صدر مؤخرا عن الناشر (KrTU) كتاب «حوارات بدون حدود» الذي يضم محاضرة للكاتب الإسباني خوان غويتيصولو مترجمة إلى أربع لغات هي العربية والكاطالانية والإنجليزية والفرنسية. وكان الكاتب قد ألقى هذه المحاضرة بالإسبانية في خزانة الكتب (كاطالونيا) يوم 28 نونبر 2006. وندرج في ما يلي الترجمة العربية التي أنجزها الناقد والمترجم المغربي إبراهيم الخطيب. نحن نعيش في عالم حدوده قاسية رُسمت غالبا بواسطة الدماء، وهوياته ثابتة تعتمد التهميش والإقصاء، حيث يصير الذين لا يقبلون بذلك هدفا للشك والنوايا الفاسدة الشريرة. فما معنى أن يقال «قشتالي في كطالونيا، مفرنس في إسبانيا، إسباني في فرنسا، «هسبانو» في أمريكا الشمالية، نصراني في المغرب، و«مورو» في كل مكان» كما وصفت نفسي، منذ عشرين سنة، على صفحات كتابي «الحِمى الممنوع»؟ إن الطروحات المتسلطة، أحادية المعنى، التي تُرسم حدودها دوما بواسطة المسطرة والفرجار -سواء كانت طروحات قومية أو لسانية أو سوسيولوجية، إنما تقودنا، نحن الذين لا نندرج فيها، إلى أرض مشاع حيث يصير التعقيد نشازا والفضول إزاء الغرابة شذوذا ينبغي الحيلولة دون انتشاره. عليك أن تكون إسبانيا، أو فرنسيا، أو تشيكيا، أو هولنديا، أو كطلانيا، أو باسكيا، أو منتميا إلى قومية محددة دون غيرها، وإلا وجب عليك أن تنصب خيمتك خارج أسوار الحصن الهوياتي. ليست هذه الهويات الجماعية، التي «قاومت آلاف السنين»، حسب عبارة ( أميريكو كاسطرو)، إلا نتاج قراءات مبتسرة للماضي داخلتها تزييفات مغرضة وأساطير بالغة الغنى، مثل أسطورتي الرسول سانتياغو والأحد عشر ألف عذراء. فإذا كانت الثقافة المتقدمة محصلة المؤثرات الخارجية التي تلقتها وتمثلتها على امتداد تاريخها، فإن ما يدعى علامات الهوية الفردية لا تكون بدورها إلا مهجنة، متغايرة، متحولة، أي ثمرة تناقضات محايثة للشخصية الإنسانية ولتشاجرها المتعدد مع التاريخ والمجتمع. تعود حساسيتي إزاء المدافعين عن هوية جماعية مفترضة تحدد، مسبقا، مصير الفرد منذ ولادته، ماحية بذلك كل حرية في الاختيار والتعبير، إلى ماض موغل في البعد. ففي طفولتي التي تلت الحرب الأهلية تمّ تلقيني أصول القومية الكاثوليكية باعتبار «الوطن وحدة مصير كونية». لم يكن بالإمكان حينئذ أن تكون إسبانيا دون أن تكون كاثوليكيا، لذا عندما لم أعد كاثوليكيا تحررتُ من السجن الهوياتي الوطني والقومي تبعا لذلك. هكذا، وبجدع الأنف، توالى انفتاحي على ثقافات ولغات أخرى، أي على تنوع العالم وعلى تناقضاته الاجتماعية والخلقية والجمالية المستحثة. تعلمتُ النظر إلى ثقافة شبه الجزيرة على ضوء ثقافات أخرى، والنظر إلى لغتي على ضوء لغات أخرى. ولقد كلفتني مهمة الانفلات من غراء القومية الكاثوليكية وأفقها التاريخي مشاقّ عانيتُ منها عدة سنين. لم يكن العرف الأدبي الرسمي، الذي لا زال مداه متواصلا إلى اليوم رغم بعض التعديلات والتنقيحات، ليلائم تماما ذلك العرف الذي وضعته لنفسي وحيدا، ودون عجلة، بفضل شراهة فضولي كقارئ. هكذا انضاف إلى تأثير كبار الروائيين والشعراء الأوروبيين، وإلى مُقامي طيلة عقود في حي «سانتيي» الباريسي متعدد الأعراق، وإلى تدريسي في عدة جامعات بأمريكا الشمالية، اقترابي، وقد ذرّفتُ على الثلاثين، من بلدان المغرب أولا ثم من تركيا عقب ذلك. إن حرصي على عبور الحدود الذي يعتبره الكثيرون شاذا ووخيما -أتذكر دوما ذلك السؤال «التفتيشي» الذي كان مستجوبيَّ يطرحونه علي: إلى ماذا يعود اهتمامك المفرط بالعالم العربي؟ وقد صيغ السؤال بطريقة تتغيا استنباط أسباب غير قابلة للبوح- لم يكن يلبي فقط ضرورة تخلصي من قهر علامات هويتي، وإنما يستجيب أيضا لإرادتي في أن أوفر لنفسي حياة غنية بالتجارب وأحيط قدر المستطاع بمكتبة بابل الكونية. هكذا دلني سربانطيس، الذي لا يزال موضع توجس من طرف بعض المتخصصين، على الطريق السوي: فقد كان بدوره شاذا في عالم عصره، حيث أطلق على نفسه صفة مبتكر نادر، مستبقا بذلك الذين استهدفوا فرادته غريبة الأطوار. المجتمع الكطلاني أجد نفسي هنا مضطرا إلى الدخول في مجال شخصي محض: هو مجال محيطي العائلي اللصيق. في مجتمع مزدوج اللغة عمليا مثلما هو المجتمع الكطلاني أمس واليوم، تمّ تشطيب اللغة الكطلانية بواسطة مكنسة عقب انتصار فرانكو. ففي منزلي، وفي المدرسة، وبين أصدقاء الطفولة والمراهقة، كانت لغة (جول) ملغاة. كان جداي من جهة أمي يتواصلان باللغة الكطلانية على انفراد، لكنهما كانا يوجهان حديثهما إليّ وإلى إخوتي باللغة القشتالية. ولقد رافق ذلك الإخفاءَ المتعمدَ، الذي ورثناه، للغة الحديث، إضمارٌ آخر أكثر عمقا ودلالة: يتعلق الأمر بظروف مصرع أمي الذي كان ينسب إلى «الحُمر» بصورة غامضة، مع أن مسؤوليته ترجع إلى المذبحة الناتجة عن قصف الطيران الفرانكوي لبرشلونة يوم 17 مارس 1938. فإبان منفاي الفرنسي، وحينما كنتُ أتفحص صحبة (فريدريك روسيف) الوثائق المصورة التي كان سيستعملها في تركيب فيلمه «الموت في مدريد»، واجهت لأول مرة مشاهد ذلك الهجوم الجوي العنيف على مركز المدينة من خلال شريط أنباء مصورة أنجز لحساب الحكومة المحلية (جينراليتات)، وتأملت المدى الحقيقي لما حصل. في ذلك الوقت كنت أكتب في الصحافة اليسارية الفرنسية باسم مستعار، وأعمل «رفيق سفر» لحزب شيوعي قابع في سراديب السرية. خلافا لفرع أبي، سليل دهاقنة السكر الباسكيين الكوبيين، كانت عائلة أمي تنتمي إلى برجوازية مثقفة، متعددة اللغات. لقد كتبتُ في مناسبات عدة عن شقيق جدتي من جهة أمي (رامون بيبيس باسطور) الذي أثرت ترجمته إلى اللغة الكطلانية ل«رباعيات» عمر الخيام ولاشك على تحرري من القمع المذهبي الديني. ويبدو لي أن تلك الترجمة، التي أنجزت انطلاقا من الإنجليزية والفرنسية، كانت موفقة حيث نقلتها بدوري إلى اللغة الإسبانية ضمن ردودي على كراسة (أوريانا فلاتشي) «السعار والنخوة»، وذلك حينما قابلتْ، في هجومها على التعصب الإسلاموي، بين (دانتي) -وهو شاعر عبقري، دون ريب، لكن رؤيته للجحيم محدودة الشفقة، إذا شئنا التعبير بلباقة- والشاعر الفارسي الكبير الذي نتعرف فيه على نفوسنا، نحن العديد من قراء اليوم، بفضل ماديته البهيجة وارتيابه الديني. لقد كان (رامون بيبيس باسطور) معاديا للبرجوازية، متمردا، نصيرا للكيان الكطلاني، قضى نحبه بسبب داء السل