تركز عجلة الدعاية الإسرائيلية هذه الأيام على الصواريخ التي تطلقها فصائل المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة على المستوطنات والبلدات اليهودية في الجنوب، وتستخدمها كذريعة لممارسة مجازرها وحصارها الوحشي على القطاع. ويقول المسؤولون الإسرائيليون صراحة إن الحصار والعقوبات الجماعية والغارات الدموية ستستمر طالما استمر إطلاق الصواريخ. هذه الحملة المدروسة بعناية تذكر بحملة مماثلة، وبالأدوات نفسها ركزت على العمليات الاستشهادية، وتجريمها بكل الطرق والوسائل، واعتبارها الخطر الأكبر على أمن المواطن الإسرائيلي، وحشد العالم بأسره لوقفها. الصواريخ الفلسطينية ليست من نوع كروز ولا توماهوك، كما أنها ليست العباس أو الحسين، وإنما مجرد صواريخ بدائية أنتجتها الحاجة، والعقوق العربي الرسمي، للتغلب على الجدران الإلكترونية والإسمنتية التي أقامتها القوات الإسرائيلية على طول حدود القطاع لمنع أي عمليات تسلل من قبل فصائل المقاومة، تماما مثلما أنتجت الحاجة نفسها القنابل البشرية في فترة التسعينات. حملة الشيطنة الإسرائيلية ضد القنابل البشرية الفلسطينية نجحت في إيقافها. وتجنيد الحكومات العربية والغربية لتجريمها، لأنها بثت الرعب في صفوف الإسرائيليين، ومنعتهم من الذهاب إلى المراقص والملاهي والمطاعم، ونرى دلائل ومؤشرات على أن الحملة الثانية والمماثلة ضد الصواريخ هذه بدأت تجد آذانا صاغية في أوساط الأنظمة الرسمية العربية أو بعضها، وينعكس هذا بوضوح في مقالات كتابها التي تحمل هذه الصواريخ، وليس الممارسات النازية الإسرائيلية، مسؤولية الحصار ومجازر الموت في قطاع غزة. السيد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله، كان أول من تجاوب مع هذه الحملات الإسرائيلية عندما شدد في تصريحات أدلى بها أمس على عبثية إطلاق الصواريخ والمقاومة المسلحة بالتالي. السؤال الذي يطرح نفسه هو عن البدائل المتوفرة للفلسطينيين في حال رضوخهم للضغوط الإسرائيلية والعربية الرسمية ووقفهم لإطلاق الصواريخ هذه بشكل مطلق، تماما مثلما توقفوا عن العمليات الاستشهادية لأكثر من عامين! الرئيس عباس يتفاوض مع الإسرائيليين منذ خمسة عشر عاما، وبالتحديد منذ أن اخترع مفاوضات أوسلو السرية، فما هي النتائج التي حققها من خلال هذا المسلك التفاوضي منذ ذلك الحين، وهو الذي قال لنا إن اتفاق أوسلو سيقود إلى دولة فلسطينية في غضون خمس سنوات، وطالب بوقف الانتفاضة وكل أعمال المقاومة للالتزام بهذا الاتفاق وتسهيل تطبيقه؟ ولنوضح الصورة أكثر ونذكر الذين يحمّلون مطلقي الصواريخ مسؤولية حصار غزة ومجازرها، وليس إسرائيل، من العقلاء في الصفين الفلسطيني والعربي، بأن عشرة لقاءات، مفتوحة ومغلقة، بين الرئيس عباس ونظيره الإسرائيلي إيهود أولمرت لم تزل حاجزا من ستمائة حاجز في الضفة الغربية، والذهاب إلى مؤتمر أنابوليس وفق الشروط الإسرائيلية والأمريكية وبحضور عربي مكثف، لم يفكك مستوطنة واحدة غير قانونية، ولم يمنع البناء في «المستوطنات القانونية» . حركة حماس عرضت أكثر من مرة وقف إطلاق الصواريخ، وأجرت اتصالات مع فصائل المقاومة الأخرى في هذا الخصوص، للتوصل إلى هدنة ولكن إسرائيل رفضت كل العروض في هذا الإطار لأنها تريد سحق المقاومة كليا، وإعادة الشعب الفلسطيني إلى صيغته السابقة، أي كشعب