزقة من طرف النساء في إنجاز بعض الأعمال اليدوية. وبذلك يظهر القصر على شكل "خلية سكنية تضم العديد من المنازل والأسر التي يجمعها تقارب وتشابه أنماط العيش وأيضا بعض الترابطات الاجتماعية ذات الأصول القبلية المتعددة... السكن التقليدي المنغلق، إذ أنه يتوفر على مدخل رئيسي يعرف باسم فم القصر وفي بعض القصور نجد مدخلا أو بابا ثانويا يعرف باسم الخراجية، كما أن القصر محاط بأسوار عالية وبأبراج معدة للعملية الأمنية وللحراسة المستمرة"[7]. وتتشكل الترابطات السياسية والاجتماعية داخل القصر وفق عدة اتفاقيات تنظيمية عرفية يتم بموجبها ضبط سير الحياة العامة واليومية داخل القصر، والتي حاولت الكشف عنها وثيقة محلية تدعى مطالع الزهراء في ذرية بني الزهراء لمؤلفها مولاي الزكي بن هاشم العلوي. "هذه الوثيقة تتعلق بالمسألة العمرانية بمنطقة مدغرة وما إليها. وتبين كيف كان يتم بناء القصر وتوزيع النطاقات والحومات على فئاته وكانت تخضع هذه المسألة للوضعية المادية والمكانة الاجتماعية لكل فئة. وتبين الوثيقة المرافق التي يشارك في بنائها وبشكل لزومي كل فئات القصر، كبناء الأسوار الخارجية والأبراج والأزقة والمسجد وغيرها من المرافق العامة. وتكشف كذلك عن جملة من الشروط التي يقرها مجتمع القصر ويفرضها بصرامة على كل السكان"[8]. والقصر الفيلالي يتكون من عدة منازل تتألف بدورها من طابقين وأحيانا من ثلاثة ويفضي مدخل القصر إلى "ساحة تسمى "السكيفة" أي "السقيفة"، وبها الدرج الذي يؤدي إلى الطابق العلوي. ومن السكيفة يتم المرور إلى ساحة مغلقة تصل إليها أشعة الشمس عبر فتحة في السقف، وتضم حجرتين واحدة للمواشي وأخرى للأدوات الفلاحية. أما الطابق العلوي فيخصص غالبا لسكن الأسرة وتتوزع على جنباته الغرف، وعلى إحدى زواياه الأربعة يبنى الدرج الثاني الذي يؤدي إلى طابق يضم غرفة أو غرفتين ويسمى هذا الطابق ب "العلالي"[9]. وتمثل القصور العلوية أو المخزنية نموذجا رائعا للمعمار الترابي بمنطقة تافيلالت. هذه القصور تتميز بتصميم عمراني شبه موحد يتوفر على مختلف المكونات المعمارية التي تعطيه شكل وحدة سكنية متكاملة. يقطن بداخل هذه الوحدة عادة عائلة واحدة من الشرفاء فضلا عن الخدم وأحيانا بعض الأحلاف القبلية وتضم بالإضافة إلى الدور السكنية، على المسجد والحمام والرياض والساحة العمومية...إلى آخره. وتعبر هذه القصور المحصنة عن نمط من المعمار الترابي يعكس ربما الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت في مرحلة معينة من تاريخ المنطقة. ويتجلى ذلك من خلال معاينة مكونات تصميم القصور العلوية والتي يمكن تحديدها من الخارج إلى الداخل كما يلي: • السور الخارجي: يحيط بكل القصر ويتميز بعلوه الذي يتجاوز 11 مترا، تتخلله عدة أبراج مربعة يتراوح عددها ما بين 9 و13. وتكون هذه الأبراج غالبا مزينة بنقوش هندسية محززة من الطوبية؛ • الساحة الخارجية أو المشور: وهي مخصصة لمراسيم الاحتفال والاستقبال وغالبا ما تشيد في أحد جوانبها مرابض الخيول؛ • المدخل الرئيسي: وهو عبارة عن باب كبير ذي قوس منكسر ويحيط به برجان مربعان يمينا ويسارا فضلا عن بوابات صغيرة مغلقة. ينفتح هذا المدخل على رواق مغطى يسمى بالدكانة تخصص للحراسة وتشيد فوقها مسرية يسكنها الحارس؛ • المسجد: يتكون من صحن مكشوف ومن خمس بلاطات ومن ثلاثة أساكب ومن المحراب والمنبر. ويتميز المسجد بثرائه الزخرفي من حيث النقوش الجصية والأشكال المصبوغة والخشب المنحوت؛ • زقاق بوطويل: وهو عبارة عن زقاق طويل يحيط بالسور الخارجي من الداخل وغالبا ما توجد بجوانبه دور الخدم، أو يمر في الوسط فيقسم القصر إلى شطرين؛ • الساحة الداخلية: وتستعمل أيضا للاستقبالات والمراسيم المختلفة وتؤدي مباشرة إلى الدار الكبيرة. • الدار الكبيرة: وهي مقر سكنى العائلة العلوية وتتوفر على مختلف المرافق الضرورية للحياة اليومية من الأروقة المغطاة، والصحن المفتوح، والرياض، والحمام، والحريم، وقاعات الضيافة، والمخازن، والبئر، والمطبخ...