ربيع الذاكرة:قراءة في رواية "ربيع حار" لسحر خليفة -”حارث المياه” لهدى بركات. *استهلال: شهد العالم العربي في تاريخه القديم و يشهد في تاريخه المعاصر صراعات شتى وحروبا مختلفة الأسماء والمسببات. بعضها ضد/بسبب عدو خارجي ، أجنبي (أو غير أجنبي)، وبعضها داخلي على شكل حروب أهلية ونزاعات طائفية، عرقية أو دينية... واليوم تقدم المنطقة العربية، مشرقا ومغربا، قرابين بدون عد لحروب مشتعلة هنا وهناك استمرارا لنهج تاريخ كتبت أحرفه بالغزو والاحتلال ومناوشات الجيران على الحدود واقتتال داخلي لا يخمد فترة إلا ليندلع من جديد ... والرواية باعتبارها عالما يجسد الصراع والتناقض، ويمزج ما بين الواقعي والمتخيل، الممكن والمستحيل، المعقول والعجائبي، ويزاوج بين الذاتي والموضوعي، بين الحاضر والماضي، والمعيش والتاريخ... معنية بالحرب، ليس من باب تسجيل الوقائع ونقل الأحداث .. إذ ليس المطلوب من الروائي أن يعمل عمل المراسل الحربي، أو المراسل الصحفي أو كاتب اليوميات... بل من باب هزم الموت والانتصار للحياة والسخرية اللاذعة من العنف والدم، وتغليب لغة الفن على لغة الرصاص... ضمن هذا الملف: الحرب في الرواية العربية، أقدم دراسة عن رواية “حارث المياه” لهدى بركات، سأتبعها بدراسة أخرى عن رواية”ربيع حار” لسحر خليفة. • وهم اسمه بيروت. الوهم.. هو ما تستهل به هدى بركات روايتها”حارث المياه”، كأنما تهيئ قارئها لولوج منطقة رعب يختل فيها اليقين وتسقط القناعات والأقنعة تباعا أمام عواصف الشك والريبة، وتختلط أمامه الوقائع اليومية المألوفة بالفانتاستيك والعجائبي، قبل أن يتيه وهو يلاحق سرابا يطلع من بحر مترامي الأطراف لا يحده سوى الضياع والتشرد في أرض الله الواسعة. وهم اسمه بيروت، فُصل على مقاس مدينة تبدو جميلة كرؤيا سعيدة لمن ينظر إليها من بعيد. وهم لا فكاك منه، تنجذب صوبه والدة السارد/ الشخصية المركزية، كأنما بفعل قوى سحرية، غيبية، فتقطع رحلة نحو اليونان وتحكم على زوجها، تاجر القماش، بالانفصال عن شريكه والاستقرار في حضن هذا الوهم. رواية يشكك فيها السارد نفسه، مرتابا من حديث والدته، مدشنا سلسلة طويلة من الشك واختلال اليقين في أجواء حرب أهلية مدمرة لا قضية عادلة فيها ولا أبطال كاملين ولا نصر ولا هزيمة... في حرب بيروت، يفقد الإنسان يقينه وممتلكاته. بيته لم يعد له، وذاته انفصلت عنه. يقف وجها لوجه، أعزل، أمام فراغه السحيق وخوائه القاتل، يستغرب عصيان ردة الفعل وغياب الانفعال. حالة تبلد ذهني وعاطفي، ذهول سريالي يحول الإنسان حجرا. وحده الحلم ينقذه من هذه الغيبوبة، فيذكره بزقزقة العصافير وبأن هذه المخلوقات الجميلة حلقت ذات يوم مشرق في سماء بيروت. الحلم في”حارث المياه” لحظة فرج/فرح عابرة، هروب مؤقت من كابوس يعيد للذهن صفاءه وللشخصية المركزية مزاجها الرائق قبل أن تداهمها المنغصات وهي ترتطم بأكوام الرماد وبقايا القماش المحترق. • بطل عاد، أو بطل فوق العادة؟ البطل شخصية فوق العادة، يقعي على حجر ساعات طويلة لينتهي به تفكيره نهاية سعيدة وهو وسط دراما مأساوية. يطمئن على مستقبله ويؤمن بإمكانية استرجاع حياته الهادئة، كما في السابق، متغاضيا عما خسره في الحرب و عما أتت عليه سلسلة الحرائق... وعندما تتوقف المعارك في هدنة قصيرة، لا يخرج للتجول وسط البلد مثل سائر الناس الذين اندفعوا بكامل زينتهم للتنزه في الخراب. أجل خروجه من البيت وزهد في تفقد محل القماش إلى أن داهمته الحرب من جديد. بطل خبير بأنواع الثياب وتجارتها مثل أبيه، عاشق للنباتات والأشجار والأزهار، يحفظ أسماءها ومواسمها ويميز بين حلوها ومرها. يلاحقها وهي تينع وتنضج في أوج الحرب والدمار ويتساءل من أين أتت للأرض كل هذه الخصوبة؟ وهل قامت القذائف مقام المحراث ففلحت الأرض وهيأت للبذور أسباب الحياة؟ قبل أن يستدرك بسؤال آخر يعيده لفراغه وغيابه، صفتيه الأساسيتين، أم تراني كنت غائبا عن الوقت ساهيا عن جريانه منذ أن بدأت هذه الأحداث تتحول إلى حرب؟ لا يؤمن السارد بالحرب، أو لا يعترف بوقوعها. وتلك أعلى درجات السخرية اللاذعة من هذا الموت المجاني الزاحف بين الناس. يلاحق نباتاته وأزهاره ويمعن في الحديث عن أنواع الثياب بدل وصف أنهار الدماء وأكوام الجثث وأصوات الرصاص والقذائف. وعوض مواجهة المسلحين المنتشرين في الشوارع، يواجه كلابا مشردة يدخل معها في لعبة كر وفر طويلة تنتهي نهاية غريبة/سعيدة. فزعيم الكلاب الذي سد المنافذ في وجهه وتمكن منه أخيرا، لم يكن يريد قتله. كان فقط يبحث عن صديق، عن سيد يعوض سيده الذي مات. مع هذه النهاية المفاجئة، يسأل القارئ نفسه: هل هذه هي الحرب حقا؟ *زحل الكوكب القاسي. يتوغل السارد الرئيسي في دهاليز التاريخ وسراديب الأسطورة علهما تسعفانه في إعطاء تفسير لتلك الحروب والكوارث التي تعاقبت على بيروت وخلفت فيها موتا ودمارا شاملين. وينتهي توغله إلى أن الحرب والخراب هما قدر هذه المدينة التي خلقت تحت تأثير زحل، الكوكب القاسي. لذلك لم يخل تاريخها من غزو أو زلزال أو طاعون أو حرب أهلية. تاريخ كتب بالدم والأشلاء على جبين مدينة لا تتجدد دورة حياتها إلا بحرب أو موت عظيمين. عندما يتعب السارد من عبثية الحرب وهول التاريخ والأسطورة، يلوذ بذاكرته، يمتطي صهوتها ويسافر نحو متاهات زمنية بعيدة تنأى به عن العفونة والخوف والموت رغم أن قدميه تظلان غارقتين في ويلات الحرب دائما. يتذكر حبيبته شمسة في موقف حرج لا يستطيع الحب أن ينفذ لعتمته. يتذكرها وهو في مواجهة جثة فتاة تسمر أمامها وجلا بعد تيه شاق داخل نفق مظلم. *الخوف شوكة الحرب. تولد الحرب في نفسية السارد الرئيسي مستويات مختلفة من الخوف: - الخوف بالحدس، أو الخوف الفطري. - الخوف دون معرفة السبب، أو دون معرفة مصدر الخوف نفسه. - الرعب كدرجة قصوى للخوف. - التوهم. - الهلوسة. - الهذيان. - الإيمان بحتمية الموت والشك المطلق في الحياة. الخوف شعور ملازم للحرب، إحساس طبيعي يلازم السارد، فإذا غاب عنه، اندهش واستغرب وأحس كأن شيئا ما ينقصه. الخوف درجات ومراتب، إذا بلغ ذروته تماهى مع الهذيان والحمى وامتزاج الحقيقة بالوهم، فتطغى على ذهن الشخصية التخيلات والاستيهامات . قمة الخوف، هي انعدام الخوف ذاته. حالة تنتاب السارد كلما أيقن من موته الوشيك، إذ لا إحساس مع انتفاء الحياة. لكن الخوف ليس هو ذلك الشعور السلبي دائما. ليس تلك الهشاشة التي لا يحبها أحد. لأنه ينجي من المهالك أحيانا على رأي المثل: من خاف، نجا. فالسارد، وهو واقف لصق حائط ينتظر قتله رميا بالرصاص، يسقط من فزعه المفرط قبل أن تخترق النيران جسده، فتغطيه أجسام الآخرين، أو بالأحرى جثثهم، وينجو من الموت بمعجزة لا تليق سوى بنبي. معجزة اسمها الخوف فقط. *فضاء الرواية/فضاءات الحرب. تبني رواية”حارث المياه” فضاء دعائمه الخراب والانفجارات والتخفي والحذر... المكان متحول، متبدل باستمرار تعيد القذائف رسمه وهندسته بين عشية