شيدت مدينة سجلماسة سنة 140 ه / 757 م من طرف خوارج مكناسة بزعامة أبي القاسم سمكَو، وعرفت نموا كبيرا خلال الثلاثة قرون الموالية. اتخذت في البداية شكل عاصمة دولة، فتوفرت على المرافق الضرورية لذلك مثل دار الإمارة، والمسجد الجامع في الوسط، والسوق بالقرب من المركز، والدور السكنية، والمرافق العمومية، والمعامل الحرفية، والحمامات العمومية، والحدائق... وفي فترة الإمارة المستقلة بسجلماسة، كانت المدينة تتحكم في العلاقات بين ضفتي الصحراء، وكان من نتائج ذلك أن ازدهرت المدينة ونشأت بها دور لسك العملة الذهبية. وفي المقابل جلبت لها هذه الحظوة أطماع كل القوى السياسية قبل أن يسيطر عليها المرابطون سنة 447 ه / 1054 م. مع السيطرة المرابطية تحولت سجلماسة إلى عاصمة إقليم لدولة شاسعة، واندمجت في شبكة اقتصادية وسياسية أكبر، وشهدت تغييرات متناقضة من حاكم إلى آخر ومن دولة إلى أخرى. وكان من نتائج كل هذه السياسات المختلفة، أن فقدت سجلماسة الكثير من بريقها، بل وأصبحت وضعيتها السياسية غامضة في نهاية العصر المريني، إذ شهدت العديد من الصراعات انتهت بتخريبها وتفرق سكانها في القصور والقصبات. 1. عوامل تحول المدينة إلى قصور ظلت مدينة سجلماسة تابعة رمزيا على الأقل للحكم المركزي بفاس، لكن وضعها بدأ في التدهور الفعلي منذ فترة حكم أبي الحسن المريني خلال منتصف القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، قبل أن تندثر نهائيا في عهد أبي العباس أحمد مع نهاية هذا القرن [حوالي سنة 795 – 802 ه / 1393 – 1400 م] بعد أن عانت من الثورات والتمردات بين حكامها وبين هؤلاء وسلاطين بني مرين، فتفرق سكانها في قصبات خاصة بهم بالضواحي. ويشير محمد بن الحسن الوزان إلى أن المرينيين عهدوا بحكم إقليم سجلماسة إلى "أقرب الناس إليهم وخاصة أبناءهم. وظل الأمر كذلك إلى أن مات أحمد ملك فاس، فثار الإقليم وقتل أهل البلد الوالي وهدموا سور المدينة، فبقيت خالية حتى يومنا هذا، وتجمع الناس فبنوا قصورا ضخمة ضمن الممتلكات ومناطق الإقليم، بعضها حر، والبعض الآخر خاضع للأعراب"[1]. وتبقى العوامل غير المباشرة لهذا الاندثار جد مترابطة ويمكن تلخيصها في أربعة أساسية هي: • العامل الأول يتمثل في هيمنة القبائل العربية وما سببته من قلاقل، مما أثر بشكل سلبي على الحياة الاقتصادية للمدينة. فضعفت المحاصيل الزراعية، وتوقف سك العملة، وتحولت مسالك تجارة القوافل إلى جهة أخرى..." وعمت فوضى كثيرة البلد خلال فترة استقرار وهيمنة القبائل العربية. في نفس الوقت تدهورت التجارة الصحراوية. وضعفت سجلماسة، المدينة المحورية للواحات وانتهى بها المطاف إلى الاندثار"[2]؛ • العامل الثاني يتعلق بتحول مسالك التجارة الصحراوية نحو موانئ المحيط الأطلسي مع ظهور البرتغاليين بهذه الشواطئ ونحو المناطق التي كانت أكثر أمنا مثل تلمسان وإفريقية ودرعة. هذا التحول حال دون استفادة المدينة من موارد رئيسية التي بفضلها نشأت أول الأمر، وعرفت أوجهها اقتصاديا وسياسيا في عدة فترات؛ • العامل الثالث يرتبط بسياسة سلاطين بني مرين أنفسهم وخاصة منهم أبي يوسف يعقوب وأبي الحسن تجاه سكان سجلماسة، حيث قاموا بمحاصرة المدينة بقوة ولمدد طويلة، بل ودخلوها عنوة، وكان لذلك تأثيرا سلبيا على قاعدتها الاقتصادية عامة والفلاحية على الخصوص بفعل تغوير