من أهم الدوافع التي أدت بي إلى اختيار هذا الموضوع، أنني حين تحضيري لشهادة الدراسات المعمقة في الفقه والأصول سنة1990-1989 ميلادية، كان أستاذنا الدكتور طه عبد الرحمن يلقي علينا محاضرات في أصول الفقه، وبما أن وجهة الأستاذ فلسفية منطقية، فقد ركز في محاضراته على إبراز الجوانب المنطقية في أصول الفقه نحو قضايا اللزوم ،والتلازم ، و التناظر ، التطابق،والانعكاس،وغيرها من القضايا، التي وإن كانت لها أهميتها إلا أنها ألصق بالمنطق منها بالأصول. وكنت ألاحظ على عدد من الطلبة الوجوم أثناء المحاضرات، والشكوى من التعقيد بعدها... فحفزني ذلك على التفكير في دراسة القضايا المنطقية والكلامية المندسة بين ثنايا أصول الفقه، قصد التمييز بين ما هو ضروري لهذا العلم، وما ليس بضروري له للإبقاء على الصنف الأول وتجريده من النوع الثاني تلافيا للتعقيد والتداخل العقيم، مع رصد التأثيرات السلبية والإيجابية التي خلفتها هذه القضايا الكلامية والمنطقية على أصول الفقه،وخصوصا أنني حينما أغوص في ثنايا أمهات المصنفات الأصولية كنت أصطدم بهذه القضايا الممتعة أحيانا، المملة والمعقدة أحيانا أخرى، الطويلة غالبا، والمفيدة نادرا. إن هذا الموضوع وما ينطوي عليه من التساؤلات ليس موضوعا جديدا كل الجدة، وإنما هو موضوع نتصور أنه قديم قدم علم الأصول نفسه.وإن لم يخصه أحد-في حدود ما نعلم-ببحث أو مؤلف خاص يعالج القضية من كل جوانبها. فلقد تحدث الإمام الجويني(ت478ه)عن علم الكلام واستمداد علم أصول الفقه منه، ...، فهو يقطع بأن علم أصول الفقه مستمد من الكلام والعربية والفقه.لكنه يتوسع في المضامين الكلامية التي يجب أن ينطوي عليها علم أصول الفقه... لقد استمر علماء الأصول المتكلمون، على تفاوت بينهم، في التأكيد على أن علم الكلام من المصادر الأساسية لعلم أصول الفقه، وربما كان للنقاشات الكلامية والجدل الدائر آنذاك حولها دخل في هذا التأكيد، غير أنهم تفاوتوا في مدى مركزية هذا الاستمداد وأهميته، فإن ابن برهان البغدادي (ت 518ه)، وهو أصولي متكلم كان حنبليا ثم تحول إلى المذهب الشافعي، كان أكثر تحديدا وتدقيقا من الآمدي-رغم أن هذا الأخير جاء بعده- فهو(...) يضيق هذا المجال الكلامي اللازم لعلم أصول الفقه بقوله : "وأما وجه استمداده من علم الكلام فهو أن هذا الفن يفتقر إلى الميز بين الحجة والبرهان والدليل، وهذا يقرر في فن الكلام، ولا يشترط فيه، بحكم نظره في هذا الفن، أن يعرف غرائب الكلام ودقائقه كمعرفة الأحوال وحدوث العالم وطفرة النظام وغير ذلك". إن ابن برهان وإن لم يكن يشترط في الأصولي أن يكون متعمقا في علم الكلام، إلا أنه مع ذلك يرى أن هذا العلم من المصادر الأساسية لعلم أصول الفقه ... وهو في ذلك أقل بكثير مما دعا إليه كل من الجويني والآمدي.فقد أكد الآمدي (551ه631) أن علم الكلام مصدر أساسي من مصادر علم أصول الفقه نظرا "لتوقف العلم بكون أدلة الأحكام مفيدة لها شرعا على معرفة الله تعالى وصفاته وصدق رسوله في ما جاء به، وغير ذلك مما لا يعرف في غير علم الكلام" (3). ولقد ذهب مؤلفا الإبهاج في شرح المنهاج :علي السبكي (ت 756ه) وابنه تاج الدين السبكي (ت 771ه) إلى حد طرح سؤال خطير ومعقد، ثم الإجابة عنه، وهذا السؤال يفرغ علم الأصول بكامله من أي محتوى، ويجعله مجرد علم يلفق بين مباحث متأصلة من عدة علوم مختلفة، وهذا نص السؤال : "فإن قلت : لقد عظمت أصول الفقه وهل هو إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة؟ نبذة من النحو ونبذة من علم الكلام : وهي الكلام في الحسن والقبيح؟ قلت : ليس كذلك، ولا ينكر أن له استمداد من تلك العلوم، ولكن تلك الأشياء التي استمدها لم تذكر فيه بالذات بل بالعرض". أما أبو إسحاق الشاطبي (ت 790ه)، فرغم كونه مالكيا مصنفا بالضرورة ضمن طائفة المتكلمين -حسب تقسيم ابن خلدون الذي تابعه فيه المؤرخون لأصول الفقه-، فقد قرر في مقدماته لكتابه (الموافقات) أن "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض في ما لم يدل على استحسانه دليل شرعي" (5) ومن ثم فقد خلص إلى أن "كل مسألة موسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، ولا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية". وبعد هذا التقرير النظري المحض يدخل إلى صلب الموضوع الذي يعنينا تصريحا لا تلميحا فيؤكد بحزم وبناء على ما سبق من مقدمات قائلا : "وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم فيها المتأخرون وأدخلوها فيه كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أو لاومسألة أمر المعدوم. ومسألة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أو لا؟ ومسألة لا تكليف إلا بفعل". بل إن الشاطبي ذهب إلى أبعد من هذا الحد، حيث يرى أنه لا فائدة من الجدل الكلامي حتى ولو كان الموضوع المتجادل فيه يساعد بشكل ما على استنباط فقه حقيقي عملي ما دام هذا الجدل غير ضروري لذلك الاستنباط ... وهكذا يرى الشاطبي ضرورة استبعاد كل ما لاينبني عليه عمل-وعلى رأس ذلك معظم المسائل الكلامية- من مجال علم أصول الفقه لأنها ليست ضرورية لقيام هذا العلم بمهمته الاستنباطية الفقهية، وإنما هي إضافات يمكن الاستغناء عنها مع دراستها باستفاضة وإسهاب في مكانها الحقيقي وهو علم الكلام. فهو لا ينكر صلة بعض العلوم ببعضها، وإنما يقرر هذه الصلة، إلا أنه يرى ضرورة الفصل المنهجي بين العلوم. ولذلك يؤكد في وضوح أن "من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا من ملحه". من خلال استعراض الآراء السابقة لبعض الأصوليين القدامى المشهورين من المتكلمين المنتمين لشتى المذاهب الفقهية، نرى أن المباحث والمسائل الكلامية في علم الأصول تأرجحت عندهم بين القبول المطلق والرفض المطلق مرورا بالقبول المشروط والمحدود. أما المؤلفون والكاتبون في علم الأصول في العصر الحاضر، فقد أثاروا هم كذلك هذا الموضوع : فالشيخ أبو زهرة (ت1395ه/1974م) أشار إلى كون الأصوليين المتكلمين"أثاروا بحوثا نظرية ككلامهم في التحسين والتقبيح مع اتفاقهم جميعا على أن الأحكام في غيرالعبادات معللة معقولة المعنى، ويختلفون كذلك في أن شكر المنعم واجب بالسمع وبالعقل مع اتفاقهم على أنه واجب ويختلفون في مسائل نظرية لا يترتب عليها عمل ولا تسن طريقا للاستنباط". ففيما اكتفى أبو زهرة باستعراض المباحث الكلامية مقررا أنها لا تفيد في عملية الاستنباط وسلك مسلكه آخرون منهم الدكتور مصطفى شلبي مثلا. فإن الدكتور وهبة الزحيلي قرر- مستندا إلى الشاطبي ومستعملا عبارته دون أن يصرح بذلك-أن هذه المباحث والمسائل الكلامية لا علاقة لها بأصول الفقه بتاتا، حيث "يخرج من أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عنها المتأخرون وأدخلوها فيه كمسألة ابتداء الوضع في الأسماء قبل الاستعمال، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا. ومسألة هل كان النبي متعبدا بشرع أم لا" . حين سجلت هذا البحث، ورغم التنقيب الذي باشرته قبل ذلك بحوالي سنتين، لم أعثر على أي مرجع أو بحث أو حتى مقال مستقل يعالج هذا الموضوع من أي ناحية من النواحي، فاستصعبت الأمر واستحسنته في نفس الوقت، ولئن كان مرد الاستصعاب واضحا، فإن مرد الاستحسان يعود إلى رغبتي الدائمة وفضولي الفطري للبحث في المواضيع البكر حتى يكون بحثي أصيلا وذا فائدة. وهكذا فحينما شرعت في وضع اللمسات الأولى للموضوع بعد تسجيله في مطلع سنة1992، كنت أعتزم خوض غماره بالاعتماد فقط على التنقيب في كتب أصول الفقه والكلام وغيرها من مختلف مظان العثور على مثل هذه القضايا ومتعلقاتها، قصد تركيب مباحث الموضوع وفقراته المسطرة في التقرير، أو المستنبتة أثناء إنجاز خطوات البحث ومراحله. وبعد بضعة شهور من الشروع في العمل أخبرني أستاذنا المشرف الدكتور أحمد