اليوم تبدأ أحداث الفصل الثانى من رواية بطرس والأوضاع تزداد تعقيدا فى حياة الأبطال وفى تاريخ مصر هبطت هدى من التاكسى الذى كانت تستقله ونظرت إلى مقر نيابة أمن الدولة وهاجمتها ذكريات يوم الاستفتاء المشئوم وما حدث لها ثم كيف أغلقت القضية دون الوصول إلى الجناة رغم أنهم كانوا معلومين للجميع وكيف تلوثت سمعتها وكادت تبقى بدون زواج إلى الأبد لولا أن تقدم لها أحد زملائها فى قسم الإعلانات فتزوجته رغم كل تحفظاتها عليه لتعيش حياة أقرب للجحيم وها هى الآن تقف أمام مكتب عماد الذى أصبح وكيلا لنيابة أمن الدولة فى صيف 2006 وطلبت من العسكري الواقف على باب المكتب الدخول: - أنا عندي ميعاد مع عماد بك، بلغه إن الصحفية هدى قدرى من جريدة الرأى فى انتظاره و يرد العسكري بحماس واحترام: - سيادته سايب خبر يا افندم .. اتفضلي وتنظر هدى خلفها فى فزع شاعرة بأن يدا ما تنتهكها من الخلف ثم تدرك أنها تهيؤات كالعادة ..تهيؤات تقتحمها منذ اليوم المشؤوم عندما انتهكها الأمن فى الشارع و دخلت هدى ليقف عماد وفى عينيه إعجاب قديم يتجدد ، يمد يده مصافحا فتمد يدها ليأخذها ويلثمها قائلا: - آخر مرة شفتك كان من سنة تقريبا.. تضحك في دلال وتقول: - انت لسه فاكر يا عماد بك - هو اللي في جمالك تتنسى؟ الشعر الأصفر والعيون الخضرا وال .. إحم تبتسم ولا ترد فيبادرها بالسؤال عن زميلها المصور: - زميلك المصور عامل إيه دلوقت؟ - محمد؟ الحمد لله ساب المستشفى تسكت برهة وتنظر في عيني عماد قائلة: - وساب الجريدة برضه - راح جريدة ثانية؟ - لا اشتغل مصور فنانات.. رقاصات بمعنى أدق ينظر لها عماد في دهشة فتجاوبه قبل أن يسأل: - الحقيقة محمد شاف إن شغل الصحافة مش جايب همه غير إن الرقاصات هيعرفوا يحموه كويس ويجيبوله حقه لو حد اعتدى عليه واهى ماشية معاه اشترى شقه صغيرة وعربية يعنى.. - وانتى يا هدى؟ - أنا اتجوزت من شهرين وحصلت أخيرا على عضوية النقابة وجاية دلوقت بتكليف من رئيس قسم الحوادث عشان اعمل مع حضرتك ريبورتاج عن أظرف الجرائم اللى قابلتك في تاريخك المهني وبلهجة ساخرة تكمل: - باعتبارك واحد من أنزه رجال النيابة في مصر.. تصله سخريتها لكنها لا تؤلمه.. نعم لقد أقفل القضية الخاصة بهتك عرض الصحفيات في الشوارع يوم الاستفتاء وقيدها ضد مجهول لكنه نال أكثر مما كان يحلم وتم نقله الى نيابة أمن الدولة ونال ورضا قياداته عنه.. ولو لم يوافق على أوامرهم كانوا سيعاقبونه وسيأتي من بعده من يتنازل ويقبض الثمن..لم ينس إلى الآن تفاصيل الاتصال الهاتفى الذى جاءه من قيادة كبرى فى وزارة العدل تأمرة بإغلاق ملف قضية التحرش العنى بصحفيات وناشطات فى يوم الاستفتاء مقابل ترقية لا يحلم بها وعندما حاول الاعتراض هدده المسئول بمجازاته ونقله الى آخر الدنيا ولم يتردد عماد كثيرا فى نفس اليوم كان قد حسم رأيه وفى أقل من شهر كان قد نقل الى نيابة أمن الدولة يبتسم فى مرارة قائلا فى سره : - هى دى مصر يا هدى!!! وسألته هدى عن الكاتب الذي كان معه منذ عام فيقول دون أن يرفع عينيه إليها: - اتفصل .. ضبطوه بياخد عشرين جنيه رشوه ففصلوه.. وتصمت هدى فى ذهول.. ثم تعلق: - هى كده دايما اللى بيسرق لقمة هو اللى بيتمسك، واللى بيسرق طابونة العيش كلها بيفلت بالفرن واللى فيه وتكمل فى سرها: - وبيترقى كمان ينظر إليها فى غضب فتغير الموضوع وتشغل جهاز التسجيل وتبدأ العمل ..