أذكر متى قرأت هذه العبارة «الأصل في الأشياء الظل». أحد مؤلفات شيوخ الصوفية الكبار، إذا لم تخن الذاكرة، فهو ابن عطاء الله السكندري في حكمه الشهيرة، كان ذلك في مقتبل عمري، ومنذ ذلك الحين انشغلت بأمر الظل، وصرت أتساءل حائرا، كيف يمكن للظل أن يكون أصلا. صرت أتتبع ما كتب عنه في القواميس وفي كتب الأدب، وأمر بلحظات أطيل فيها التأمل، خاصة عند وقوع الأحداث الكونية الكبرى، مثل كسوف الشمس، ورؤيتي ظل الأرض على القمر عند خسوفه، ظل الأرض يعني صدى أصلها، عندئذ أفكر: إنني موجود، متضمن بشكل ما في هذا الظل الذي يشعرنا ويدلنا على دورة الفلك التي لا نرى إلا أعراضها اليومية ونكاد لا ندركها في خضم مشاغلنا اليومية الصغيرة، فما أذكره أيضا قول الشيخ الأكبر ابن عربي في الفتوحات المكية، هذه الموسوعة التي أشبهها بالمجرة الفكرية التي لم تكتشف بعد، لا للدارسين المتخصصين، ولا القراء العاديين، ما تزال مضامينها كنوزا لم تجد من يفضها بعد. يقول الشيخ الأكبر: «وفي وقت الاستواء يغيب ظلك فيك، وظل حقيقتك» ويقول في موضع آخر: «وفي الاستواء، أعني استواء الشمس في قبة الفلك على رأس الرجل سر لا ينكشف ولا نودعه كتابا، وهو موجود في قوله تعالى «ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا»، والشمس وجود الحق، والظل الدنيا». ثم يقول: «إذا أحاطت الأنوار بالشخص اندرج ظله فيه، وانقبض إليه كما قال سبحانه (قبضا يسيرا) حين جعل الشمس على مد الظل دليلا، ظلك لا يلحقك إن أدبرت عنه متوجها إلى الشمس، وأنت لا تلحقه إن أقبلت عليه، وأعرضت عن الشمس، والذي حصل لك فيه في الإقبال هو الذي حصل لك فيه في الإدبار، وفي إعراضك عن الشمس الخسران المبين، هذا مثل مضروب ضربه لك الحق في نفسك، تقول لك الشمس: أنا، فإني النور والكون ظلك وما فيك منه ما قدر لك سواء أعرضت عن الكون أو أقبلت عليه، فلا تخسر..». طوال سنوات وأمر الظل يشغلني، لم أجد بحثا عنه، أو كتابا يتناول الظاهرة والمعنى في حدود ما قرأت، إلى أن أخبرني الصديق الشاعر عبد الله الوشمي أثناء زيارتي الأخيرة للرياض بوجود كتاب لباحثة أكاديمية مقتدرة عن الظل. عندئذ رحت أوصي كل من يقابلني بحاجتي إليه، خاصة أنني لم أعثر عليه في معرض الرياض للكتاب، تولى صديقي الأستاذ الدكتور محيي الدين محسب الأمر، هكذا فوجئت قبل سفري إلى دولة الإمارات بسويعات عند دخولي الغرفة بنسخة من كتاب الدكتورة فاطمة عبد الله الوهيبي «الظل، أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية» في مظروف أرسله إلي الدكتور محسب. عادة أصحب في ترحالي عددا من الكتب لا أطمئن ولا أستقر إلا بقربها مني، توقفت عن إتمام ما بدأته منها، وبدأت على الفور قراءة الظل لفاطمة الوهيبي، ينتمي البحث إلى المدرسة الظاهرانية التي لفت نظري إليها الدكتور سعيد توفيق، وإليها تنتمي مؤلفات جاستون باشلار الرائعة عن الماء والأحلام والمكان والنار، وفي اللغة العربية يوجد بحث رائع، لا صنو له، عن (المرآة) للدكتور محمود رجب رحمه الله، كتاب فاطمة الوهيبي مفاجأة بعمقه وإحاطته الشاملة بالموضوع، ودقتها في الكتابة، والوقوف على كافة المراجع، وجسارتها الفكرية، وأتمنى صدور طبعة منه في القاهرة في سلسلة شعبية، وأقترح على الصديق الفنان الدكتور أحمد نوار إصداره في مطبوعات هيئة قصور الثقافة، ولا أظن أن مؤلفته التي لم ألتق بها شخصيا ستمانع، الدراسة اكتشاف، ولو أني لم أعد من الرياض إلا بهذا الكتاب لكفاني! عن «أخبار الأدب»