عشر سنوات بعد انتقال المُلك وانطلاق «مشروع الانتقال الديمقراطي» في المغرب لم تكن كافية، حسب أغلب الملاحظين، لإجراء تغييرات جوهرية في النظام المغربي. وبقدر ما كان سقف الاحتمالات عاليا مع انطلاق هذه المرحلة، استمرت الأوراش الكبرى تراوح مكانها مثل ورش الإصلاحات السياسية، إصلاح القضاء، موضوع الصحراء، التعليم، الصحة وغيرها. من جانب آخر، لا يمكن إنكار التحسن الذي تستشرفه الآن بعض القطاعات الاقتصادية والمجهودات المبذولة في مجال محاربة الفقر، العلاقة مع الهجرة وحقوق الإنسان. ورغم المآخذ التي سجلها منتقدو منجزات هذه المرحلة، تبقى نتائج هيئة الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية وبعض الأوراش الاجتماعية من مكاسب هذه المرحلة التي يجب تحصينها والتأسيس بها للمرحلة المقبلة وتلقيحها ضد التراجعات المحتملة باسم الأمن ومحاربة الإرهاب، وغيرها من التبريرات التي غالبا ما يوظفها أعداء الديمقراطية للانقلاب عليها. من جانب آخر، عرف هامش الحريات العامة وحرية التعبير تحسنا ملموسا، كما عرفت الصحافة المستقلة تطورا استثنائيا وطفرة غير مسبوقة جعلت منها الوجه الخارجي للمرحلة الجديدة والمؤشر الوحيد لوجود مشروع انتقال ديمقراطي في المغرب، بمعنى اقتران مصداقية الديمقراطية المغربية بمساحة الحرية التي فرضتها الصحافة المستقلة ودورها في ترويج صورة المغرب الجديد. أهمية الدور الذي تقوم به الصحافة المستقلة في تلميع صورة المغرب بدأ يصطدم وبوضوح مع خصوم الإصلاحات الحقيقية والعميقة، والذين يعتبرون أن هذه الصحافة قد تجاوزت كل الحدود والخطوط الحمراء، وأنها بقدر ما تفيد في ترويج صورة جميلة عن المغرب، فقد أصبحت تهدد مصالح ومواقع يرتبط استمرارها بعدم النبش في ملفات قد تعصف برؤوس البعض، وهو ما يعتبره هؤلاء تهديدا للاستقرار، الأمن واستمرارية النظام، رغم أن كل المؤشرات تؤكد أن الأمر يتعلق باستقرارهم وبأمنهم وباستمرارهم، وأن استمرار النظام يرتبط أساسا بالإصلاحات التي يخافونها وبصورة الاستقرار التي تنقلها مثل هذه الصحافة -بما لها وبما عليها سواء للمواطن المغربي أو للرأي العام الدولي. أصدقاء الإصلاح والحداثة ينقسمون بدورهم إلى مؤيدين لهذه الصحافة ومدافعين عن دورها الريادي في الانتقالات الديمقراطية، وخصوم يعتبرونها صحافة رصيف جديدة، صحافة تفتقر إلى المهنية والاحترافية، وصحافة غير مسؤولة تهدد مكاسب المرحلة بخوضها لمواضيع لم يحن بعد وقتها، أو بتناولها للطابوهات والمقدسات بشكل يُفقد الدولة هيبتها وقوة ردعها. خصوم هذه الصحافة من الديمقراطيين يَعيبون عليها كذلك تعرضها للأشخاص وتعاملها مع الإشاعات دون أدلة أو تحقيق صحفي ولا أي رادع أخلاقي، متسببة في أضرار تفرض المساءلة والمتابعة القضائية، وخصوصا حين يتعلق الأمر بسمعة أشخاص يتحملون مسؤوليات عمومية. لست من دعاة التأييد اللامشروط للصحافة المستقلة كما أنني أرى في تبريرات خصومها للهجمة التي تتعرض لها كلام حق يراد به باطل، فالمطالبة بالمزيد من النضج في التعامل مع هذه المهنة واحترام الحريات الفردية وتحاشي نشر الأخبار الكاذبة التي تهدف، قبل الحقيقة، إلى الإيذاء أو الانتقام، يجب أن تسود وتطبق على الجميع بما فيهم مؤسسات الدولة ومسؤوليها، وأن حصانة البعض لا يمكن أن تكون امتيازا لهم للنيل من الآخرين، كما لا يمكن للقضاء أن يكون سلاحا لتلجيم وتكميم الأفواه وإقفال الجرائد بعد دفعها إلى الإفلاس. على القضاء أن يكون حريصا على تطبيق القانون، سواء تعلق الأمر بمدير جريدة يحمل حقيبة وزارية ومدير أخرى لا يحمل سوى حقيبة المهنة والغيرة على هذا الوطن، بمعنى أن القضاء لا يمكنه أن يتحول إلى