سنوات قبل ميلادي، كما كان مؤلف دواوين شعرية ذم فيها مواطنيه. لقد أعدت قراءة ذلك كله بعمق فيما بعد، أي في الفترة التي كنت أكتب فيها، وأنا بباريس، «علامات هوية»، محاولا في كتابي هذا إدراج ما ضاع من ميراث أمي، وذلك بواسطة قراءة مواظبة للغتها، وهي القراءة التي مكنتني من الوصول إلى شعراء من مستوى (فويكس) و(بالاو إي فابري) و(إسبريو)، والمساهمة في إنجاز الطبعة الفرنسية لروايات (جوان ساليس) و(ميرسي رودوريدا). بيد أني لم أكشف بعد لغزا آخر ظل محفوظا بعناية في الصوان الذي يحوي أسرار عائلتي. لقد كانت ( كونسويلو غاي)، أخت أمي الصغرى التي لا زلنا نحافظ بخشوع على كمانها في صومعة شارع «باو ألكوفير»، شاعرة بدورها. لم أكن أعرف عنها الشيء الكثير ما عدا ولعها بالموسيقى، وقرانها الشقي، وترملها الباكر، ووفاتها بسبب سل الكلي في مصحة «بوين سلفادور دي سانت فيليو دي يو بريغات» سنة 1942. لم نرها قط أنا ولا إخوتي، إذ كانت منطوية على سرها الذي لا يقال: كآبة وجنون واعتلال. وبفضل مؤسسة لويس غويتيصولو، غدا بإمكاننا اليوم الاطلاع على أشعارها التي نُشرت رفقة مدخل توضيحي كتبه أخي، ومقدمة رائعة وضعتها (إلفيرا ويلبيس). لقد كتبتْ (كونسويلو غاي) نصوصها المعدودة أواخر عشرينات القرن الماضي وهي في ريعان الشباب، حيث وقعتها أحيانا باسم مستعار هو (مالابار). تتميز تلك النصوص بحداثة مستحثة، معاصرة لأوائل مؤلفات ما يسمى «جيل السابع والعشرين»، وتتركز فرادتها في قدرتها على التعبير بثلاث لغات هي الكطلانية، والقشتالية، والفرنسية. لم تكن خالتي قد أكملت سنواتها العشرين، بيد أن زادها الثقافي كان ثلاثي اللغة، بحيث أشبهت في ذلك العديد من كتاب أوروبا الاتحادية في الوقت الراهن. لكن الحرب الأهلية والاستبداد الفرانكوي لم يلبثا أن قضيا على عالم حوار بدون حدود كانت تلك المرأة تجسيدا له قبل الأوان. سفر الكلمات أعود الآن إلى مجرى خطابي. إن امتلاك ثقافتين ولغتين أفضل من الاكتفاء بواحدة. وإتقان ثلاث لغات أفضل من إتقان اثنتين، وأربع أفضل من ثلاث، وهكذا دواليك إلى غاية الثماني وعشرين لغة التي كان المكتشف وعالم الأعراق (ريتشارد بورتن)، الذي لا أنفك أعجب به، يستعملها، فيما يبدو، شفويا أو كتابة. هكذا تقود الدعوة إلى رضى الاكتفاء الذاتي، والانغلاق داخل صَدَفةٍ واقية -ما عدا في حالة الثقافات واللغات المهددة بالاندثار- إلى جوهرانية عاطفية ووطنية حيث تُعطى الحظوة ويُعلى من شأن السياق المحلي على حساب القيمة الفنية الكونية التي يستحقها كل مبدع أصيل -حسب تعبير (كونديرا) في كتابه «الستار». ذلك أن عافية ثقافة ما لا تقاس إلا بانفتاحها على الخارج، وحرصها على امتلاك وتمثل عناصرأجنبية تُغنيها. يتموضع هذا الحوار الذي لا حدود له على طرف نقيض من كل نزعة إقليمية، ومن كل وثوقية دينية أو قومية، ومن كل إطلاقية هوياتية. إن المجتمعات والأفكار والرؤى الخلقية والجمالية تتطور على إيقاع تطور الكائن الإنساني، ولا يغدو ذلك ممكنا إلا بواسطة التبادل، والتناضح والهجنة. فليست لغاتنا الحية أحافير ولا قِطعاَ متحفية تحميها مؤسسات وأكاديميات. وتبرهن