«اثنين أسود» في بورصة فرانكفورت، و«نوكيا» عملاق الهواتف النقالة تقرر نقل وحداتها الإنتاجية من ألمانيا إلى رومانيا، ورئيس إحدى كبريات شركات الطاقة في ألمانية يحذر من أكبر معضلة طاقة في ألمانيا بحلول سنة 2015، أنباء غير سارة بالنسبة إلى المستشارية في برلين، ومخاوف من تداعياتها على الحالة الاقتصادية بعد انتعاشها. هل هي حمى المضاربات في الأسواق المالية والصداع الانتخابي في ألمانيا، أم تداعيات عولمة الاقتصاد وعدوى ركود يخيم على الاقتصاد الأمريكي، وهل هي مؤشرات أزمات حقيقية أم مجرد هزات نفسية، تساؤلات يثيرها المحللون على إيقاع أحداث متسارعة، يبدو في ظلها السياسيون تحت رحمة جماعات المصالح. «الاثنين الأسود» سجل مؤشر»داكس» لأسهم كبريات الشركات الألمانية أكبر تراجعات له بداية الأسبوع الحالي، بدأ في الاثنين من ناقص سبعة ليصل الثلاثاء إلى ناقص 10 في المائة، فيما يؤشر إلى أكبر تراجع تشهده أسهم الشركات الكبرى في بورصة فرانكفورت التي لم تشهد تراجعا معتبرا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأبقى المحللون الاقتصاديون الألمان على تفاؤلهم بعدم حدوث انعكاسات سلبية أكبر على الاقتصاد الألماني الذي يعتبر أكبر اقتصاد أوروبي، وتجاوزه عاصفة ما أصبح يوصف ب»الاثنين الأسود» بسلام. لكن ظلت التحليلات حذرة، بسبب حجم المخاوف من الركود الاقتصادي للولايات المتحدةالأمريكية نتيجة الخطط الحمائية التي أعلنت عنها إدارة الرئيس جورج بوش لمواجهة أزمة الائتمان العقاري. وظهرت انعكاسات هذا التراجع في قطاع المصارف الألمانية وكذلك قطاع التأمينات، كما سجل اليورو تراجعا ليصل إلى مستوى 1,45 دولار. لكن المحللين لا يتوقعون تأثيرا كبيرا لاحتمال ركود الاقتصاد الأمريكي، على الاقتصاديات الأوروبية أو على الأقل لن تكون في نفس مستوى التراجعات التي رصدت في الاقتصاديات الآسيوية. فيما يعتقد محللون أن اقتصاديات أوروبا متنوعة، رغم وحدة المعايير داخل منطقة اليورو، فهنالك بلدان لها حجم معاملات ضخمة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وهي مرشحة للتأثر أكثر من بلدان أوروبية أخرى، مثل فرنسا التي لا يتجاوز حجم تجارتها مع الولاياتالمتحدة 8 في المائة. تصدع الطبقة السياسية أحدث موضوع استخدام الطاقة النووية مزيدا من الانقسام داخل الساحة السياسية الألمانية، المنقسمة أصلا بسبب قضية الجريمة والشباب المهاجرين، لكن الجديد هذه المرة هو ظهور الانقسام داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك الأساسي في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل، ويأتي ذلك عشية إجراء الانتخابات في ولايتي هيسن وساكسونيا السفلى. فولفغانغ كليمانت وزير الاقتصاد في حكومة المستشار السابق غيرهارد شروودر، وأحد أبرز وجوه الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وجه طعنة قوية لقيادة حزبه في وقت حساس جدا، بالنسبة إلى الحزب الذي يخوض حملة انتخابية شرسة في ولايتين، إذ دعا كليمانت الناخبين إلى عدم التصويت على مرشحة حزبه أندرايا يبسيلانتي التي دعت إلى إيقاف استخدام المفاعلات النووية نظرا لأضرارها البيئية، وحث كليمانت الناخبين في الولاية على التصويت على من يثقون به، وهو أمر تلقته قيادة الحزب بغضب شديد،لأنه بدا وكأنه دعوة صريحة إلى التصويت على خصم الحزب