وضحاها، فيبدو غريبا في أعين أهله، ويتيه السارد في أزقة وأسواق وساحات كانت إلى وقت قريب حميمة ومألوفة لديه ويضطر لرسم علامات ومعالم حيث يمر ويطلق أسماء جديد على تلك الأمكنة. باختصار يرسم في رأسه خارطة جديدة للأماكن التي تبدلت وفقدت سالف معالمها. إنها الحرب، تدك ما كان قائما وتخلق غربة الكائن والمكان. في رواية مثل “حارث المياه” تكون الغلبة للأمكنة المغلقة على حساب الأمكنة المفتوحة. فالمدينة بكاملها تصبح فضاء مغلقا محاصرا بالخرائب والدبابات والموت والخوف مما يدفع الكائن البشري إلى التخفي في أمكنة أضيق وأكثر انغلاقا(غرف، دهاليز، أنفاق، متاريس...) أما الزمن فيفقد انسيابه الطبيعي ليدور في حركة لولبية لا اتجاه محدد لها، أو ليتوقف عن الحركة تماما استعدادا لانطلاقة سريعة، مدوية، يندفع خلالها بجنون جارفا ما/من حوله أو أمامه. زمن الحرب، زمن سيء لامحالة. لكن للحرب والكوارث أسرارها وعجائبها ومفارقاتها الساخرة. إذ تنتقي أجمل الأوقات وأبهاها لتندلع وتفعل فعلها الشنيع. قيل للطيارين الأمريكيين ألا يلقيا القنبلة الذرية إلا إذا كان الطقس مشرقا والسماء زرقاء لا تشوبها غيمة. ولم تغرق التيتانيك غرقها الشهير إلا لأن الطقس كان رائقا. يستغرق الإنسان في اللهو واثقا من استتباب النعمة.. إذاك يضربه ربه الضربة القاضية، يرفعه عاليا ويخبطه على الأرض. *بناء الشخصية: تبني هدى بركات شخصيات روايتها من طينة هؤلاء الناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. لكنهم لا ينسحبون من الذاكرة بسرعة، ولا يمضون دون أن يتركوا في أنفسنا أثرا ولو بسيطا.”نلتقيهم عرضا في هوامش نهاراتنا التي صرنا نجهد حتى لا تضطرب بالمفاجآت، حتى تنتظم على سلامة الضجر وأمانه، نلتقي كما تتقاطع القطارات، ونرى بعد أيام من رحيلهم أننا إنما احتفظنا بصور مهزوزة مرتجة الخطوط، واهمة”(هدى بركات، الجزء الثاني من برنامج:روافد، قناة العربية، 7/10/2005). تُبنى ملامح الشخصية المركزية وعلاماتها من مقولات الريبة والفراغ، إذ تعيش حياة تدور في دوامة من اللايقين والبحث الدائم عن الاستقرار والهدوء والحب والجمال في عالم يسوده الخراب والصراع والتحول المستمر... إنها تحرث المياه. إنها ذلك” الإنسان الجميل الذي يبني وهما، عالما جميلا مسورا بالخراب. يبني بيتا يداري به بؤسه ويموت بائسا، معتقدا أن في جمال الحرير ما يصد عن الأذى ويمنع عنه الموت” (فيصل دراج، هدى بركات: من تاريخ متداع إلى تاريخ لا وجود له، مجلة نزوى، عدد: 36، أكتوبر 2003). دوامة المآسي والهزات التي تتخبط فيها هذه الشخصية واهتزاز نفسيتها وتناقض مشاعرها.. هو ما حذا بالناقد المغربي محمد معتصم إلى الجزم بأن هدى بركات في هذه الرواية قد اعتمدت بناء نفسانيا للشخصية من خلال تركيزها على أفعالها وتصرفاتها وردات أفعالها.. وبواسطة ذلك كله تتحدد أفكارها وميولاتها وتتضح أهواؤها وتطلعاتها. (محمد معتصم، بناء الحكاية والشخصية في الخطاب الروائي النسائي العربي، دار الأمان، الطبعة 1، 2007). ولعل هذا البناء النفساني للشخصية هو الأنسب لرواية اختارت النبش والغوص في عبثية الحرب وغرائبية الموت وهلامية الشك والفراغ. *كلاب تحارب نيابة عن البشر. لا يواجه السارد مسلحين آدميين، ولا تطارده مليشيات أو عصابات، بل يواجه كلابا شرسة يقطع عواؤها الأوصال، تدير رؤوسها في كل الاتجاهات، تتشمم الهواء وتدافع بشراسة عن مناطق نفوذها المسورة بالبول