فى صيف 1993 وفى كفر المساطيل في الصعيد في منزل عبد الجبار كان والده" مظلوم" في غرفة نومه يرتدى جلبابه الأبيض ويستعد للخروج، بينما كانت " ستهم" أم عبد الجبار تنوح وتلطم خديها بعد فشل محاولاتها لإثناء زوجها عن الخروج الى مشواره، وهدأ مظلوم من روعها قائلا: - يا ستهم "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" وبعدين هو أنا رايح أحارب يا وليه؟ - حرام عليك يا مظلوم.. إحنا عايزينك يا اخويا .. عبد الجبار لساه صغار - عبد الجبار راجل من ظهر راجل.. أنا عايزه لما يكبر يتباهى بأبوه .. سيبينى بجى عشان ألحج الناس اللى مستنظرين في الغيط ويندفع مظلوم الى غيط "عنتر" الذي يريد المأمور وضع يده عليه بحجة أنه "مش ملك حد"، وذلك بعد أن أعلن عنتر المسكين أن هناك دفينة "قبرا فرعونيا" تحت غيطه وبالطبع لم يصدقه أحد من البلد أولا لان البلد بأكملها لا يوجد بها دفينة واحدة والكثير حاولوا ولم يعثروا على اى شيء، وثانيا لأن عنتر المسكين كلامه كله نخع وفشر فهو أفقر وأقبح واضعف خلق الله مما كان يدفعه لاختلاق الكذبة تلو الأخرى لكي يلفت الأنظار. ولسوء حظه سمعه "أبو شناف" وهو شيخ الغفر في القرية الذي كان مكلفا بحماية البلد والزرايب في فترة الليل والمعروف بتحالفه مع اللصوص والحكومة على حد سواء، وبالطبع كان أبو شناف غريبا عن البلد بلا أرض ولا جاه وكان يأمل أن المأمور عندما يستولى على قيراطين الأرض بتوع عنتر ويكتشف أنه ليس بها كنز ولا يحزنون فسوف يبيعها بثمن زهيد وبهذا يشتريها أبو شناف بسعر رخيص ويذل أهل القرية الذين رفضوا أن يبيعوا لابو شناف قيراط أرض واحد. وصل مظلوم بملامحه الطيبة وقامته المفرودة إلى غيط عنتر ليرى عساكر الأمن المركزي تحاصر الغيط وتهدم عشة عنتر الذي انخرط في البكاء وراح يحط من طين الأرض على رأسه وهو يصرخ: - وشرف أمي يا سيد بيه الأرض مفيهاش مساخيط، أنى كنت بافشر يا باشا، الأرض مفيهاش مساخيط غيري يا باشا، أنى المسخوط الوحيد الى فيها يا باشا.. خدونى وسيبوا الأرض يا عالم.. غيتونى يا هووه ويميل "سيد" بيه – المأمور- على قائد قوة تنفيذ الأحكام وعلى وجهه ابتسامة صفراء بغيضة قائلا: - الواد ده أصله مجنون يا باشا والبلد كلها عارفة مش كده يا عمدة؟ يرتجف العمدة "عبد الملك" وينظر بشفقه على الفلاح المكلوم ثم يشيح بوجهه وهو يقول :- ايوه يا باشا ده مجنون ابن مجنون. ويقول المأمور وهو ينظر في ساعته: - عموما أنا كلمت اللي هيعقلوه وزمانهم جايين.. في نفس اللحظة ينجح مظلوم في اختراق الحاجز الامنى ويهتف بأعلى صوته: - هو اللي يدافع عن حقه في البلد دى يبقى مجنون يا سعادة المأمور؟ يرتعد المأمور قليلا ثم يتذكر أنه محاط بقوات الأمن التي ستحميه من أى اعتداء فيتقدم نصف خطوة ويحاول رفع صوته بقوة: - إيه اللي جابك الساعة دى يا مظلوم ؟ متدخلش في اللى ميخصكش - اللي بيحصل لعنتر يخصني ويخص كل نفر في البلد دى.. اللي بياخدوا أرضه النهار ده بدون وجه حق ممكن بكره ياخدوا أرضى أو أرض اى حد تانى.. اتقى الله يا سيد بيه النجوم اللي على أكتافك اللي انت وريتهالنا في عز الظهر مش هتنفعك يوم العرض عليه - بقى انت يا شيوعي بتفكرنى بربنا؟ ينظر مظلوم للناس لأهل القرية ويصرخ فيهم: - يا أهل بلدي أرض عنتر عرضه وعرضه عرضكم.. هتسيبوا المأمور يهتك عرضكو؟ وتندفع صيحات الغضب من أفواه أهل القرية المسلحين بالشوم ويتجهون نحو قوات الأمن في غضب عيونهم تلمع بالإصرار وأذرعهم السمراء ترتفع بالشوم ..لونهم كلون طمي النيل.. واندفاعهم كتدفقه في الفيضان.. ومن بعيد وقف عبد الجبار الصامت دائما وعيونه تكاد تنطق فخرا بوالده الشجاع.. ويهزه الزعيم قائلا: أبوك ده ولا شجيع السيما يا عبد الجبار.. وينتظر الصبية الموقعة الكبرى ولكن تأتى اللحظة غير المنتظرة .. لحظة يبدو أن الزمن قد توقف فيها لحظات.. تجمدت الأذرع السمراء على الشوم انطفأت شمس الإصرار في العيون.. وسكنها ليل الخوف عندما هبط من سيارتي الأمن المركزي عشرات الجنود فيما يشبه جيشا صغيرا انضم إلى الجنود الذين كانوا يحاصرون أرض عنتر ، في نفس اللحظة التي اخترقت سيارة بيضاء الجموع متجهة نحو المكان ونزل منها طبيب ورجلان شديدان ومعهما ما يشبه الملاءة البيضاء وأشار لهما المأمور إلى حيث انبطح عنتر أرضا .. وكان مظلوم هو أول من أدرك الموقف فصرخ في الناس: - يا ناس.. يا أهل بلدي اجمدوا الى يحارب عشره يحارب عشرين .. الباشا جايب الدكتور عشان ياخدوا عنتر على مستشفى المجانين.. ده إحنا منبقاش رجاله لو أخذوه من وسطنا ويرفع زكى شومته ويهوش بها يمينا ويسارا لإبعاد رسل العباسية عن عنتر المسكين ولكن العمدة يضربه على ذراعه فوقعت الشومة من يده وعندما هم بالتقاطها اخرج المأمور مسدسه من خلف ظهره وراح يطلق الرصاص في الهواء وأمر قائد قوة تنفيذ الأحكام الجنود أن يضربوا في المليان إذا اقترب احدهم من الأرض أو من المأمور، ويقترب أبو شناف ببطء من مظلوم الذي وقف من جديد على قدميه وراح يركض باتجاه عنتر الذي كف عن البكاء وصار كالطفل بين يدي من حملوه من تأثير المهدئ الذي حقنوه به ولكن عيناه ظلت مذهولتان خائفتان ويداه ضارعتان تناديان مظلوم الذي حاول اللحاق به دون أن يستطيع ونادى على الناس أن يثبتوا ولكنهم كانوا قد تفرقوا بالفعل قلم يعد هناك أحد سواه في داخل الدائرة الأمنية الجهنمية وينظر أبو شناف الى المأمور وكأنه يأخذ منه إذنا بعمل شيء ما وعندما أخذ الإشارة هتف بأعلى صوته: - الحقنى يا باشا مظلوم معاه مسدس..ويستدير عساكر الأمن المركزي ليواجهوا خطر مظلوم الأعزل بطلقات الرشاشات وتندفع الدماء خارج مظلوم وكأنها تثور في وجه من غدروا به، ويسقط مظلوم ببطء وعيناه مثبتتان على وجه " عبد الجبار" الذي اكتسى وجهه بذهول ظل مرسوما على وجهه شهورا طويلة وبنظرة أخرى لا يمكن أن يرمق بها ولدا والده الذي يحتضر .. لقد كانت نظرة لوما وعتابا.. عتاب ظل في داخله طيلة حياته وشعور أن والده قد عشمه وخلى به.. إن والده ركب فرس البطولة وهو غير جدير به .. لقد كان يفخر بوالده كثيرا وها هو والده يسقط جثه في الوحل أمام أهل البلد جميعا.. أهل البلد الذي مات من أجلهم.. أهل البلد الذين تخلوا عنه وتركوه يواجه الموت وحده.. من اليوم صار أهل البلد أعداءه.. وفى داخله ترددت كلمة واحده:- يا ويلكم منى يا أهل كفر المساطيل. فى 2006-07-24 وفى حوش ليمان طرة - حيث تم نقل عبد الجبار لمهمة محددة وهى مراقبة أحد المعتقلين عن كثب وانتظار الأمر بتصفيته- جلست مجموعه من شباب المعتقلين فى حوش الليمان يتناقشون فى الأمور السياسية ويلقون بالدعابات بين الحين والآخر، وهم: "عادل" المهندس اليسارى الذى ينتمى إلى