علم أصول الفقه يمثل الفكر الإسلامي أصدق تمثيل كما ذهب إلى ذلك جل الباحثين المعاصرين الذين يعتبرون هذا العلم عماد الاجتهاد، وبه قوام منهج الاستنباط، وقد سبق به فقهاء الإسلام فقهاء القانون في العالم كله. وقد ألفت تآليف عديدة لمناقشة قضية التجديد في الفقه وأصوله، ويعتبر كتاب الأستاذ علي جمعة محمد (قضية تجديد أصول الفقه) من بين المؤلفات القيمة التي رصدت عملية "التجديد" هذه، وقدمت للباحث خدمة جليلة وفرت عليه الكثير من عناء خوض غمار هذا البحث وجعلت صورة الدعوة إلى تجديد أصول الفقه واضحة المعالم بشكل جيد، بدءً من مدرسي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم الذين تميزت دعوتهم بتجديد الأسلوب وطريقة العرض، ثم مرورا بمن ادعى بأن يأتي في مسائل الأصول بما لم يسبق إليه، وكذا الدعوة الثالثة التي اختصت بالتجديد في أحد مباحث الأصول (حجية السنة)، وانتهاء بالدعوة التي برزت في السنوات الأخيرة الخاصة "بإعادة هيكلة أصول الفقه"، دون أن يغفل الأستاذ علي جمعة تطور نظرية علم أصول الفقه عند الشيعة. وقد اعتبر الأستاذ محمد الدسوقي أن هذه الدعوة ليست جديدة أو معاصرة، وإنما تمتد إلى الماضي، ويضرب لذلك أمثلة: - فلأبي حامد الغزالي في "المستصفى" و "شفاء الغليل" إشارات تدل على أن طرفا من قضايا هذا العلم يحتاج إلى تحرير القول فيه... - وللإمام الشاطبي في "الموافقات" تنبيهات إلى أن في علم أصول الفقه مسائل ليست منه، وأن الركن الثاني من أركان هذا العلم، هو ركن المقاصد، لم يلق من علمائه الاهتمام الجدير به.. - أما الإمام الشوكاني فقد حاول في "إرشاد الفحول" أن يتناول بالبحث علم الأصول على نحو جديد يوضح من الآراء الراجح من المرجوح، والسقيم من الصحيح، وما يصلح من هذا العلم للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه.. ونفس الرأي نجده عند الأستاذ حسن الترابي في مناقشته للإمام ابن حزم ومنهجه الأصولي، إذ اعتبره من العلماء ذوي الصلة الواسعة بالسياسة والحكم وبالقضايا الاجتماعية العامة، فلا غرو أن يوجد في منهجه الأصولي شيئا من أسلوب واسع، وهو الاستصحاب الذي فتح بابا لتطوير الفقه، بالرغم من التزام ابن حزم بالمنهج الظاهري في تفسير النصوص. أما الأستاذ علي جمعة فيعتبر أن الدعوة إلي تجديد أصول الفقه بدأت أولا مع الدعوة إلى تجديد العلوم بصفة عامة، وأشار إلى أن كلمة "تجديد" ظهرت مع الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه "القول السديد في التجديد والتقليد" الذي طبع بمصر سنة 1287ه قبل وفاته بثلاث سنوات.. ثم برزت ثانيا دعوة تجديد الأصول بخاصة في أوائل القرن العشرين على يد مدرسي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم، وكان يقصد بالتجديد آنذاك تجديد الأسلوب وطريقة العرض.. ويستند أصحاب الدعوة إلى تجديد علم أصول الفقه إلى كثير من آراء بعض أعلام الأمة الإسلامية، وهذه بعض النصوص المستدل بها على إقامة هذه الدعوة: - أولا قول الإمام الشاطبي في "الموافقات": كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية. والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه؛ فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له... - ثانيا، النص الذي نسبه الإمام السيوطي في كتابه "صون المنطق والكلام" لأبي المظفر السمعاني حيث قال فيه: إن الحوادث للناس، والفتاوى في المعلومات، ليس لها حصر ولا نهاية، وبالناس إليها حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع، وطلب الأشبه بالنظائر والاعتبار، ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة، لتعطلت الأحكام، وفسدت على الناس أمورهم.. فوسع الله هذا الأمر على الأمة، وجوز الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة.. ثالثا، ما قاله الإمام الشهرستاني في "الملل والنحل": والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد، ثم لا يجوز أن يكون الاجتهاد مرسلا خارجا عن ضبط الشرع.. نقف عند هذا الحد لنستنتج أن الدعوة إلى النظر في علم أصول الفقه وتجديده دعوة قديمة وحديثة، وأصبحت اليوم قضية ضرورية لظهور مستجدات طارئة على ساحة الأمة، فكان لزاما الإلحاح مرة أخرى على هذه تجديد النظر في هذه الدعوة.