[email protected] ينطلق اليوم، وباللغة العربية، بث فضائية إخبارية جديدة تابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (البي. بي. سي.). والواقع أن هذه ليست الانطلاقة الأولى للقناة، فقد سبق للهيئة أن أطلقتها في منتصف تسعينيات القرن الماضي بتعاون مع شبكة «أوربت» (السعودية- الأمريكية)، إلا أنها سرعان ما وجدت نفسها مضطرة لإغلاقها بعد بثها لتقرير عن أحد أبرز المعارضين السعوديين؛ وقد شكّل العاملون بها عماد القناة التي أطلقتها قطر في نوفمبر 1996 تحت اسم «الجزيرة» (مازال قدماء القناة البريطانية يمثلون علامات بارزة بهذه الأخيرة إلى اليوم). كانت باقة «أوربت» أول باقة رقمية يتم إطلاقها في العالم، اعتمادا على نظام ضغط رقمي «طليعي» في وقته هو الmpeg 1.5 ، (سرعان ما سيتم تجاوزه إلى نظام mpeg2 الذي يجري به العمل حاليا، ثم إلى نظام mpeg4 أو نظام «الدقة العالية» كما يطلق عليه في الأوساط الإعلامية)، وكانت تجربة «البي بي سي» العربية ضمنها أول تجربة لفتح نوافذ تلفزيونية إخبارية أمام المشاهد العربي بعيدة عن إعلام السلطة الجامد والمتكلس. إلا أن الأمر لا يتعلق بكل المشاهدين العرب وإنما بمشاهد عربي خاص، هو المشاهد القادر على الدفع، حيث كان جهاز استقبال باقة «أوربيت» يكلف في بداياته الأولى حوالي عشرة آلاف دولار (أي عشرة ملايين سنتيم بحساب دولار ذلك الوقت) يضاف إليها اشتراك سنوي لا يقل عن ألف دولار (مليون سنتيم). وهو غلاء يمكن تفسيره، حسب مالكي الباقة من السعوديين والأمريكان، بالكلفة المرتفعة لتصنيع أجهزة الاستقبال الرقمي لأول مرة في العالم، ومن هنا اختيارهم للعينة الوحيدة في العالم القادرة على دفع أي مبلغ مقابل استقبال صور فضائية «غير مراقبة»، وهي عينة أثرياء البترودولار (كانت الباقة تعيد فعلا بث قنوات خاصة بالراشدين بعد تأجيرها من باقة «كنال ساتليت» الفرنسية). ومع ذلك وجدت «البي بي سي» العربية نفسها مضطرة للتوقف إثر ما اعتبرته السلطات السعودية تدخلا في «شؤونها الخاصة». ولعل هذا الموقف هو الذي شجع الجهات الراغبة في «إصلاح» الأنظمة السياسية بالخليج على إطلاق قناة «الجزيرة» التي نظر إليها المهتمون باعتبارها استمرارا للتجربة البريطانية انطلاقا من الجزيرة العربية ذاتها وليس من الجزر البريطانية، اعتمادا على الطاقم الصحافي المتمرس ذاته، الذي تكونت نواته من «قدماء البي بي سي». إلا أن الظهور الجديد للفضائية البريطانية اليوم يختلف كثيرا عن ظهوره أول مرة، لقد «جرت مياه كثيرة تحت النهر» منذ ذلك الحين، وصار المشاهد العربي يستقبل فضائيات إخبارية (عربية وأجنبية) كثيرة، مما يجعل القناة الجديدة أمام منافسة حقيقية ويطرح، في الوقت نفسه، تساؤلا حول الأسباب التي دفعت وزارة الخارجية البريطانية إلى إطلاقها في هذا الوقت بالذات، وبميزانية سنوية متواضعة لا تتجاوز خمسين مليون دولار؟ وبصرف النظر عن بعض الأحاديث الصحافية المتداولة خلال الأسبوع الماضي على لسان مدير «الخدمة الدولية» لهيئة الإذاعة البريطانية، والتي تقول إن الهدف من إطلاق القناة الإخبارية الجديدة هو إيصال أخبار «منصفة ومستقلة ومحايدة» إلى المشاهد العربي؛ فإن الأسباب الفعلية لإطلاق القناة قد تكون هي تحسين صورة بريطانيا التي تدهورت كثيرا في العالم العربي خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة بالخصوص، وإضفاء نوع من المصداقية على السياسة الخارجية البريطانية في العالم العربي. أي نفس المبدأ الذي تحكم في ظهور فضائيات إخبارية أجنبية أخرى ناطقة باللغة العربية مثل «الحرة» الأمريكيةو»روسيا اليوم» (الروسية) و«العالم» (الإيرانية) و«فرنسا 24» (قبل أن يقرر الرئيس الفرنسي الجديد إيقافها)، كما تحكم في خدمات بث أخرى لقنوات عمومية أوروبية (إيطاليا وهولندا، مثلا). والحقيقة أن ما يتيح الفرصة أكثر أمام هذه الفضائيات الإخبارية الأجنبية هو التخلف الشديد للإعلام العمومي العربي الذي، بدل أن يطور نفسه ويسعى إلى جذب المشاهد وكسب مصداقيته، ينشغل بشيء واحد هو تقنين المنع وحجب الأخبار وممارسة الوصاية على المشاهد العربي الذي يعتبره وزراء الإعلام العرب (في وثيقتهم الأخيرة، مثلا) مجرد رضيع لم يصل بعد سن الفطام.