الرئيسي اليميني رولاند كوخ (الحزب المسيحي الديمقراطي)، ودعا بعضهم إلى اتخاذ إجراءات تأديبية بحقه وإبعاده من الحزب إذا لزم الأمر، كما قال رئيس الكتلة النيابية للحزب بيتر شتروك، الذي دعا كليمانت إلى الاستقالة. وجاءت خرجة كليمانت، في وقت أظهرت فيه استطلاعات الرأي في آخر اللحظات قبل إجراء الانتخابات الأحد المقبل، تساوي حظوظ مرشحي الحزبين الاتحاد المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي، وذلك للمرة الأولى منذ ولايتين كانت فيهما السيطرة لليميني كوخ. لكن كليمانت بدا وكأنه غير معني بالهجوم عليه، وقال للصحافيين إنه مقتنع برؤيته وإنه أخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والحزب. الأحزاب وجماعات اللوبي وأظهرت الاهتمامات من قبل قياديين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي لرفيقهم كليمانت الذي يعتبر إحدى أدوات لوبي الصناعات النووية، جانبا مهما من خلفيات الموضوع، إذ إن كليمانت عضو بمجلس إدارة شركة «ريفي» للطاقة أحد أكبر مصنعي الطاقة النووية في ألمانيا. وبرأي المحللين، فإن المعركة التي فجرها كليمانت داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ليست سوى تلك الشجرة التي تخفي غابة من الانقسامات التي باتت تخترق الطبقتين السياسية والاقتصادية في ألمانيا بل في أوروبا بأسرها، على خلفية موضوع مستقبل الطاقة النووية في ألمانيا. فألمانيا كما يقول هانس بيتر فيليس، رئيس مجموعة «انبي في» المتخصصة في الطاقة، مهدد في أفق سنة 2015 بمواجهة نقص حاد في الطاقة ولاسيما الكهرباء، بسبب بدء إيقاف العمل بعدد من المفاعلات النووية، وعدم قدرة مولدات الطاقات البديلة (الشمسية والرياح)على تغطية الحاجة المتزايدة للطاقة. ورغم أن وزير الاقتصاد ميشائل غلوز أقر بجدية هذه المعطيات، وأكد أن الحكومة الألمانية تأخذها بعين الاعتبار، فإن الوزراء الاشتراكيين الديمقراطيين يعارضون التراجع عن خطة الحكومة الألمانية، وضمنهم سيغمار غابرييل وزير البيئة، الذي حذر من أي تراجع عن خطة الاستغناء عن المفاعلات النووية، ولاحظ أن تزايد الاعتماد على الطاقة النووية يرفع من المخاطر التي تنتج عنها، مشيرا في هذا الصدد إلى مشكلات قائمة في فرنسا، وأدت إلى ضغوط على الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والذي ذهب في سبتمبر الماضي إلى مناشدة صناع القرار في ألمانيا للتراجع عن خطتهم. بيد أن المتتبعين لتطور الاستخدامات النووية في أوروبا وخارجها، يلاحظون أن فرنسا رفعت من حجم تعاونها الخارجي فقط منذ وصول الرئيس ساركوزي إلى الإليزيه، وخصوصا مع العالم العربي، بعشرات المليارات من الدولارات، كما أقدمت بريطانيا في الآونة الأخيرة على بناء مفاعلات جديدة. واعتمدت الحكومة الألمانية في الفترة الأخيرة خطة للاستغناء عن 17 مفاعلا نوويا يستخدم حاليا، وذلك في أفق سنة 2020. وعارض الألمان صفقات بيع مفاعلات نووية أبرمتها فرنسا مع دول عربية، وهاجموا بسببها الرئيس ساركوزي، ووجهوا إليه أعنف انتقادات توجه إلى رئيس فرنسي من برلين، منذ قيام المحور الفرنسي-الألماني في الاتحاد الأوروبي. بين الرحيل والمقاطعة يخوض مستخدمو فرع شركة «نوكيا» الفنلندية للهواتف النقالة، بمدينة بوخوم (غرب ألمانيا) سلسلة إضرابات احتجاجية على قرار الشركة بنقل مصالح إنتاجها من