لا يذكر الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله إلا ونتذكر معه "هموم داعية"، حملها ردحا من الزمن بلا تعب أو كلل، ولا يأس أو ملل، فجاءت كتاباته المعالجة لقضايا الأمة العربية والإسلامية أشبه ما تكون بوصفة فعالة للطبيب الحاذق الذي يقدم العلاج لمريضه الذي تخشى أن تفترسه الأدواء، وما هذا كله إلا لأن العالم الرباني أحن على الأمة من المرضعة على وليدها. والدارس لمنهج الدعوة والمجاهدة الفكرية التي قادها الشيخ الغزالي يلاحظ تركيزه على اتجاهين اثنين: أولهما، اتجاه بعض المستشرقين والمبشرين والمستغربين الذين اتهموا الإسلام اتهامات عديدة، وحاولوا تشويهه ونعته بأنه اشتهر بالقوة والبطش والإكراه وحد السيف.. فدافع رحمه الله عن هذا البهتان في كثير من كتبه، منها: "مع الله"، "جهاد دعوة"، "التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام"، "مستقبل الإسلام خارج أرضه"، "الإسلام والاستبداد السياسي"، "الاستعمار أحقاد وأطماع"، و"كفاح دين"... أما الاتجاه الثاني فقد كان داخليا صرفا، إذ آلمه ما عليه حال الأمة العربية والإسلامية من تمزق وتصدع وتخلف وانحطاط وغياب للوعي الإسلامي بإزاء آلام تحرك الرواسي، فقد رأى بني قومه لا يزالون يمضغون خلافات جوفاء، وتسيطر عليهم أفكار ضحلة، وتسيرهم أهواء قاتلة وشهوات غبية، فعاب عليهم أنهم لم يعرفوا القرآن ثقافة تفيق الألباب، وخبرة بالنفس والآفاق.. وأنى لهم ذلك وقد تفشت فيهم طفولة فكرية وخلقية مستغربة.. طفولة لم تجد من يربي ويقوم العوج، ويصلح الخطأ.. ولهذا كان المنهج الذي اعتمده الشيخ محمد الغزالي في أغلب مؤلفاته منهجا دعويا صرفا، مبنيا على العلم وتجارب السنين وأدب الحوار، وكذا الرغبة في التجديد وإحياء الدور القيادي للأمة العربية والإسلامية. وإن اهتمام الشيخ الغزالي بموضوع الدعوة إلى الله كان مبنيا على الفهم والدراية والتفاعل مع رسالتها ومنهجها وتاريخها، فمنحه ذلك إخلاصا ومقدرة في الذود عن حياضها والدفاع عن شؤونها وتبديد الشبهات المثارة في طريقها؛ وهو يحب أن ينسب لهذه الدعوة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنه يعتقد بأن الدعوة إلى الله أخطر وظيفة على ظهر الأرض، أليست وظيفة الأنبياء والرسل والصالحين والأخيار؟ لذلك لم يتوان في الانتصار لحقائقها وتجلية فطرتها وقسماتها الثابتة وفق ما رسمته آيات الوحي الخاتم والسيرة النبوية الشريفة ومعالم تطبيقاتها التاريخية المثلى... فلا غرو بعد ذلك إن وجدنا الشيخ الغزالي يخصص مساحة واسعة من فكره وجهوده الإعلامية والدعوية ونتاجه العلمي لتوضيح الطبيعة الحقيقية لانتشار الإسلام وانسياب دعوته في الأرض، كما أكد ذلك الأستاذ إبراهيم نويري في مقال له عن الطبيعة التاريخية لانتشار الإسلام في نظر الشيخ محمد الغزالي. ولقد عانى الداعية محمد الغزالي رحمه الله كثيرا من الأذى الذي ألحقه به المخالفون له، وخاصة عندما أصدر كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" الذي أثار ضجة كبرى في صفوف الرافضين لمنهجه. ولم يكن قصده من مؤلفه هذا إثارة الفتنة بين الناس، ولكنه جاء تنبيها للذين لا حظ لهم في العلوم الشرعية ويحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام جملة وتفصيلا. وقد أكد فيه أنه -أولا وأخيرا- مع القافلة الكبرى للإسلام، هذه القافلة التي يحدوها الخلفاء الراشدون والأئمة المتبوعون والعلماء الموثوقون، خلفا بعد سلف، ولاحقا يدعو لسابق.. يدعو بصدق قائلا: "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالاِيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" [الحشر، 10]. رحم الله من أهمه أمر الدعوة حتى اشتهر بكتاباته المدافعة عن الشريعة الإسلامية والداحضة للشبه التي حامت حولها، وقد كان يحرص أشد الحرص على تقديم الإسلام في صورته الواضحة وشكله الحضاري الرفيع لغير المسلمين، وعلى توضيح خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها للمسلمين، وظل على هذا الجهاد حتى أتاه اليقين.