أبو زيد، بظهور كتاب يعالج طرفا من الموضوع، وأمدني بصورة منه استنسخها لنفسه، وهومن بين المراجع القليلة التي وقعت في يدي بعد تسجيل هذا البحث، ويتعلق الأمر بكتاب "المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين" لمؤلفه الدكتور محمد العروسي عبد القادر، وقد بذل فيه جهدا ضخما بحيث استقصى جل المسائل الكلامية التي تمت معالجتها في أصول الفقه. ورغم أهمية هذا الكتاب والجهود العلمية المبذولة فيه، فإن ذلك لا يفقد هذا البحث أصالته وجدته وتميزه، إذ أن مقاصده تختلف عن الأهداف المتوخاة من هذا البحث، فهذا الكتاب القيم الذي استفدت منه كثيرا، يقصد منه مؤلفه إلى"التنبيه على المسائل والأدلة والحجج المخالفة للكتاب والسنة والموافقة لهما" وهو هدف مهم وكبير، إلا أن مقاصد هذا البحث غير هذا المقصد، كما سيتم توضيحه لاحقا. وبعد انتهائي من تسويد الجذاذات المرتبطة بمباحث موضوعي، صدر عدد من مجلة إسلامية المعرفة، يتضمن دراسة قيمة للدكتور قطب مصطفى سانو بعنوان"المتكلمون وأصول الفقه"، تشتمل على بعض من الخطوط العريضة التي تصورتها لبحثي، إلا أنها تحدد أهدافا أخرى غير تلك التي حددتها، حيث يقرر الباحث منذ الصفحة الأولى تطلعه إلى تحقيق ثلاثة أهداف هي: - إبراز أبعاد العلاقة الجدلية بين علمي الأصول والكلام. - تحليل الظروف الفكرية والسياسية التي دفعت بالمتكلمين إلى التركيز على علم الأصول دون غيره من العلوم الشرعية الأخرى . - تأكيد القول بأن بحث المتكلمين في الأصول أحدث نقلة نوعية وتغييرا جذريا في بنية هذا العلم. ومن بين الأبحاث الجامعية الموفقة التي أطلعت عليها بعد تسجيل بحثي كذلك، دراسة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا، أنجزته الطالبة مليكة خثيري بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة. وبعد سنوات عدة أخر، ظهر كتاب جيد ومطول، يعالج جانبا محدودا -ولكنه مهم- من الموضوع، ويتعلق الأمر بكتاب"آراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويما" للدكتور علي بن سعد الضويحي، وهو في الأصل بحث جامعي لنيل الدكتوراه في أصول الفقه في كلية الشريعة بالرياض، ومن بين أهداف هذه الدراسة كما سجلها صاحبها:. المشاركة ببعض الجهد في دراسة آراء المعتزلة المتعلقة بمسائل أصول الفقه، وبيان ما اشتملت عليه تلك الآراء من إيجابيات وسلبيات. تحرير أقوال المعتزلة من كتبهم المعتمدة، لأن هناك بعض الأقوال نقلت عنهم في كتب الأصوليين. ولئن كنت قد أفدت كثيرا من هذه البحوث والمصنفات، إلا أن الركيزة الأساسية لهذا الموضوع ظلت أساسا-كما حددت لنفسي بادئ الأمر- هي المصنفات الأصولية لمختلف المدارس الفقهية والكلامية ،وكل ما يرتبط بذلك من دراسات ومظان علمية في مختلف فنون وأصناف الفكر والثقافة الإسلاميين. وقد حددت لهذه الدراسة أهدافا ومقاصد أساسية أسجل أهمها فيما يلي: 1. التأريخ لنشأة وتطور أصول الفقه وفق منهجية أعتقد من خلال اطلاعي المتواضع أن لها قيمتها الإضافية، خصوصا من ناحية المنهج المتبع، حيث لامست جوانب مستجدة لعل من أهمها وصل هذا التاريخ إلى يومنا هذا، بعدما اعتاد الباحثون التوقف قبل ذلك بكثير، بل إن بعض الدراسات الجادة توقفت في حدود القرن السادس الهجري. كما حاولت من جهتي التطرق ولو بإيجاز إلى التجربة الأصولية عند الشيعة الإمامية. 2. محاولة رصد أهم مراحل تاريخ علم الكلام ذات الارتباط بهذا البحث، وكيف ومتى ولماذا أدخلت مباحث منه إلى أصول الفقه؟ وهل الحاجة إلى علم الكلام ما تزال قائمة؟ وعلى أي صورة هذه الحاجة تكون؟ 3. محاولة رصد أهم التأثيرات الإيجابية والسلبية لتداخل مسائل العلمين ومناهجهما . 4. محاولة استشراف آفاق ومستقبل أصول الفقه كمنهج للاستنباط، وعلم الكلام أو الفكر الإسلامي، كأداة لمواجهة مختلف التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في هذا العصر.