الغانية والملتحي قالت وهي تضج بالمساحيق: - عِظْني يا شيخ ظل محدقا فيها مأسورا بجمالها الوحشي الصاعق، حتى اعتقدت أنه تاهت منه لفظة البدء. فقال: - تساوينا في هذا، أحتاج اللحظة إلى من يعُضّني، عفوا، إلى من يَعِظُني مثلك. عَضّت شفتيها، وانصرفت متمايلة، ثانية أعطافها. الرجل الطائر كنت في قرطبة. بدا لي حشد من الناس تشرئب أعناقهم نحو الأعلى. خرقت فلولهم وتقدمتهم. وإذا بي أرى رجلا على شاكلة طير ملتحفا بالريش. بادية عليه نزوة الطيش. نبتت على جنبيه أجنحة من الخيش. واقفا على شفا جرف. هالني ما رأيت. دنوت أكثر. فإذا بي استكنه ملامحه. فوجدته صديقي عباس بن فرناس. تيقنت أنه ماض فيما هو عاقد العزم عليه. فقلت على سبيل إثارته: - يا عباس، ألا تعلم أن الله إذا أراد هلاك نملة انبتَ لها جناحين. قال ساخرا: - يا عرة الأقوام، لن تستطيعوا أن تجنحوا بغير جناح. هكذا، هكذا.. تراجع بعض الخطوات إلى الوراء. هز كتفيه بقوة. سرعان ما طار. اخترق الجو. سما في الأفق حتى ذاب فيه متباعدا. فإلى يومنا هذا كلما سمعت أزيزا في السماء إلا ورأيته هناك محلقا، بجناحيه مصفقا. القنفذ الأملس استفاق القنفذ فوجد أشواكه تحولت ريشا ناعما. اغتر بنعومته التي تضاهي الأرانب، ومضى يلعب معها. تعقبهم الذئب. ولخفة الأرانب هربت جميعا، وبقي القنفذ قنفذا. فرغم حلته السندسية الحريرية التي تميز بها عن أقرانه، أحس انه لا يملك دفاعا عن نفسه. فظهره مخترق مكشوف، وحرمته مستباحة. طالما استخف بتلك الأشواك المسيجة له، التي كانت تجعله منبوذا، لكن دون معرة أو نقيصة. وها هو اليوم يسقط بين براثن ذئب جائع تجمعه به ضغينة مستحكمة وحساب تليد. رفع إليه عينين ما عادتا قنفذيتين، تستجديان، وتتوخيان حسن المنقلب. ولأن هذا القنفذ لا يمكن أن يجود به الزمن مرة أخرى، اهتبلها الذئب فرصة ليشفي غليله وغليل سلالته من سلسلة الهزائم والضربات الماحقة التي سجلها عليهم هذا المخلوق الضعيف الشائك. لذا ارتأى ألا يرمي به بين أشداقه بقدر ما سيدنسه تدنيسا أبديا. فدعا الذئاب جميعا ليتبرّزوا بشكل جماعي، وليمسحوا بعد ذلك برازهم بالقنفذ المخملي في طقس احتفالي. ومنذ هذه الواقعة تم التحذير من انسلاخ القنافذ عن جلدها والعتو على نواميس الطبيعة. ومن ثم أضيفت مادة جديدة في دستور الغابة جاء فيها: " ليس في القنافذ أملس، ومن غدا كذلك يصبح أنجس" عودة عاد بعد أن قضى سنوات في بلاد المهجر متأبطا ذراع سيدة شقراء محدودبة الظهر. تراجعت أشجار الحديقة لرؤيتهما. هرت كلاب الحي وفرت. حرن صوت المؤذن عن الآذان. بدت مقل العذارى حيارى. تشكل عند مقامها طابور طويل من البشر يودون رؤية سلالة تحمل رزقها رغدا. أطلت عليهم من شرفتها تعلوها ضحكة مخلّصة، وعندما أومأت جهة البحر خروا محدودبين منحنين. كلمات اعتاد أن يقول لها كلمات يكاد يقفز لها قلبها من نياطه وتحملها إلى الثريا من قبيل: " أرى البحر يطل من عينيك" و " شعرك جواد جامح". وعندما صمّمت أن تقول له: - دعني أراك أنت هذه المرة. توارى في الزحام ممتطيا الجواد الجامح، عابرا البحر الذي شغف به في اتجاه الضفة الأخرى. وتطاير القلب وتطايرت نياطه. الكرة الملعونة رمى بكرته بعيدا. ارتطمت بزجاج نافذة الجيران. تهشم الزجاج. هرب الكل. بقي وحده محدقا في النافذة. أطلت المرأة برأسها تسبقها عاصفة من الشتائم. التقطتِ الكرة وقطعتها نصفين. انشطر قلبه نصفين. خرجت البنت واحتفظت بنصف ما قطعته أمها، وناولت النصف الباقي له. منذ ذلك الحين وهو يحاول أن يرتّق النصفين، فكان يلوح له السكين متدليا من النافذة نفسها التي ما يزال زجاجها مهشما.