عيونها الطبيعية والتي تشكل منبع الحياة بالمنطقة. وإلى ذلك يشير صاحب الاستقصا "أن أهل سجلماسة اختلفوا مع السلطان الأكحل فحاصرها، واشتغل بتغوير ماء العين[3] التي تسقى منها، فكان ذلك سببا في خلائها"[4]. من جهته، يذكر محقق كتاب الأنوار الحسنية أن السلطان أبا الحسن علي بن عثمان المريني الشهير بالسلطان الأكحل ودفين شالة بالرباط [المحرم 731 ه / 1331 م إلى 751 ه / 1351 م] حارب "سجلماسة حيث غور العين التي هي عماد أهل سجلماسة في حياتهم الزراعية وهي العين المعروفة اليوم ب "عين تيمدرين" القريبة من أرفود والتي حفر حولها مائة بئر، ثم طمسها بالصوف والقطران والرمال"[5]. هذا فضلا عن فرض ضرائب ثقيلة وغير شرعية والتي قام ابن مرزوق بتفصيل أنواعها في كتابه المسند الصحيح[6]. وكان لهذه السياسة فعلها السلبي خاصة في وقت الأزمات المتتالية التي عرفها المغرب في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي بسبب تعاقب سنوات الجفاف والمجاعة؛ • العامل الرابع يرتبط بالظروف المناخية القاسية من الجفاف والأوبئة. وقد ترك لنا ابن خلدون صورة سوداوية للطاعون الذي عم المغرب خلال منتصف القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي حيث قال: "وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هدمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها"[7]. وذكر الناصري من جهته نقلا عن ابن قنفذ أن سنة 776 ه / 1375 م: "كانت سنة مجاعة في المغرب، وعم على إثرها الخراب، حيث انتشر الخوف والجوع"[8]. وفي موضع آخر يصف نفس المؤرخ مخلفات الطاعون الأسود على المغرب بما فيه سجلماسة "حيث انتقص العمران على الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل"[9]. وبذلك عرفت سجلماسة فترة من عدم الاستقرار ووصلت بها الأوضاع الداخلية حدا لا يطاق "وهكذا ومع موت السلطان أبي العباس (أحمد المنتصر) سنة 1393م، ثار إقليم سجلماسة، فقتل السكان حاكم المدينة وحطموا سورها"[10]. ويعتقد أن المدينة عرفت مرحلتين من التخريب أولها: "أن يكون ذلك قد حدث في أواخر القرن 8 ه / 14 م بعد ثورة أهاليها سنة 795ه / 1393 م وتهديمهم للسور الخارجي لها ثم انتقالهم إلى السكن في القصور الكبرى المحصنة حسب رواية الوزان وثانيها: أن تكون ثورة الأهالي هاته بداية لأعمال تخريب متوالية أتت على إندراس المعالم المعمارية للمدينة بالتدريج طيلة النصف الأول من القرن 9 ه / 15 م"[11]، وبذلك تكون مدينة سجلماسة قد وصلت إلى نهايتها المحتومة، حيث هدمت عن آخرها.. فالتجأ سكانها إلى الضواحي فبنوا لهم قصورا خاصة بهم. من وجهة الرواية الشفوية، فهي تتذكر أسطورتين مختلفتين عن اندثار سجلماسة: تقول الأولى إن السلطان الأكحل "الأسود" ويقصد به ربما حاكم المدينة، ذهب يتجول في إحدى الليالي، فالتقى امرأة خرجت رفقة أبنائها قصد غسل بعض الملابس. فطلب منها السلطان أن تربط معه علاقة غير شرعية، فلما رفضت قام بتصفية ابنا لها، إذ قسمه بسيفه إلى شطرين وقدمه لكلابه. هذا الفعل الشنيع لم يستسغه السجلماسيون فنددوا به وقاموا بالثورة أدت إلى نشوب الحرب التي قتل على إثرها الحاكم، وكان من نتائجها تدمير المدينة. الأسطورة الثانية تشير إلى أن سكان المدينة استيقظوا فجر ذات يوم على مؤذن المسجد الجامع وهو يصيح بعد أذان الصبح "أصبح