ينظر في بعض الأدبيات المنهجية إلى المنهج التحليلي على أنه عملية تفسير ونقد لإشكالات معرفية القصد من ورائها الوقوف على حقيقتها وطبيعتها العلمية. والمتأمل في تاريخ العلوم يلاحظ أن المنهج التحليلي يضرب بجذوره في أعماق فلسفة العلوم، بدءً من عصر أرسطو، ومرورا بعلماء الإسلام وفلاسفة الأنوار، وانتهاء بعصرنا الحالي الذي يعرف ثورة علمية في شتى المستويات. وقد كان التركيز على المنهج التحليلي، ولا يزال، في البحث العلمي لأنه يعتبر بمثابة أداة فعالة للوصول إلى كنه المعلومة، وهو بذلك يتجاوز منهج التفسير في أعمق مستوياته؛ لأن غاية التفسير بذل الوسع والجهد لبيان مراد النص حسب قائله، أما التحليل فيبدأ حين الانتهاء من هذه المهمة. وإن شئنا قلنا إنه تفسير التفسير إن صح التعبير، فيعمد المحلل إلى تفكيك المعلومة تفكيكا مخبريا، فينظر إلى مكوناتها وأجزائها نظرة دقيقة، لغة واصطلاحا وتاريخا وفلسفة وفكرا ومقصدا، ثم ينظر بعد ذلك اتصالا وانفصالا في العلاقات الداخلية التي تربط بين هذه العناصر، ثم العلاقات الخارجية التي تربط بين مجموعها، وما قبلها، وما بعدها، والسياق العام والخاص الذي سيقت فيهما.. ويتدرج المحلل في هذه العملية المنهجية من التحليل البسيط العرضي الذي هو التفسير إلى التحليل العميق الجوهري الذي يحاول فيه قدر الإمكان الإلمام بالمعنى الحقيقي للنص دون الانزلاق إلى التأويل وإخوانه؛ لأن هؤلاء إذا دخلوا على التحليل أفسدوا المعنى فجعلوا الواضح منه أكثر غموضا. وقد أحسن علماء الإسلام صنعا حين تعاملوا مع كتاب الله العزيز بمنهج التفسير وليس بمنهج التحليل؛ لأنه المنهج الوحيد الكفيل ببيان مراد الله تعالى من قوله على قدر الاستطاعة البشرية، أما حقيقة هذا القول الرباني فلا يعلم تأويله إلا الله عز وجل، وبهذا لا يحق لنا التحدث عن المنهج التحليلي في التعامل مع كتاب الله ولا مع السنة النبوية ذات البعد التشريعي، أما غيرهما فلا مناص من إعماله إذا أردنا الوقوف على جوهر الحقائق. ولعل ما يزيد هذا الأمر توضيحا أن العلوم الإسلامية برمتها دارت حول القرآن الكريم والسنة النبوية تفسيرا وبيانا واجتهادا، وهذا الدوران العلمي يجب أن يستأنف اجتهادا وعطاء في اتجاهين متلازمين: الاتجاه الأول يستمر في الدوران بمنهج تفسيري حول الوحيين لاعتبار المصدرية المعرفية، والاتجاه الثاني يعيد قراءة ما أنتج حولهما من علوم ومعارف بمنهج تحليلي. ومن هنا فإن العقل الإسلامي مطالب اليوم بالقيام بحفريات متنوعة ومختلفة في مصادره المعرفية، ووضع إنتاجه العلمي على طاولة التشريح والتفكيك لاكتشاف أسرار السلف في صناعة الحضارة والعمران وإعادة تشكيل الإنسان في مدنية متميزة وثقافة متفردة. وإن المتأمل في تراثنا الإسلامي يلاحظ أن علماء الأمة أعملوا هذا المنهج في شتى العلوم والمعارف، حتى إنهم زينوا وجمّلوا به أسفارهم ومصنفاتهم حين اتخذوا لها في مطلع عناوينها مصطلحات دالة على نفاذ البصيرة وعمق التأمل وجمال التحليل وبراعة الاستهلال، من ذلك مصطلح "الأصول"، و"الجواهر"، و"الأنوار"، و"الفتوحات"، و"الكواشف"، و"الدرر"، و"الحقائق"، و"الأسرار"، و"المناهل"، و"الموارد"، و"الفوائد"، و"الفرائد"، و"اللآلئ".. إلى غير ذلك من التحف المعرفية والمفاتيح التحليلية التي صيرت الأمة الإسلامية أستاذة الأمم لقرون عدة، فعلمتها أن تجعل وراء العمق عمقا إذا هي قصدت العلم وفعل التعلم. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن مجالا معرفيا واحدا في العلوم الإسلامية كبحر عميق تترامى شواطئه وأطرافه بحيث تقصر الأعمار دون الإحاطة به. ولعمري إن هذا مبعث فخر واعتزاز لأمتنا، وإكليل علم ونبوغ يرصع تاجها المعرفي ويزينها ويكسوها هالة من الجلالة والمهابة، لم يملك علماء الشرق والغرب إزاءها إلا إجلالها وتقديرها والجلوس بين يديها لطلب العلم والنهل من معارفها الغنية. أستطيع أن أدعي أن عددا لا يستهان به من أبناء الإسلام اليوم لا يعرفون حقيقة أمتهم، ولا عظمة رسالتها، ولا كينونة أخيريتها، ولا جمالية حضارتها؛ لأنهم لم يعملوا المنهج التحليلي في دراستها وتشخيصها وتفكيك عناصرها وسبر أغوار جواهرها. ولو قاموا إلى هذا المنهج واتخذوه نبراسا لهم في حقولهم المعرفية لاستطاعوا قراءة أمتهم من جديد، ولأعادوا بذلك إحياءها وبعثها ورتق الفتق وإعادة الاتصال وتمتين صلة الرحم الحضارية بينهم وبين مجدهم التليد.