متسول يعتاش على فتات مساعدات المجتمع الدولي. حصار قطاع غزة فضح إسرائيل وهمجيتها مثلما فضح النظام الرسمي العربي وتواطؤ زعمائه، ووحد الرأي العام العربي لأول مرة منذ غزو العراق، واظهر قوته، رغم انه لم يتحرك بالشكل المطلوب. فرفع الحصار جزئيا جاء ثمرة لهذه الصحوة لدى الشارع العربي ورد فعله، لأن الأنظمة العربية، وأصدقاء بوش، وراقصي رقصة السيف في معيته على وجه الخصوص، خافوا من هذه البربرية الإسرائيلية ونتائجها عليهم من حيث تفجير خزان الاحتقان المتضخم تحت أقدامهم. إسرائيل تضررت من الحصار، لأن العالم لم يكن يصدق أن هناك دولة، متحضرة أو همجية، يمكن أن تقطع الكهرباء والمواد الطبية عن شعب محاصر ومجوّع أصلا، وتتسبب في كارثة إنسانية وصحية وبيئية بالطريقة التي شاهدناها على شاشات التلفزة، والصورة لا تكذب. إيهود أولمرت ومجموعته الحاكمة لم يسيئوا للفلسطينيين فقط، وإنما لليهود ضحايا النازية عندما تصرفوا بهذه الطريقة الوحشية، لأن كل القوانين الدولية التي تحرم العقوبات الجماعية، وتعتبرها جرائم حرب، وأصبحت من تراث البشرية، هي نتاج تضحيات هؤلاء اليهود، ولمنع تكرار حدوثها لهم أو لأي شعب آخر. الإسرائيليون يطبقون في حق الفلسطينيين العزل ما طبقه النازي في حق أجدادهم العزل أيضا، عندما حولوا قطاع غزة من سجن كبير إلى فرن غاز كبير، ليس أمام أهله غير أحد خيارين، إما الموت برصاص وشظايا قنابل الدبابات الإسرائيلية، أو الموت جوعا وبردا ومرضا من جراء انفجار المجاري لانقطاع الكهرباء وتوقف معامل معالجتها. الحكومة المصرية التي تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن قطاع غزة، تصرفت بطريقة تفتقر إلى أبسط أنواع الذوق والإنسانية عندما وجهت اللوم إلى الفلسطينيين أيضا، وطالبتهم عبر المتحدث باسمها بعدم تصدير مشاكلهم إلى مصر ردا على اقتحام مظاهرة نسائية لمعبر رفح. أي مشاكل هذه التي يصدرها الفلسطينيون المحاصرون المجوعون إلى مصر الدولة العربية الإسلامية الجارة، التي قدم شعبها آلاف الشهداء دفاعا عن الكرامة العربية المهدورة في فلسطين؟ وهل المطالبة بفتح باب السجن لإجلاء الجرحى والمرضى هي تصدير مشاكل؟ الحكومة المصرية أغلقت سجن غزة على نزلائه وقذفت بالمفتاح في البحر، وأدارت ظهرها لمعاناة مليون ونصف المليون من البشر وكأن الأمر لا يعنيها. وهذا التصرف هو أسوأ أنواع اللامسؤولية واللامبالاة تجاه مشاعر الأشقاء أبناء العقيدة الواحدة، والانتماء الواحد. الرئيس عباس قال إنه عرض تسلم مسؤولية السيطرة على المعابر، لكن هناك طرفا ما يرفض، ملمحا إلى الطرف الإسرائيلي، وكأنه يخشى تسميته، لقد بلغ الخوف ببعض مسؤولينا درجة كبيرة بحيث لا يستطيعون توجيه أي لوم إلى إسرائيل. الحكومة الإسرائيلية أقدمت على عملية تنفيس محسوبة عندما سمحت بمرور بعض شاحنات الوقود لتجنب كارثة إنسانية مثلما صرح المسؤولون فيها. الكارثة الإنسانية مستمرة ولم تتوقف، فالحصار مازال مستمرا، والوقود بالكاد يكفي لسد ربع الاحتياجات من التيار الكهربائي. تحسين الأوضاع قليلا على صعيد إرسال شحنات الوقود لا يعني أن الوضع أصبح طبيعيا في قطاع غزة، ولا يجب أن يكون ثمن هذا التحسين الجزئي التخلي عن المقاومة، طالما أن ثمار البديل التفاوضي هي المزيد من الاستيطان والحواجز والإذلال للشعب الفلسطيني.