ولله وخلت" بدلا من "أصبح ولله الحمد". ويمكن أن نستشف من وراء ذلك أن المدينة ربما تعرضت في ليلة هذا اليوم لكارثة طبيعية تتمثل على الأرجح في زلزال قوي، أو فيضان جارف. ذلك أن التوضعات النهرية بالمنطقة أدت إلى تزايد مستوى سطح الواحة بنسبة متر واحد تقريبا كل مائة سنة، ليتساوى بذلك تقريبا مع مستوى الربوة التي أسست فوقها مدينة سجلماسة أول الأمر. فلما تعرضت لفيضان كبير أتى ذلك على كل معالمها العمرانية، خاصة وأن معظم بناياتها شيدت من الطابية. وهذا ما يؤيده أحد الباحثين، إذ يقول "اندثرت مدينة سجلماسة في نهاية القرن 14 الميلادي [8 للهجرة]، ربما نتيجة تخريبها بواسطة فيضانات غير عادية لنهري زيز وغريس، فتفرق سكانها على الأماكن والقصور المحصنة بالواحة"[12]. ويبقى تأكيد أحد العوامل المؤدية إلى الاندثار السريع والمفاجئ لمدينة سجلماسة، مرهونا بنتائج الحفريات الأثرية في غياب أي مصدر مكتوب يمكن الاعتماد عليه. يُتبع.. --------------------------------------------------------- 1. الوزان (محمد بن الحسن الفاسي)، وصف إفريقيا، تحقيق وترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الرباط، الشركة المغربية لدور النشر المتحدة، جزءان 1982. الجزء 2، ص: 121. 2. Terrasse (Henri) : «Notes sur les ruines de Sijilmassa », IIème Congrès de la Fédération des Sociétés Savantes, Tlemcen 14-17 avril 1936. Alger, Publication de la Société Historique Algérienne 1936. VIII planches hors texte (pp. 581 - 589).)p 362(. 3. ويقصد ربما عين تمدرين الواقعة قرب قصر البروج بسهب أيردي شمال مدينة أرفود وعلى بعد حوالي 30 كلم شمال سجلماسة. 4. الناصري (أبو العباس أحمد خالد)، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدارالبيضاء، دار الكتاب، الجزء الثالث 1954 ص: 120. 5. المدغري (أحمد ابن عبد العزيز ابن الحسن)، الأنوار الحسنية، تحقيق عبد الكريم الفيلالي، الرباط، 1966، ص: 92 الهامش رقم 1. 6. ابن مرزوق (محمد بن أحمد بن محمد العجيسي التلمساني)، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن السلطان مولانا أبي الحسن، الجزائر 1981. 7. ابن خلدون (أبو زيد عبد الرحمن)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر من تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سبعة أجزاء 1981. الجزء 1، ص: 187-188. 8. الناصري (أبو العباس أحمد خالد)، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدارالبيضاء، دار الكتاب، الجزء الرابع 1956، ص: 83. 9. نفسه، ص: 85. 10. Jacques-Meunié (D) : Architectures et Habitats du Dadès, Maroc Présaharien. Paris, Librairie C. Klincksieck 1962 (320 pages). p 296. 11. حافظي علوي (حسن): سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي. المحمدية، مطبعة فضالة، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1997. (ص: 412- 413). 12. Jacques-Meunié (Djinn) : Le Maroc Saharien des Origines à 1670, avec 55 documents photographiques. Paris, édition C. Klincksieck 1982. Université Paris Sorbonne, Thèse Doctorat d'Etat en Histoire 16 juin 1975. Deux volumes, cartes et figures dans le texte (991 pages). (p 284).