والروائح. أمام ضعفه إزاءها، راح السارد يقنع نفسه بضرورة التعايش معها بلا مواجهات دامية. تؤنسن هدى بركات هذه المخلوقات الرهيبة، إلى درجة أن القارئ لا يكاد يميز بينها وبين المجموعات المسلحة من البشر. تقطع الشوارع، تصول فيها وتجول، تسد منافذ الهرب في وجه الخصوم، تخطط لهزمهم، تتقيد بالتعليمات الصارمة التي يصدرها القائد... بعد طول مطاردة، ومناورات وخطط، يتأكد السارد أن الحرب ضد الكلاب كانت مجرد وهم. فعندما يتمكن القائد/الكلب أخيرا من خصمه/السارد، يقف أمامه جامدا، يوسع له الطريق ويترك له فرصة النجاة والهرب. فلا يصدق ما تراه عيناه، ولا يأتي بفعل سوى أن يتخلى عن شخصيته ليتقمص شخصية الكلب. يذهب إليه وهو يعوي ملء حنجرته يريد إثارته. لكن الحيوان لا يرد، لا يتحرك. وفي الأخير يكتشف السارد وهو مأخوذ بالشك والذهول، أن هذا الحيوان الذي تربص به طويلا ولاحقه من شارع إلى آخر، وأرعبه، إنما كان يريد التقرب إليه ويلتمس صداقته لا غير. كان يريد سيدا ومعلما يشبه ذاك الذي اختفى يوما خلف السواتر. وكأن هدى بهذه الخلاصة تريد أن تقول لنا أن لا فرق بين الجلاد والضحية، فالحرب لا تخلف سوى الضحايا. فالجميع ضحايا خوف أو إيديولوجيا ... يدفعان للقتل دون مبرر “معقول”. أو كأنها تبطل جميع مبررات الحرب جازمة بألا شيء يدعو لقتل الآخر وألا ناموس يبيح سفك الدماء. *أزهار الحرب، حبها، وحريرها. يسهب السارد في الحديث عن النباتات والأزهار و الأشجار وأنواع الثمار المختلفة. يعدد أسماءها ويتذوقها ويجهد نفسه لجنيها والبحث عنها. بعضها ينمو في الشوارع والأرصفة والساحات، وبعضها الآخر في الحدائق والبيوت.. كائنات حية تصنع للحياة بهجة تفتقدها في زمن الموت الأعجف. تذكر الأحياء بأنهم ما زالوا على قيد الحياة حقا، وتذكر الموت بأن الحياة في بيروت ما زالت ممكنة. توازي هذا المحكي محكيات أخرى، أولها يأخذ موضوعه من تجارة القماش ونعومة الحرير وأصناف الثياب المختلفة، ويمتح ثانيها مادته من علاقة السارد بشمسة، ويعرج ثالثها على الذاكرة فيستنطق الأساطير والروايات التاريخية وحكايات الأب والأم والجد... محكيات تبين الغنى المعرفي للكاتبة و تغني الرواية، لكنها تربك السرد وتوقف تدفق الحدث في بعض المناسبات وتبعد القارئ عن الجو العام للرواية، خصوصا بالنسبة لقارئ لم يعتد هلامية المكان والزمن وتكسر السرد وتقطعه وكثرة الاسترجاعات... • في الختام. يسأل السارد أباه، أو بالأحرى نفسه: من قتلني يا أبي؟ مستبقا موته الذي لم يحن بعد، مخمنا تخمينا يصل مرتبة اليقين، بأنه لن يموت موتا طبيعيا. فالحرب لا تتيح للمرء نعمة تحضير النفس والحواس لاستقبال ملاك الموت بما يليق بهيبته وجلاله. في الحرب يموت الإنسان موتا فجائيا، مأساويا، بفعل رصاصة طائشة، أو لغم، أو قذيفة تطلقها بارجة، أو نيران مليشيا مسلحة... ينام السارد، وعندما يستيقظ من نومه/موته لا يرى أثرا لما سبق أن رآه قبل قليل. يغرق في بحر من الكراسي الفارغة ويحضر حفل غناء لم يتم ويبدأ دورة أخرى من حرث المياه... يراوح نفس المكان، ويجتر نفس العبث والعدم والشك. الحرب في الرواية العربية:2 1- كثافة الذاكرة: تشحذ سحر خليفة ذاكرتها، وذاكرة نساء حوش العطعوط في نابلس القديمة، وهي تزيح النقاب عن ويلات الحصار ومآسي الاجتياح الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية عقب انهيار اتفاقية أوسلو، نابشة كذلك في مذكرات رشيد هلال (المرافق الصحفي للمرحوم أبي عمار) متسللة إلى مقر الرئيس عرفاتبرام الله، ربيع 2002 وهو محاصر بالجنود والدبابات والوعيد، مانحة الحدث الروائي مرجعيته الواقعية وسنده التاريخي وقوته الموضوعية. لذا يجوز لي أن أنعت رواية "ربيع حار" بكونها رواية الذاكرة بامتياز، أو بكونها استعادة فنية لتجربة تاريخية أبت الكاتبة أن تتركها حكرا على المؤرخين والسياسيين والباحثين وحدهم. 