وسيلة ردع بقدر ما هو مؤسسة لإصدار الأحكام وإحقاق العدالة، كما لا يمكن للعدالة أن تكيل بمكيالين في المتابعة وإصدار الأحكام حفاظا على مصداقية دورها واستقلاليتها. وعودة إلى موضوع جريدة «المساء»، نجد أن الأمر يتعلق بتغطية صحفية لحدث اجتماعي شديد الحساسية، وأن مدير الجريدة أشار في عموده اليومي إلى مسؤوليات وتجاوزات في سلك القضاء دون أن يسمي أسماء بعينها أو أن يوجه تهما إلى أشخاص بعينهم، وأن إشارته لم تتعد المجاز والإحالة والأسلوب الساخر الذي يميز هذا العمود. النتيجة أن أصحاب الحق المفترضين لجؤوا إلى القضاء وطالبوا بتعويضات خيالية لما تعرضت له سمعتهم من أضرار، والقضاء باشر الموضوع بسرعة فائقة وأصدر حكمه الابتدائي في وقت قياسي وحدد التعويضات في 600 مليون سنتيم لمجموع المتضررين. يبدو من الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بآلية تشتغل أوتوماتيكيا بمجرد أن تُرتكب جريمة أو جنحة أو أن يلجأ متضرر ما إلى المؤسسة المعنية طلبا للإنصاف، لكن واقع الحال وكل الحالات التي سبقت تؤكد، عكس ذلك، أن الأمر يتعلق بجريدة أصبحت مزعجة لبعض الجهات، وأن جرائد أخرى تعرضت لنفس السيناريو، بعضها أقفل والبعض أفلس والبعض الآخر هاجر، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. من جانب آخر نجد تظلمات أخرى لأشخاص أو مؤسسات تعرضت للشتم والقذف المباشر والاتهامات الخطيرة والتشويه المتعمد لسمعة الأشخاص، ولكون المتظلم مواطنا عاديا والمعتدي من «علية القوم» (وزراء، ولاة أو زعماء أحزاب) لم تجد هذه التظلمات طريقا لتفعيل المساطر وكان مصيرها الأرشيف أو في أحسن الأحوال الانتظار في رفوف المجلس الأعلى للقضاء. يحضرني، وأنا أتابع محاكمة جريدة «المساء»، موضوع الدعوى التي رفعها المواطن كاتب هذه المقالة ضد وزير البيئة سابقا والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي سابقا محمد اليازغي، بعد أن نشرت جريدة حزبه، حين كان مديرا مسؤولا عنها، مقالا بدون توقيع يحمل من السب والقذف والتهم في شخصي ما يندى له الجبين، وكذلك في حق جمعية العمال والمهاجرين المغاربة في إسبانيا (أتيمي)، وكان العائق الأول أمام المتظلمين في هذه الحالة الحصانة التي يتمتع بها السيد الوزير، والاضطرار إلى رفع القضية أمام أنظار المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 18 شتنبر 2006 والتماس إحالة الملف على الغرفة الجنائية لإجراء التحقيق، وفي 29 نونبر من 2006، توصل دفاعي بكتاب من الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى، يخبره فيه بأن شكايتنا قد أحيلت على السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء تحت عدد 06/2551. وبعد أن استمع إلي هذا الأخير، أحيلت المسطرة من جديد إلى المجلس الأعلى بتاريخ 5/2/2007 تحت عدد 4174س06، ومنذ ذلك التاريخ والمتظلم ينتظر جوابا أو ردا نهائيا دون طائل، والخلاصة الأولى أن الملف يقبع في ثلاجة المجلس ما يقارب ثلاث سنوات، مادام الأمر يتعلق بكرامة ومصالح مواطن عادي في مواجهة وزير دولة، وما دام الأمر لا يتعلق بجريدة مزعجة وصحافيين محترفين ومهنيين يتحلون بكل الشجاعة لفضح خروقات الأقوياء وإسماع صوت الضعفاء. الأمر لا يتعلق، إذن، بجريدة كالمساء وبالتالي يمكن للملف أن ينتظر أو أن يحتضر في رفوف ودهاليز العدالة. والخلاصة الثانية أن ملف «المساء» يتعلق بتصفية حسابات مع جريدة لم تستطع جهات معنية ونافذة إغراءها وتلجيمها وقررت إغراقها، والنتيجة أن لا عدالة ولا استقلالية القضاء ولا هم يحزنون، وأن الأمر يتعلق بتوجيهات سياسية وقرارات ردعية، وفي هذا أيضا تسود سياسة الكيل بمكيالين.