أسرة متوسطة تعيش فى امبابة، مثقف جدا ومتفانى فى سبيل مبادئه لأبعد الحدود، وسامى عضو حركة الإخوان المحظورة ، ابن الوجه البحرى الذى جاء ليشارك فى إحدى مظاهرات كفاية فتم اعتقاله، ومعهم جلس وائل الصحفى الليبرالى الذى تمت محاكمته بسبب مقالة كتبها عن الظلم والديكتاتورية اعتبرها النظام إهانه له، وإلى جوارهم جلس "النمنم" شاب نصف أمى مرح لا يمل الدعابات قرر الاستفادة من الأفندية المتعلمين والسير فى ركابهم أملا فى أن يخرج من طرة بطلا بعد أن دخله لصا، والغريب أنه لم يتم القبض عليه وهو يسرق بل لأنه كان يراقب فى إعجاب أعضاء حركة كفاية المشاركين فى إحدى المظاهرات وكانت تلك أول مرة يرى فيها النمنم مظاهرة و اعتقد العسكر أنه مع كفاية فاعتقلوه معهم. وكان النمنم دائما يتندر بين زملاء المعتقل: - أنا من يوم ما اتولدت وانا باسرق مفيش مرة اتعملى محضر ولا اتاخدت تحرى قوم لما أقف فى مظاهره لأول مرة فى حياتى وعشان اتفرج مش عشان اتظاهر قوم يعتقلونى؟ طب وحياة من خلق العالم دول بالغباوة دى كلها لاكون معارضهم من هنا ليوم القيامة كرامة لمخهم الضلم. ويضحك عادل قائلا: - انت ايه اللى رماك ع السرقة يا نمنم؟ يتنهد نمنم ويتحسس شعره الذى أطاله ليقترب من كتفه قائلا: - يعنى يا باشمهندز عادل واحد أبوه جه م العراق جثه فى صندوق بعد سنين غربة ويا ريته جه ومعاه حاجه إلا يا مولاى كما خلقتنى، وامى عرفت السكة، اللقمة اللى هيجيبها الحلال مش هتشبع عيالها باعت نفسها بعقد عرفى لواحد عجوز من الخليج على أمل انه يتكفل بيا وباخواتى خدها على بلده قعدت معاه سنتين مشافتناش ولما نزلت بمعجزة ومعاها ميتين دولار ماتت تانى يوم فى فرشتها. واحد زيى كان هيطلع ايه يعنى..عالم ذرة؟ ويشارك سامى فى الحوار قائلا: - احنا لازم ان شاء الله نعمل قعدة طويلة كل واحد فينا يتكلم فيهاعن حياته وعن اللى رماه على المعتقل. وينضم الشاعر الشاب على إلى الجلسه ويشاغبه وائل قائلا: - أهلا بشاعر البادية..يا ترى مين آخر ملهمة كتبت فيها شعر فى زنزانة الأنس؟ تنحنح على قائلا: - الحقيقة هو ملهم مش ملهمة؟.. ويضحك الجميع متسائلين من هو فيجيب: - هتعرفوه لما تسمعوا آخر كتاباتى.. اسمعوا.. يا عسكرى الدرك أفزعنى منظرك.. ويضحك الجميع ليواصل على: يا عسكرى الحكومة بينك وبينى تار دم البلد والنيل والأرض والثوار .. وتحتبس الكلمات فى حلق "على" عندما يلمح الجمود الذى أصاب أعين زملائه والتى تصلبت جميعها خلف ظهره ويستدير على ليرى وجه عبد الجبار الدميم ثم فقد وعيه إثر لكمة قوية فى وجهه قبل أن يتم اصطحابه إلى زنزانة التأديب أو ما يعرف بالحبس الانفرادى. ويقول النمنم: - انتو مش ملاحظين يا جماعة إن الجدع اللى اسمه عبد الجبار مبيتكلمش خالص .. أنا كنت فاكره اخرس لولا انى سمعته بيشتم واحد من الجدعان المعتقلين الجدد. يرد عليه عادل: - الشىء اللى محيرنى ايه اللى يخلى عبد الجبار واللى زيه يكونوا بالقسوة دى رغم ان المفروض انهم غلابه ومطحونين ومن الشعب الغلبان.. ويرد سامى الاخوانى: - اللى معندوش دين يعمل أكتر من كده.. أنا عمرى ما شفته بيصلى وهنا يقول عادل فى لهجه ساخرة: -هل تعتقد يا شيخ سامى أن المدعو أبو لهب-عفوا- عبد الجبار ملحد؟ ودون أن ينتظر الإجابة يكمل فى سخرية: - ما تدعيله يا بركة يمكن ربنا يهديه ويشهر إسلامه.. ويرفع سامى اصبعه محذرا: - يا أخ عادل أنا قبل كده حذرتك من أسلوب الاستهزاء ده أنا مبسخرش من مبدأك يا أخى عشان انت كل شويه تسخر منى ومن مبادئى.. رغم ان مبادئك مغلوطة وبعيدة عن روح الدين.. ويضحك عادل مستنكرا: - هو انت عندك مبادىء بجد يا سامى؟.. وقبل أن يرد الاخوانى الشاب الذى احمر وجهه وراح يرغى ويزبد قام نمنم باصطحابه بعيدا بحجة الاستفسار عن بعض الأشياء الشرعية وذلك حتى يمنع صداما محتوما بين الناشط اليسارى وعضو الحركة المحظورة. وتنتهى الفسحة ليعود المعتقلين إلى زنازينهم. وفى الزنزانة يسأل النمنم سامى : - قول لى يا شيخ سامى هو السلام على المسيحيين باليد حرام؟ فيجيبه سامى بلهجة الخبير: - لا.. لكنه مكروه ويجب أن يبدأ هو بالسلام وخذ بالك يا نمنم أن السلام على مسيحى ينقض الوضوء.. وهنا يمتعض وائل بشدة ويقول بانفعال: - أنا قرأت فقه السنة بكامل أجزائه ولم يرد فيه أن السلام على المسيحى يعتبر من نواقض الوضوء ..وهنا يثور سامى هاتفا: - يعنى انت هتعرف أكتر منى؟ ويهم وائل بالرد عليه لولا أنهم يسمعون أصوات العسكر خارج الزنزانة فيصمت الجميع جلس عبد الجبار وعلامات الضيق مرتسمة على وجهه، لقد كان الكثير من الغضب والحنق يملأ صدره تجاه "على" إنه لا يدرى لماذا يسخر هذا الخنفس منه؟ ثم ما نوع الثأر الذى تحدث عنه ؟ -هياخد تاره منى آنى؟ طب ما ياخده من علاء بيه الظابط اللى عمل فلوس كتير ولا من صاحبه عماد بيه وكيل النيابه؟ لكن ياخد تاره منى انى؟ انى عبد المامور اضرب يا عبد الجبار أضرب، صور انتصار وكتفها على ما اخلص أنفذ. ذنبى انى إيه؟ وفى داخله المريض يتيقن عبد الجبار ان على لا يختلف عن أهل القرية الذين باعوا والده وتركوه يقتل أمام اعينهم..وسافر عبد الجبار فى احلامه بوعد علاء بيه له اذا نجحت الحركة بتاعة ضباط من اجل التغيير انه سيعينه السكرتير الخصوصى له.. - آه ماهو اللى زى علاء ده ممكن ينط على أى وزارة بسهوله لو عملوا جلبان ولا شجلبة لنظام الحكم ..أما تبقى البليه لعبت معاك يا عبد الجبار!..ويسمع عبد الجبار صوت على وهو يصرخ صرخة مكتومة حيث يبدو أنه اصطدم بإحدى حشرات الزنزانة.. وفى داخله يضحك عبد الجبار: - أنى أول ما شفت الواد ده قلت انه خنفس حجيجى.. واد خرع صحيح.. كل بتوع الكلام كده خرعين بيجعجعوا ع الفاضى والناس العبط بيصدجوا ويمشوا وراهم والكلمنجيه الأعبط بيفتكروا ان الناس هتنفعهم لكن الناس الجبانة المنفوخين هوا ومشحونين كلام بيسيبوا الكلمنجيه يغرجوا اول ما بييجى الطوفان، بس مش كل الكلمنجيه بيغرجوا يا واد يا عبد الجبار ما عمدة بلدكو كلمنجى ووعوده كدابه واهو فضل عمده لحد ما مات.. وتسافر ذاكرته مرة أخرى الى بلدته فى أحد الايام بعد مقتل والده بشهور قليلة تلقى "عبد الجبار" دعوه شفاهيه من رجال القرية لحضور جلسه مهمة، وينظر عبد الجبار الى الزعيم زميله الذى أبلغه الرسالة ثم يهز رأسه ويسأل: - عايزين ايه منى؟ يرد الزعيم: - مخابرش لما تيجى هتعرف.. وهنا تتدخل ستهم هاتفة: -انتو عايزين ايه م الواد مش كفاية ابوه.. حلوا عنا بجة كفاية مرار..وتطرد الزعيم من الدار.. ويبدأ الصراع داخل عبد الجبار هل يذهب؟ انه لا يطيق النظر إلى وجوههم الكئيبة، ولكن ماذا يضيره لو ذهب؟ من الممكن أن يذهب لينفجر فى وجوههم غضبا ليصارحهم بجبنهم وان مفيهومش راجل.. فى النهاية يقرر ألا يذهب .. ويقرر أيضا ترك المدرسة .. سيراعى أرضه ويكسب حريته لقد كان يسير متعثرا فى دراسته حتى يرضى والده أما الآن فقد مات والده .. والده الذى خدعه وغرر به ثم تركه ورحل.. إن مظلوم الذى عشق القراءة والكتب جلب عليه العار والمرار .. ان مظلوم ضعيف وهو يريد أن يكون قويا مثل عبد الملك وابو شناف الذى حاز الان ارض عنتر واثنان اخران من الفلاحين.. ويقطع حبل أفكاره دق على باب الدار يقوم ليفتح ليجد إمام زاوية الإخوان.. ان عبد الجبار يعرف انه من الاخوان وان كان لا يعلم على وجه الدقة ما الذى تعنيه كلمة الإخوان، يقول الامام: - السلام عليكم ورحمة الله يا عبد الجبار - وعليكم.. فيبتسم الشيخ قائلا: - إذا حييتم بتحية فردوا بمثلها أو بخير منها و بدا على عبد الجبار عدم الفهم وعدم الاكتراث بالفهم فسأله الرجل: - ممكن ادخل؟ افسح عبد الجبار الطريق له قائلا فى فتور: - اتفضل وجلسا في المضيفة ليخرج الشيخ من جيبه مبلغا من المال ويناوله اياه - اتفضل يا عبد الجبار دول ميت جنيه يساعدوا ع المعايش يا ولدى و تلمع عينا عبد الجبار ويقول في سره : ميت جنيه حته واحده؟ يأخذ عبد الجبار النقود ممتنا ثم يطلب الشاي للشيخ الذي عرض خدماته على عبد الجبار ويؤذن لصلاة المغرب فيدعو الشيخ عبد الجبار إلى المسجد ليصلى جماعة: - أصلى لمين يا شيخ؟.. فأجابه الشيخ باندهاش: - لربنا يا ولدى - طب روح أنت وأنا وراك على طول وينصرف الشيخ إلى الجامع لكن عبد الجبار لم يذهب خلفه فمن اللحظة التي قتل فيها والده فقد إيمانه ليس بوالده ولا بأهل قريته فقط لكنه فقد إيمانه بكل شيء لم يعد لديه شيء مقدس .. لو كان هناك إله عادل في السماء لما حدث لوالده ما حدث ولما أخذوا أرض عنتر منه ولا ادخلوه السرايه الصفرا ظلما وعدوانا.. لمن سأصلى؟ ويعطى عبد الجبار نصف المبلغ لأمه بينما يخبىء النصف الآخر معه.. وفرحت ستهم وقتها بما اعتقدته عقلانيه من ولدها حيث ابتعد عن هذا الشيخ الذى قضى نصف عمره معتقلا دون أن تكلف نفسها بإعادته إلى نفسه وإلى دينه.. لقد اعتبرت رفضه لدعوة الصلاة جماعة عقلا دون أن تدرك أن ولدها رفض الصلاة مع الإخوان كفرا برب الإخوان لم تدرك المسكينة أن ولدها قد صار عبدا لإله آخر.. مر عامان على عبد الجبار وهو يعمل فى حقله الصغير، يتجنب أهل البلد ويتحاشى الصدام مع الأعيان، وفى رحلة بحث عبد الجبار عن النقود باع كل كتب أبيه والتى لم يفاجأ أن سعرها لم يتجاوز عشرون جنيها، لقد كان أبوه يتحدث عن الكتب وكأنها كنز وهو قد عرف أن والده كاذب منذ سقط مضرجا فى دمائه، ولأن المثل الاعلى للصبى الصغير قد سقط ، فقد قرر البحث عن قدوة أخرى ، وكان من أعاجيب الزمن أن تكون قدوة عبد الجبار ابن المناضل اليسارى بطل العصيان المدنى هو العسكرى المتجبر رمز القهر العسكرى.. وأتى زمن يقتدى فيه ابن القتيل بقاتل ابيه.. ترى هل يقع اللوم على أبو شناف خفير الحكومة؟ أم على مظلوم الذى ضحى بنفسه من أجل حفنه من الجبناء؟ أم أن المشكله فى عبد الجبار نفسه وراجعه لخلل ما فى تفكيره؟ عندما قص على قصة تتلمذه على يد أبى شناف لم يطاوعنى قلبى أن القى باللوم على عاتقه، فكيف ألومه على خلل فى تفكيره فى بلد اختلت فيه كل الموازين؟ كيف أقنعه أن أباه بطل وهو يحتفظ بالجريدة التى نشر فيها خبر مصرع والده تحت عنوان " مقتل أحد الاشقياء فى مواجهات مع الأمن"، كيف أصارحه ان أبو شناف هو الشيطان وهو يراه مستمتعا فى جنات مصر متربعا على عروشها، ففى كل قرية هناك أبو شناف ، وفى كل مؤسسه هناك عبد الملك. وفى أحد الأيام كان عبد الجبار يستريح قليلا من العمل فى الغيط، وبينما راح يقتات بكسرة خبز و قطعه من الجبن القديم لمح من بعيد عسكرى الدرك "أبو شناف" وارتجف عبد الجبار، إنه يعلم أن أبو شناف لا يحمل فى قدميه إلا الخراب فأسرع يجرى باتجاهه ليصل اليه قبل أن يصل إلى حدود الغيط، ووقف عبد الجبار ينظر إلى الخفير العملاق بمزيج من الرهبة والانبهار وفى داخله سؤال: - بجى مكانش ده يبجى ابويا؟ ده مكانش حد فى البلد داسلى على طرف، ويربت أبو شناف على كتف عبد الجبار بيد من حديد قائلا: - والله أرضك حلوه يا واد .. وزرعتك تفرح بصحيح.. لما تبيع المحصول انا ليا النص.. وتجف الكلمات فى حلق عبد الجبار لقد جاء الدور على أرضه ولا يدرى لماذا ترددت آخر كلمات والده فى أذنيه لحظتها؟ - يا اهل بلدى أرض عنتر عرضه وعرضه عرضكم.. هتسيبوا المأمور يهتك عرضكو؟ ولكن هذه المرة لم يكن المأمور ، انه ابو شناف، وعبد الجبار لا يستطيع ان يقول له لا ولكنه أيضا لا يقدر على التفوه بكلمة "موافق". لقد بلغ عبد الجبار الحلم وفى بلدته الصغيره لابد أن يمر الرجال بتجربة أولى لا مهرب منها والتجربه هى أن تقول نعم وقلبك يقول لا، أن تبتسم فى وجه الظالم والكره والحزن يثوران بداخلك، تجربة كظم الغيظ. النظام كده فى البلد دى الراجل العاقل اللى عايز يعيش هو اللى يكظم غيظه، كظم الغيظ هو موضوع خطبة الجمعه التى يلقيها امام وزارة الاوقاف بعد كل مصيبة تحدث فى البلد، كظم الغيظ والعفو عند المقدرة هو عنوان وموضوع خطبه الجمعه التى تلت قتل والده بيوم واحد،تداعت كل هذه الأفكار فى ذهن الصبى وهو يهز رأسه بوهن هزة الموافقه موافقه من لا يوافق ولكنه لا يملك أن يقول لا ، ولم يدر عبد الجبار يومها أن هذه ستكون الخطوة الأولى فى سلسلة موافقات وتنازلات لا حصر لها..تنازلات فشلت أن تعلمه الغضب والثورة على من قهره ولكنها نجحت ببراعة فى تحويله إلى عباده القهر وتقديس الظالم حتى أهمل أرضه وكره فأسه وصار حلم حياته أن يكون مثل أبو شناف العسكرى القوى الغنى، إن عبد الجبار يعشق النقود ولقد تعلم أن القوة تاتى بالنقود: لو أنه قوى فإنه لن يضطر للعمل، سيترك الضعفاء يعملون ويكدون ثم يأخذ منهم ما يكفيه، سيذل من تخلوا عن أبيه ، وفى داخله تبلور القرار، لقد قرر عبد الجبار أن يبيع أرضه لابو شناف على ان يكون غفيرا معه وبالفعل ذهب عبد الجبار إلى شيخ الخفر أو عسكرى الدرك كما كان يحلو لأبى شناف أن يسمى نفسه عارضا بيع الغيط بالثمن الذى يحدده شيخ الغفر على أن يقبله معه فى خدمة الدرك وحراسة الأرض والمواشى ليلا.ولكن العرضحالجى صاحب شيخ الغفر يقول له: - انت لسه قاصر هتبيع ازاى؟ مين الوصى عليك؟ - أمى؟ ويلتفت ابو شناف لرفيقيه - مين أمه ؟ ويجيبه أحدهم : - ستهم بنت ابو اسماعيل الكلاف.. ثم يميل على أذنه هامسا بصوت كالفحيح: - كانت أجمل بنت فى البلد ويأتيه الأمر العسكرى الأول فى حياته: - خدنى لامك يا ابن مظلوم يصل أبو شناف إلى منزل المرحوم مظلوم مع عبد الجبار فى الساعة الثانية عشر منتصف الليل، كانت البلد كلها نائمة كأنما ماتت منذ عشرات السنين، يهم عبد الجبار بدق الباب ليلفت انتباه أمه الى وجود ضيف معه، ولكن تسبقه يد أبو شناف فتفتح الباب عنوة، يدخلا إلى حوش المنزل يبدو أن ستهم كانت نائمة غافله عما حولها، يقف عبد الجبار ذو السبعة عشر ربيعا وبداخله قيودا لا يراها لكنه يشعر بثقلها فوق كاهله.. وهتف به أبو شناف فى خشونة: - روح صحيلى أمك وذهب عبد الجبار ليوقظ أمه ويبلغها ان ابو شناف قد جاء ليأخذ منها حجة الأرض، فضربت أمه صدرها بكفها وقالت وهى تلطم : - هتبيع أرض ابوك يا واكل ناسك؟ ده ابوك اللى كنت باجول عليه مجنون معملهاش.. - يا امه أنى هابجى عسكرى كد الدنيا .. هابجى زى ابو شناف - يا ولدى ابو شناف العسكرية ممكفياهوش رايد يكوش على أراضى البلد كلتها.. فوج يا ولدى أحب على يدك ومن الخارج يسمع عبد الجبار نداء قائده فيخرج ليتلقى الأمر العسكرى الثانى: - امسك نوبة الحراسة لحد الفجر .. مبروك انت م الليله دى عسكرى الدرك الثانى فى البلد - لكن يا ابو شناف .. - ابو شناف حاف كده.. انى حكمدار البلد يا غبى - يا حكمدار البلد امى لوحدها فى الدار .. ومينفعش اسيبكو ل.... تخرسه لطمة قويه على خده: - جرالك ايه يا ابن مظلوم انت هتنسى روحك وتعمل زعيم زى ابوك، ده انى عسكرى الدرك اللى باحمى البلد كلها يعنى امك فى أمان معايا وانى هاخد الحجة منها وامشى على طول انى مش فاضى، ثم يخرج من جيبه ألف جنيه يدسها فى يده - وادى ثمن الأرض مجدما ويخرج عبد الجبار لكنه يظل يحوم حول بيته بمسافه تسمح له بسماع صريخ أمه لو استغاثت وفى الداخل يدخل ابو شناف إلى مخدع الام التى كانت تبكى وتهم بالصراخ فيكممها ويدس سمومه فى أذنيها وهو يعتصر ذراعها: -ابنك مع رجالتى بره لو صرختى هيقتلوه.. فين حجة الأرض؟ تشير إلى الدولاب فيفتحه بعنف حتى أن ضلفته قد انخلعت فى يده محدثة جلبة ويجد الحجة فى صندوق مغلق فيأخذها ويدسها فى جيب الجلباب ثم يخلعه ويغلق الباب مانعا ستهم من الهرب ويضربها على رأسها فتفقد الوعى ليتكفل هو بإفقادها الشرف، وعندما طالت غيبة أبو شناف بالداخل استبد القلق بعبد الجبار فدخل الدار وحاول فتح الباب باكيا بلا دموع راجيا ابو شناف أن يفتح لكن ابو شناف لا يرد ولا يسمع عبد الجبار إلا صوت ملابس أمه تتمزق.. ويقف خائرا عاجزا .. يجرى إلى باب الدار يهم بالصراخ، ولكنه لو صرخ سيفضح أمه.. يجرى مره أخرى إلى باب الغرفة يهم بكسره لكنه يخشى من أبو شناف.. قد يقتل امه لو كسر الباب وقد يقتله هو شخصيا، يتحسس الألف جنيه فى جيبه وكأنها ثعبان يلدغه فيخرجها ويلقيها أرضا ويمزق جلبابه ويلطم ثم يتكوم كخرقة من القماش ويبكى ، وبعد مرور بعض الوقت الذى بدا لعبد الجبار أنه دهر ، خرج أبو شناف من الغرفه شبه عاري وعلى وجهه علامات الانتصار مسلطا عينيه الحادتين الضيقتين على وجه عبد الجبار الذى أكل البكاء عينيه فحاول جاهدا أن يقوم من مكانه ويهاجم أبو شناف لكنه لم يستطع فنكس رأسه، وبعد عودته من الحمام دخل مرة أخرى إلى الغرفه وسمع عبد الجبار صوت صرخة مكتومة إنها أمه لقد استفاقت على المصيبه التى حدثت تنادى على ولدها الذى يقف على أرجل من الهلام ثم يسقط ويزحف على بطنه حتى يصل إلى الغرفة ليجد عسكرى الدرك وقد قيد أمه فى الفراش وحشا فمها بمنديل حتى لا تصرخ وراح يعيد الكره وهذه المرة يغلق عبد الجبار الباب بنفسه حتى لا يرى المزيد، ثم سقط مغشيا عليه..[/size[/size]] [/color]