بدأت مفاوضات مانهاست تأخذ شكلا روتينيا، لم تعد حدثا، مادامت أطرافها لم تحرز تقدما في المباحثات الرامية إلى إيجاد حل لنزاع عمر لعقود... الوفود جميعها تحزم حقائبها وتتوجه إلى ضواحي نيويورك وهي تعرف أن لا حل في الأفق، وأن ثلوج النزاع غير مرشحة للذوبان، مادامت حرارة التطبيع بين المغرب والجزائر لم تصل إلى الشرايين المتصلبة للجارين منذ الستينات... في لقاء غير رسمي، حكى لي دبلوماسي مغربي كبير، قصة حوار جرى بينه وبين مسؤول حكومي جزائري في جلسة شاي ودية بعيدة عن البرتوكول والرسميات.. سأل المسؤول الجزائري نظيره المغربي: «مقترحكم للحكم الذاتي في الصحراء سيخلق مشاكل كبيرة لنا في الجزائر وفي المنطقة.. غدا سيطالب آخرون في القبايل أو في الشرق أو في الجنوب بنفس الشيء... وربما عندكم كذلك في الريف أو الأطلس.. رد المسؤول المغربي بالقول: إذا كنتم تخشون مجرد الحكم الذاتي، أفلا تخيفكم دولة مصطنعة في الصحراء؟!»... هذه الحكاية، ووقائع أخرى كثيرة، تكشف أن الجارة الجزائر تجاوزت في العمق الدعوة إلى تشكيل دولة صحراوية على حدودها، لكنها في المقابل تريد شيئين للخروج من ورطة دعم البوليساريو، أولا، تريد معبرا نحو الأطلسي.. معبر كان الاستعمار الفرنسي قد خطط له أيام كان يعتبر الجزائر قطعة فرنسية ما وراء البحر، وهذا الحلم الاستعماري الفرنسي عاد إلى أذهان الثوار الجزائريين وهم يفكرون في طريقة قاسية للانتقام من هزيمتهم في حرب الرمال سنة 63، ثم تحول الانتقام إلى مخطط جيوستراتيجي يقضي بإضعاف الجار لكي تلعب الجزائر الدور الكبير في المنطقة لحساب المعسكر الشرقي، الذي كان في صراع مع المعسكر الغربي، الذي كان المغرب محسوبا عليه. ثم، ثالثا، لما انهار جدار برلين وتحول العالم كله إلى قطب واحد، لم تكن الجزائر مهيأة داخليا للتخلص من ميراث الحرب الباردة، وفي مقدمة هذا الميراث نزاع الصحراء.. دخلت البلاد إلى حرب أهلية طاحنة بعد تجربة ديمقراطية حملت الإسلاميين إلى المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لسنة 92. تعقدت علاقة الرباطوالجزائر، وانهارت صورة ذلك البلد الثوري الذي يسعى إلى التصنيع وإلى قيادة حركات التحرر في العالم، وإلى رسم نموذج في العالم الثالث لبلد يؤسس تقدمه على قيمه الثورية... كشفت الحرب الأهلية فداحة إدارة العسكر للسياسة والاقتصاد، وعمق جروح الهوية التي لم تندمل رغم عقود من الاستقلال، ورغم شعارات التعريب، ورغم شعبوية هواري بومديان. أصبح كل تنازل للجيش الجزائري عن دعم جبهة البوليساريو معناه أن أسس النظام في خطر. زاد التصلب والعناد، ولما استدعي عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الدولة التي عاشت أزمة شرعية خانقة، جاء حاملا معه مواريث الماضي وفي مقدمتها حساسيته المفرطة من المغرب... ولما كان أول العارفين باستحالة تأسيس دولة في الصحراء وفصل المغرب عن عمقه الإفريقي، أرسل رسالة إلى كوفي عنان يعرض فيها تقسيم الصحراء، وفي ذهنه سابقة اقتسام المغرب لجزء من الصحراء مع موريتانيا... والقصة وقفت هنا.. ويحتاج النزاع إلى معجزة لتجاوز هذه العقدة. الجانب الآخر من استمرار النزاع، هو أن جبهة البوليساريو لم تقتنع بعد أو لم تثق بالمشروع المغربي، وتخاف إن هي فرطت في الدعم الجزائري أن تصبح معلقة في الهواء، وربما ضحية انتقام الجيش الذي استضاف الجبهة لعقود وصرف على دعمها المباشر وغير المباشر مليارات الدولارات... النزاع مازال مرشحا لمزيد من الوقت، ومشروع الحكم الذاتي أداة جيدة لإدارة الصراع، لكن دون أوهام...