وغيرها؛ • العرصات والجنانات: وتوجد خارج السور الرئيسي وهي مخصصة لتزويد القصر بما يحتاجه من المواد الغذائية. وتمكن دراسة الأشكال الزخرفية بهذه القصور أيضا من فهم الظروف التاريخية المصاحبة لظهورها ومن تعميق المعرفة النسبية بما كانت تزخر به مدينة سجلماسة من نقوش فنية بديعة لم تسعف المصادر التاريخية والأبحاث الأثرية على تقديم تفاصيل دقيقة عنها. وتتخذ الزخارف بالقصور أصنافا متنوعة حسب طبيعتها وحسب نوعية المواد التي تتشكل منها وحسب توظيفها: - فمن حيث المواد المستعملة تنقسم هذه الأشكال إلى ثلاثة هي: الزخرفة الطينية، والزخرفة الجصية والزخرفة الخشبية؛ - من حيث تموضعها تحتل دائما الأماكن البارزة وتتخذ شكل إفريز، أو لوحة أو إطار؛ - من حيث طبيعتها تصنف إلى عناصر زخرفية مصبوغة، وإلى عناصر زخرفية منقوشة وإلى عناصر مركبة أو مزدوجة. كما يمكن التمييز بين أشكال هندسية (معينات، وتشبيكات، ومربعات، ونجوم...) وأشكال نباتية (أغصان، وأزهار، ونخلات...) وأشكال مكتوبة (الملك لله/ العز لله / العافية الباقية / آيات قرآنية / أبيات شعرية منتقاة من قصيدة البردة للبوصيري...). من حيث التنظيم الداخلي للقصر، يمكن القول إن لشكل المعمار بتافيلالت يمثل شكلا من أشكال التضامن الجماعي والاجتماعي، ذلك أن لكل قاطن بداخله سواء كان فردا أو عائلة مكانته وحقه في المشاركة الفعلية في تدبير شؤون الحياة اليومية للقصر والتي تضبطها قواعد التعاون والتعاضد بمختلف تجلياتها. ففي الجانب الاقتصادي، تكون مصادر المياه ووسائل الإنتاج مشتركة ويتم توزيعها بدقة، ويتجلى ذلك في تجاور الحقول "الجمامن". والأكثر من هذا غالبا ما يوزع الحقل الواحد بين مالك الأرض ومالك الشجر ومالك حق السقي. كما تتضح صور التآزر في مساهمة كل أسرة حسب طاقتها، في توزيع الزكاة والأعشار والصدقات وفي أداء الكلف الاجتماعية. في ميدان تدبير المصالح العامة، يتوفر كل قصر على جماعة تسيره وتنظمه برئاسة الشيخ الذي يتكلف بتطبيق القوانين والقرارات الصادرة عن الجماعة، وينتخب لمدة محددة ويمكن تجديد انتحابه. وتكون الجماعة مؤلفة من ممثلين عن كل سكان القصر حسب انتمائهم العرقي ووضعيتهم الاجتماعية. ويذكر محمد بن الحسن الوزان نموذجا للتنظيم الداخلي بمجتمع قصور تافيلالت خلال القرن التاسع الهجري/السادس عشر الميلادي فيقول: "ويدير كل قصر من القصور أمير خاص هو رئيس فريقه... وتضرب في هذه القصور سكة فضة وذهب... ويوجد به بعض النبلاء الأغنياء يذهب الكثير منهم إلى بلاد السودان يحملون إليها بضائع من بلاد البربر ويستبدلونها بالذهب والعبيد"[10]. من خلال دراسة مختلف التنظيمات الاجتماعية في المجتمع الفيلالي وفق الاتفاقيات والعقود التنظيمية التي تعتبر بمثابة الشروط والضوابط العرفية الخاصة بتنظيم الحياة العامة واليومية للعناصر الإثنية القاطنة داخل القصر الواحد[11]، يمكن القول إن القصر يعبر عن استجابة لحاجيات متنوعة فرضتها ظروف قاهرة تتمثل في شح الموارد والتنافس عليها، فاستحالت في النهاية وحدة معمارية متعددة الوظائف وتداخلت في تشكيلها عدة عوامل أهمها: • الماء: ويتم التحكم فيه بواسطة السواقي والخطارات وعبر تنظيمات وأعراف محلية، ومشكل قلة الماء وضرورة التغلب على ذلك بالتنظيم والتوزيع الدقيقين، ويعتبر من المشاغل الأساسية لسكان تافيلالت منذ عهد سجلماسة التي اعتمدت كل الوسائل اللازمة في ذلك مثل الناعورات والآبار والخطارات. ذلك "أن الظروف البيئية والمناخية القاسية التي كانت تعاني منها المنطقة جعلت سكان الواحات مؤهلين أكثر من غيرهم لابتكار تقنيات استنباط