2- شخصيات مرتبكة. أمام الحرب الطاحنة والموت المتربص في كل لحظة وفي كل شبر، تصارع شخوص الرواية عجزها الوجودي. تتجرع ترددها القاتل وتجتر تساؤلاتها المرة متمتمة في انكسار واضح: "هذا قدرنا"، "معزوفة موت ولازم نرقص". يربكها السؤال اللغز: ما العمل؟ الاستسلام المذل أم المقاومة؟ وحين تعدم الجواب المقنع وتستبد بها الحيرة، تذوب في جلدها خجلا وخوفا وتغرق في يأس مطبق يقودها للعدمية. فالشباب فقدوا الأمل في المستقبل وأصبحوا قنابل متحركة تتحدى الحصار الطويل الخانق وتقاوم الحواجز وحالة الطوارئ الصارمة وتردد : "أهناك أمل؟ أهناك مفر؟" لكن وسط هذا السواد تلوح بارقة أمل بين الفينة والأخرى، تجعل الحياة ممكنة. فهذا مجيد يحاول أن يحس بأنه " ما زال ابن الدنيا وهاوي الغناء والموسيقى". يبحث في ويلات الحصار عن الحفلات والمسابقات الغنائية والشهرة و" بعض الرفقة أو بعض الدفء"، لكنه يفشل، يغرق في الدم ويتنفس الدخان وينتبه إلى انقضاء صلاحية أمله القديم في أن يعيش للموسيقى والغناء. مجيد واحد من أبناء جيله الذين ولدوا وتربوا في الاحتلال، يقيم ألفة مع الموت. لا يفر ولا ينفر منه. خبر واقع الاحتلال وتناقضاته المرة: الثورة/الإذلال، الفداء/العمالة، النذالة والتجسس/التضحية بالنفس...تناقضات ومفارقات يختل معها العقل وتغمر النفس بأحاسيس غريبة. 3- هدوء ما قبل العاصفة: تعري رواية "ربيع حار" واقع حرب طويلة الأمد، وتنبش خبايا صراع أزلي يضرب بجذوره عميقا في التاريخ الفلسطيني ويحول المنطقة إلى بؤرة احتلال مرير يحفل بالدم والحصار والقصف والقتل والأسر والسجون والمطاردات والحواجز والإذلال... برومانسية سوداء تنتقي مشاهد إنسانية مؤلمة تفتح الجرح الفلسطيني على مصراعيه وبواسطتها تقدم مأساة الإنسان الفلسطيني المغلوب على أمره في أدق تفاصيلها عارية كما هي دون أصباغ ولا مجازات. وبسخرية لاذعة تبين اختلال ميزان القوة بين الجلاد والضحية. تصف الرواية بحسها المرهف وشاعريتها الرقيقة أجواء ما قبل الغزو الوشيك الموسوم بالتوجس والهواجس والأدعية ونصب المتاريس وتوقع الأسوأ. فهذه "نابلس تغرق في الصمت والتوجس"، والناس يسخرون من عجزهم عن صد الصواريخ والطائرات بأدواتهم البدائية وأسلحتهم البسيطة "أنت تقاتل الإف 16 بالمقليعة!!" هذا الاختلال في الموازين يولد تحولا جذريا في وسائل المقاومة ويفرض عليها تغيير سلاحها وخططها الحربية لمواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. فبالإضافة إلى الرصاص والديناميت يصبح الجسد الآدمي الحي وسيلة فتاكة للدفاع وإرباك العدو وإسقاط أكبر عدد من الضحايا في صفوفه. يكاد المحارب الفلسطيني في أجواء الاحتلال الرهيبة أن يفقد آدميته ويدنو من نمط حياة كائنات حية أخرى. فهو في الغابة يحيا مثل الخفافيش، يختبئ بالنهار ويتسلل بالليل. بعيد عن أسرته وأهله وأصدقائه، مختف في الجبال والأدغال يبحث عن "ذكرى سعيدة تجعله يحس أنه إنسان"(ص:157) يستعيد بها ماضيه الجميل. يكبح المقاتل، وهو في ذلك