اللسانيات الدياكرونية على تواصل اقتراض لغات من غيرها، وعلى استمرار تحول معاني المفردات، وعلى تناوب فترات الانكماش والتوسع والانتشار. لقد شكل سفر الكلمات، ومخرها عباب محيط اللغات المديد، موضوعا لفضولي وفتنتي على الدوام. هكذا فإن تعلمي الدارجة المغاربية لم يبين لي فقط أصول العديد الذي لا حصر له من المفردات القشتالية، والكطلانية، وإن في حدود أدنى، وإنما بيّن لي أيضا أمرا حميما ومحفزا: وهو ترجمتنا الحرفية لأصوات، وتعابير مناداة، وجُمل، وعبارات مأثورة -وبعض هذه يمكن العثور عليها في متن الأمثال الأندلسية الذي وضعه (ألونصو ديل كاستيو)- ووجود تطعيمات عربية في التركيب اللاتيني الجديد للغة الإسبانية. أضيف إلى ذلك أن التكييف اللهجي غدا يؤثر اليوم في الاتجاه المعاكس: فالعديد من الكلمات القشتالية تسربت إلى الدارجة المغربية، كما أن التنقل جيئة وذهابا بين العربية والكطلانية غدا يفعل فعله. لقد سمعت أكثر من مرة، أثناء زياراتي لمدينة وهران، كلمة capsa - وليس صندوق أو caisse أو caja - التي اعتبرها ثمرة الحضور الجماعي القديم لمهاجرين فالانسيين ومايورقيين من جالية ال«pied noir» المتلاشية، وهي الجالية التي أدخلت بدورها مفردات عربية إلى لهجة patué الأليكانطية الحالية لدى عودتها إلى أرض أسلافها. يتشكل الكائن الإنساني من هويات متباينة، لكنها متساوقة في ما بينها. لذا بإمكاني أن أكون برشلونيا وباريسيا ومراكشيا في نفس الوقت، مع ادعاء الجنسية السربانطيسية. أن أكتب باللغة القشتالية، مع إحساسي بأن بيتي كائن في برشلونة وليس في مدريد. أن أتجول في «الرمبلة» و«الريبيرا» و«الرافال» بنفس المباشرة العاطفية التي يوفرها لي المشهد الحضري والاجتماعي في طنجة وفي مدينة الأطلس وردية اللون التي أعيش فيها، أو توفرها ميولاتي كمشّاء فضولي ومنقب في الدائرة الثانية أو العاشرة أو الثامنة عشرة [من دوائر باريس]. أعيش أجواء المدينة العتيقة وأجواء «الرمبلة» وأنا أضيع في الممرات المسقوفة التي وصفها (بودلير) و( والتر بنجامان)، والتي يشغلها اليوم أتراك وهنود وباكستانيون. أصغي إلى تنوع لغات حيوي، وأستمتع بفضاء لا تتوقف حركته، وأعي وشوشات الزمن وتناقضات المجتمع. فالكتابة تعني القبول بوجود نزاعات في قرارة الفرد الكاتب. على المرء أن يكون ملتزما سياسيا في مجال المواطنة، وأنا أحاول أن أكون كذلك، بحيث أدافع عن مجمل القضايا التي تطابق العقل والأخلاق: كالنضال ضد الظلم والفاقة والتفرقة العنصرية والعرقية، وفي سبيل إحقاق المساواة بين الجنسين، والإجهاض المشروع، وقانون زيجات الأمر الواقع. أما في مضمار الأدب فلا يتسع الأمر لأي تصحيح أو إصلاح. ذلك أن الإبداع الشعري والروائي -شأنه في ذلك شأن الاستيهامات الجنسية لدى الفرد- لا يوجه بأي عصا خلقي أو اجتماعي، وإلا غدا مجرد إِرشادات وعلاجات مذهبية. فإذا كان البحث أو المقالة الصحفية يتطلبان معايير خلقية سياسية ووضوحا في الأفكار، فإن الرواية لا تستلزم ذلك البتة، لكونها نتاج إنسان متكامل، عقلي ولا عقلي، مؤلف من ذكاء وغرائز، والذي هو حصيلة هويات متعددة ونزاعات لا حل لها.