المياه الجوفية... من هنا كانت تقنية أغرور كما هو الشأن بالنسبة لتقنية الخطارة وليدة حاجة السكان للماء الجاري بصفة مستمرة لممارسة النشاط الزراعي بشكل منظم دون الاعتماد فقط على مياه الفيضانات التي يغلب عليها طابع التذبذب والموسمية"[12]؛ • القبيلة التي تسيرها الجماعة برئاسة الشيخ، وكانت من أسباب ظهور الأحلاف. وكانت جماعة القصر "تفرض على كل السكان بمختلف فئاتهم المشاركة في بناء التحصينات كالأبراج والأسوار والمؤسسات الدينية والإنتاجية العامة (المسجد الفندق المعصرة...). وسعيا وراء تحقيق الأمن داخل القصر، فقد كانت المشيخة أو الجماعة تكلف بالتناوب ساكنة القصر حراسة بابه بالليل والنهار لا سيما وقت الفتنة"[13]. ففي تافيلالت يعتبر الانتماء القبلي هو العامل الرئيسي في استغلال المجال الفلاحي، فهو المنظم لعملية توزيع الماء بين ذوي الحقوق وهو المؤطر للصراعات المحلية، بل وهو العامل الذي غالبا ما يحدد المورفولوجية المعمارية للقصر؛ • الزاوية: وكان لها دور روحي واجتماعي، ويتجلى خاصة في إصلاح ذات البين بين القبائل المتنازعة. لذلك حظيت باحترام كبير من لدن مختلف الفئات الاجتماعية بتافيلالت وكان لها مجالها المقدس سواء في الميدان الفلاحي، إذ كانت تتوفر على ملكيات هامة من الحقول الزراعية ومن الأشجار ومن الماشية. في الجانب العمراني كان نطاقها المعماري بارزا سواء كان منعزلا أو مدمجا داخل أحد القصور فيسمى باسم الزاوية. • التنوع والتكامل الاقتصاديين: يتميز القصر بتافيلالت بتواجده وسط الحقول الزراعية التي يقوم بخدمتها سكان القصر أنفسهم إلى جانب تعاطي بعضهم للحرف والتجارة. وتختلف أهمية القصور حسب انتمائها لإحدى المشيخات المكونة للمنطقة وأهمها مشيخة واد إيفلي التي يغلب عليها النشاط التجاري والوظيفة الإدارية، بينما تخصصت مشيخة السفالات في التجارة والصنائع وخصوصا النجارة. وارتبطت مشيختي السيفة وبني امحمد بالزراعة بشكل خاص. وإذا عرفت بعض القصور بنشاطها التجاري مثل تابوعصامت وأبو عام؛ فإن بعضها الآخر تخصص في الصنائع مثل مولاي عبد الله الدقاق في الخزف ومنوكَة في الدباغة. -------------------------------------------------------- 1. حافظي علوي حسن، المرجع السابق، ص: 114. 2. Touri Abdelaziz: « Problématiques d'une recherche d'histoire et d'archéologie médiévale dans la région du Maroc présaharien », Actes du IV° Colloque Euro-africain 1985. (pp. 32 - 35). (p 33. 3. Jacques-Meunié D : « Abbar », op-cit p 51. 4. بنعبد الله عبد العزيز، "القصبات والقلاع الإسماعيلية"، دعوة الحق. عدد خاص، مارس 1988، ص 108- 113. 5. Faure Roger : Le Tafilalet, étude d'un secteur traditionnel d'irrigation. Paris 1969. (p 140). 6. Terrasse Henri: op-cit p 56. 7. لمراني علوي محمد، مرجع سابق، ص: 101. 8. عبد اللوي علوي أحمد، مدغرة وادي زيز، إسهام في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال العصر الحديث، المحمدية، مطبعة فضالة، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، جزءان 1996. الجزء 1، ص: 27- 28. 9. حافظي علوي حسن، مرجع سابق، ص: 117. 10. الوزان محمد بن الحسن، المصدر السابق، الجزء 2، ص: 126. 11. Mezzine larbi: Contribution à l'histoire du Tafilalet : aspects d'histoire économique et sociale du Sud-Est marocain au XVIIème et XVIIIème siècles à travers l'analyse de quatre documents inédits. Paris I, Thèse de 3° cycle en Histoire, 3 volumes, tableaux, 2 photos et 3 cartes dépliées hors texte (X + 736 + 69 pages dactylographiées). 12. عبد اللوي علوي أحمد، المرجع السابق، الجزء 1، ص: 102. 13. نفسه، نفس المرجع، الجزء 1، ص: 186.