الوضع، رغبات الجسد والروح، فلا يستحم ولا يحلق ذقنه ولا يترك لمشاعره مجالا كي تنتصر وتسيطر عليه. فيتحاشى مجيد أي حديث عن صديقته لورا وهو يجري حوارا مع سعاد، مفضلا الحديث عن هموم الناس بدل الخوض في همومه الخاصة " أخبار الناس، إنسي لورا، أخبار الناس" (ص: 155). لكن سعاد لا تستسيغ هذا الموقف فتتساءل بدهشة وإنكار: " هل ينسى المرء عواطفه بكل سهولة؟" (ص:158). يسرح ببصره عنها ويصر على إبعاد لورا عن حديثهما. يصر على الابتعاد عن "نقطة ضعفه"، البقعة الرديئة في ذاكرته. تحول مجيد من شاب يهوى الحياة ويحب الغناء إلى مقاتل يطارده جنود الاحتلال وتطلبه السلطة الفلسطينية أيضا، وبهذا التحول الجذري تتغير مشاعره وتتبدل نظرته للحياة وللناس. فيرى علاقته السابقة بلورا مجرد "ولدنة وطيش شباب"، أي أنه صار يغلب هموم شعبه على همومه العاطفية وموضوعاته الشخصية، يقول:" هؤلاء الناس هم المساكين، وليست لورا."(ص: 161). يتسلح مجيد بالقسوة ليداري ضعفه وينتصر على الخوف والاستسلام. "لازم نكون زي الصخرة ما تزحزحها هبات الريح" (ص: 161). لكن طرفا آخر في الصف الفلسطيني، تمثله سعاد، ينتصر لنقيض هذه المعادلة. فهي تغلب المشاعر الإنسانية النبيلة وترفعها سلاحا يبدد ضجر الحرب ويخفف قسوتها وتؤمن بأن الحرب لا يجب أن تجردنا من آدميتنا ولا يجب أن تسم علاقاتنا بالجفاء. تهمس لمجيد بحزن:" هذا العدو مثل الآلة، وها نحن نصير مثل الآلة. أ هناك أمل؟" (ص:161). 4- هؤلاء الناس مثل الأيتام. لا يملك الفلسطيني في غمرة الحصار غير أسلحة خفيفة وبدائية، ومئونة ضئيلة " خبز وحبوب، وشاش وقطن ومطهر"(ص:175). المقاومون الذين يتصدون للدبابات والمدافع الثقيلة والطائرات، ويتهيئون لمجابهة الجنود الإسرائيليين المدججين بأحدث الأسلحة هم " شباب ببدلات رياضية وستر من جينز أو البالات، أحداث صغار، كهول كبار، وبعض الفتيات"(175). لكن برغم هذا التفوق في العتاد فالجندي الإسرائيلي "ليس مخيفا"، فتى في مقتبل العمر، غر قليل التجربة، وجهه ناعم "مثل وجه فتاة"(ص:180)، خائف ومرتبك عكس المقاتل الفلسطيني الذي خبر جميع الشدائد والمحن، بدءا من الوقوف الطويل أمام الحواجز والطوابير إلى المواجهات الدامية والمداهمات والمطاردات والاعتقالات، مرورا بالتنظيمات والمنشورات والملصقات... الحلم وحده هو ما يجعل النصر ممكنا أمام تفوق العدو وأمام الشعور المر بعبثية المقاومة وهشاشتها أحيانا " الفوضى وفقر التنظيم وشح التسليح والمعلومات"(ص:250). مقاومون معزولون عن بعضهم، كل في واد " كل واحد في مكانه يضرب ويموت"(ص: 250). وفي الأخير تنفذ آخر رغبة في المقاومة ويخبو آخر ما تبقى من أمل. يعجز العقل والفكر عن وصف هول الدمار وفهم قوة وبطش الغزو الرهيب "لا تعرف كيف تصفه وكيف تقاومه"(ص:251). آنذاك يصير الهرب أحسن وسيلة للدفاع عن النفس والنجاة. ماذا يحصل؟ يسأل أحمد مذهولا وهو يقف بين الجثث، وسط الأشلاء واللحم والدم وقد شلته الصدمة ومنعته من مزاولة مهمته في إسعاف الجرحى، قبل أن يفقد إحساسه وتتبلد مشاعره ويتحول إلى آلة محايدة، أو قطعة جماد لا حس لها. بل يصل به الأمر إلى فقدان الإيمان بوجود الله " فهؤلاء الناس مثل الأيتام بلا مأوى وبلا طعام وبلا إله يرعاهم" (ص:253)، ويسأل: "لماذا يا رب؟ أين عيونك"(ص:253). لحظات ضعف أو انهيار يمر بها المحارب الفلسطيني، تكاد تعصف بقدرته أو رغبته في المقاومة. الخوف يقوده للوهم ويغرقه في الخيالات والهلوسة، تضعف ذاكرته وتفتر شجاعته... فتراه ينتحب وتصطك أسنانه ولا يدري أ نائم هو أم ميت؟ ينشج ويغيب وعيه بالمكان والزمان، فلا الأصوات الصاخبة حوله ولا دوي الرشاشات ولا صراخ الجنود ولا هدير الطائرات يوقظ حسه ويعيد إليه توقده وانتباهه. لحظات ضعف وانهيار تكاد توحد بين أحمد الفلسطيني، رجل الإسعاف، وبين الجندي الإسرائيلي حديث السن، تجعلهما في وضع غريب، في شبه عناق اضطراري. يجمعهما بكاء ثنائي "الواحد منهما يشد بالآخر بشكل محموم متشنج ويبكيان بلا تحفظ، مثل البنات"(ص:187). شعور بالعبث والضياع. لكن ضياع الفلسطيني أدهى من ضياع الجندي الإسرائيلي. الأول يضيع لأتفه الأسباب، بسبب قطة وزريبة حيوانات مثلا، أو بدون سبب. فأحمد"اعتقلوه بسبب قطة"(ص:193) ورفعوه فوق دبابة درعا بشريا. 5- شهرزاد الفلسطينية. ينقذ الحكي والقصص شخصيات الرواية من وطأة الحياة اليومية الصعبة. يحررها من قيود المحتل وحصاره الطويل، سواء كان حكيا ذا مرجعية واقعية أو كان محض خيال. تنسحب الحاجة من حاضرها متسللة تحت جنح الذاكرة إلى أيام العز فرارا من واقع لا يعد بالمسرات. "تحكي قصصا لا تعرف إن كانت فعلا قد وقعت أم كانت تتمنى لو وقعت"(ص:204). لا فرق بين الحالتين، فالفلسطيني يلوذ بذاكرته أو بخياله كي ينسى أو يتناسى ألم الحاضر لأنهما سلاحه الضاري ومأواه الآمن وحضنه الدافئ. الذكرى في الحالة الفلسطينية مرادف للأحلام الجميلة. تعود الحاجة بذاكرتها لأيام الشباب والحب والغناء. تخلط بين الوهم والحقيقة وتثني من يصغي إليها عن مناقشتها أو التشكيك فيما تحكيه، بل تدفعه لطلب المزيد وتشده إليها مثلما يشد أي راو متمرس عموم مستمعيه. إنها "امرأة في الثمانينيات، أو ربما في التسعينيات، وما زالت تحن لماضيها، ماض مليء بالأحلام والخيالات والمسرة"(ص:206). حكي هذه الشخصية ليس مجرد استرجاع للماضي أو حنين إليه فقط، بل هو أكثر من ذلك، إدانة للحاضر من خلال مجابهته بما كان ومقارعته بالسنين الخوالي. الماضي هو الصيت والشهرة والاستقرار والحب والشباب. أما الحاضر فهو نقيض ذلك تماما، هو الخوف والتوجس والجوع والحصار والموت المتربص والشيخوخة... والمستقبل كائن مجهول" وهذا محزن، فعلا محزن"(ص:206). أما مجيد فيتحول في الجزء الثاني من الرواية من شخصية إلى سارد. يكتب يومياته ويسود مفكرته لينجو من الغيبوبة التي أصابته إثر سقوطه في هاوية سحيقة بسبب هربه من مطاردة إسرائيلية. يكتب ليحفظ ذاكرته من التلف والضياع. لكن هذه الذاكرة تصير عبئا ثقيلا عليه. يضيق بها ويتمنى لو عادت إليه الغيبوبة كي يرحل عن واقع مر بئيس لا يريد أن يتذكر منه شيئا. للحكي في هذه الرواية وظيفة تطهيرية. هو علاج نفسي لآلام ومصائب مستعصية: "احك، احك وفضفض لي وفش قلبك"(ص: 275). 6-الحرب والطبيعة. حين يشتد الحصار وتنقطع صلة الفلسطيني بالعالم الخارجي نتيجة سد الطرق والمعابر وقطع الأسلاك والتلفونات والماء والكهرباء والتلفزيون... تبرز الكلاب ككائنات مبشرة بإمكانية استمرار الحياة. أصداء نباحها تذكره بمحيطه وتكسر رتابة"سكون ينذر بالموت"(ص:225) قبل أن يبزغ فجر ماطر مصحوب بعواصف وضباب كثيف يجعل الناس مثل الأشباح تهيم في فضاء سحيق وكأن الطبيعة تمهد، بطقوس كآبتها الخاصة، لبدء توغل الدبابات والآلات الحربية الرهيبة والطائرات. لكن الصمت المريب المنذر بالموت ما زال مطبقا، صمت العالم هذه المرة، صمت الخارج لا صمت الداخل. تبدو الحرب في هذه الرواية وكأنها عنصر من عناصر الطبيعة، ونتيجة حتمية لتقلباتها وسننها. حرب تختار مواعدها بدقة متناهية متوحدة مع حركة الكون: فجر، ظلام، ليل، مطر، عواصف، ضباب... حرب مثل طلوع الشمس وأفولها، مثل تقلبات الظل وتغير الفصول. 7- أوضاع غريبة. تصف الرواية أوضاعا إنسانية تعكس، بسخريتها أحيانا وبقسوتها وصرامتها أحيانا أخرى، عبثية الحرب وهول الحصار. وإذا كنا قد رأينا شخصيات تهرب من واقعها المأساوي عبر الاحتماء بالذاكرة وركوب صهوة الحكي(الحجة)، فإن شخصيات أخرى تفر من واقعها عبر النوم في أوضاع غير عادية كأن ينام أحدهم وهو"مقرفص" أو يغرق آخر في سبات عميق أياما وليالي متواصلة دون أن توقظه أصوات القذائف ودوي الصواريخ وأزيز الرصاص وسباب الشباب(232). في الرواية أيضا شخصيات ألفت الحرب، فأصبح الرصاص والصواريخ والقصف من عاداتها اليومية وموضوعاتها الأليفة، مثل صوت الراديو وآذان الظهر ونشرة الأخبار في التلفزة "تسمعها فتنصت لدقائق أو لثوان ومن ثم تعود إلى عملك"(ص:246). 8- لغة صارمة، لغة ساخرة. تزاوج لغة الرواية بين العربية الفصحى والعامية الفلسطينية وبعض اللغات الأجنبية. بين لغة صارمة وأخرى ساخرة: " أخذوا المحروس فقاس البيض" (241). " شيء مذهل !! بسبب اليهود صار بني ادم ! " (243). " أمن السلطة حكومة سلطة ..." (245). " بات شعره طويلا منفوشا مثل ريش الديك (...) أما عيناه فعيون الضبع أفضل منها " (273). 9- غنائم الحرب. في غمرة الحصار والقصف ، وفي عز الغزو بدأ مجيد يستأنس بأجواء السلطة ومن فيها ،راح يحسب خطواته ويدنو من الساسة والقادة ويحسب للمنصب ( غنيمة الحرب ) ألف حساب . فالاقتراب من القائد، المحاصر في مقره، " يعني منصبا، يعني رتبة، يعني راتبا، يعني وكيلا لوزارة، ثم وزارة " (289) . وجد نفسه ينساق مع التيار ويتهافت على محطات التلفزيون بعد اللقاء المباشر الذي أجرته معه صديقته " لورا" للPBC . لبس بذلة الساسة بدل كاكي المحارب، وحمل القلم عوض السلاح ، يلوح به ويردد " ديموقراطية وهموم الشعب وإعادة هيكلة الحكومة" (289)، فصدق، هو نفسه، ما أدلى به من تصريحات جوفاء. يبحث الانتهازي الصاعد ، صنيعة الإعلام ، عن وسيلة يملأ بها خواءه السياسي وفقره المعرفي فيقرأ مقالات أبيه ويتصل به بهاتفه بالخلوي ليشرح له ما استعصى على فهمه البسيط. التلفزيون هو السلم الذي تسلق به مجيد الرتب والمناصب ، فبات يحلم بوزارة لأن الوزراء ليسوا أفضل منه. " فأنا بدخولي التلفزيون حققت إنجازا على كل صعيد. فشكلي مقبول ، وقولي معقول ، وعندي خبرة بفنون القتال أفادتني حين تدرجت ، ولدي أب يشرح ويفسر كل عسير، فلماذا لا أصلح لوزارة"(ص: 291). مع المنصب ، تموت القضية وتعلو المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، مصلحة الشعب. يعتنق المحارب القديم فلسفة انهزامية تجعل من الاستسلام حتمية لامناص منها إذ في نظره " كل الأشياء إلى آخر . كل الأشياء تذوي مع الوقت "( ص: 292) . كل الأشياء بما فيها الإنسان والتاريخ والقضية وهموم الشعب . يبدو مجيد ، ببذلته الأنيقة وربطة عنقه، وهو وسط الأنقاض وهياكل السيارات " مثل الزفة في مأتم ضخم" (ص: 351 ) . يبدو صورة شاذة أو نغمة نشاز ويبدو مكتبه الواسع بأثاثه الجديد وستائره وهواتفه وشاشته... جزيرة معزولة في محيط من الدماء والجثث . ترف وبذخ في زمن النكبة والبؤس والمخيم. ميلود بنباقي كاتب مغربي [email protected]