ولاية رينانيا فستفاليا الشمالية إلى رومانيا بهدف ترشيد نفقاتها، حيث تكلفها اليد العاملة في ألمانيا خسائر كبيرة، مما دفعها إلى إغلاق مركبها الإنتاجي ببوخوم والذي يعد الأكبر في المنطقة. لكن قرار «نوكيا» تجاوز سقف التوقعات، في ما يبدو، بعد أن اتسعت حملة الدعوة في ألمانيا وأوروبا بل حتى في فنلندا نفسها، إلى مقاطعة منتوجات الشركة التي تعد أكبر الشركات العالمية في تصنيع الهواتف النقالة وخصوصا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، بعد أن اندمجت مع وحدات الاتصالات التابعة لشركة سيمانس الألمانية، وكان لوحداتها في بوخوم دور أساسي في إشعاعها العالمي، ففضلا عن وجود سوق ألماني قوامه 82 مليون مستهلك، فقد كانت قاعدة نحو أوروبا الشرقية وبلدان أخرى. وأكد مسؤولو «نوكيا» أنهم لن يتراجعوا عن قرارهم وهم مصممون على تعويض مستخدميهم في ألمانيا، عن خدماتهم خلال السنوات العشر الماضية بما يناهز 60 مليون يورو. ويقول نقابيون إن الشركة ضحت ب2300 من مستخدميها المباشرين وعن آلاف من الوظائف غير المباشرة، وعرضت المنطقة التي سترحل عنها لمزيد من المتاعب الاقتصادية والاجتماعية، وهي أصلا لم تتعاف من المتاعب التي خلفتها عمليات إغلاق مناجم الفحم التي كانت عماد اقتصاد المنطقة. وتقول الحكومة المحلية في ولاية رينانيا فستفاليا الشمالية، إن الشركة نكثت بوعودها بتأمين مناصب شغل لآلاف العمال، بعد أن استفادت طيلة سنوات من امتيازات في المنطقة. وتدافع الشركة عن قرارها بقولها إنه طبيعي في ظل عولمة الخدمات والصناعة، وأنها ستكون في رومانيا البلد العضو الجديد في الاتحاد الأوروبي، قادرة على توظيف عدد أكبر من اليد العاملة في بلد يعد من أفقر بلدان الاتحاد الأوروبي. لكن نشطاء نقابيين وجمعيات «أتاك» المناهضة للعولمة يقولون إن الشركات العملاقة لا تضع في حسبانها سوى مصالحها التجارية الضيقة وربحها، ولا يوجد لديها اعتبار للفئات الاجتماعية التي تتوقف حياتها على مصادر دخلها، ويعتقد ميكو ساولي، رئيس «أتاك» في فنلندا، أن «قرارات الشركات العملاقة بتغيير مواقع إنتاجها وإغلاق بعضها وفتح أخرى، هي قرارات ذات أبعاد عالمية، ولذلك يتعين على مناهضي العولمة الرد عليه بقرارات عالمية، من خلال تحريك عمليات احتجاج واسعة النطاق عبر شبكات مناهضي العولمة في العالم ورفاقهم في المركزيات النقابية». لكن أوساط الأعمال في ألمانيا تبدي مخاوف من توظيفات «شعبوية» لهذا الموضوع لاعتبارات انتخابية محلية، وتجاهل حقيقة أن العولمة تفرض تقبل الأمر بمنطق واقعي يقوم على الربح والخسارة، ويعتقد خبراء المعهد الألماني لتقييم الماركات التجارية أن «خسائر شركة نوكيا في صورتها بسبب قرارها بنقل مركبها الإنتاجي من ألمانيا، قد يكون أكثر كلفة عليها من الأرباح التي قد تجنيها من موقعها الإنتاجي الجديد». وتوقع ميشائيل هارتونغ رئيس المعهد الألماني أن يتراجع رقم معاملات الشركة بنسبة 10 إلى 15 في المائة. ودخلت الحكومة الفيدرالية على خط الوساطة بين الشركة ومستخدميها من أجل إيجاد تسوية، كما دخلت اللجنة الأوروبية على الخط، وقال رئيسها مانويل باروز إن الاتحاد مستعد لمساعدة العمال المتضررين من قرار الشركة، ونفى أن يكون لسياسة الدعم المالي، التي يقدمها الاتحاد لدعم إعادة هيكلة كبريات المؤسسات الاقتصادية، أي علاقة بتشجيع الشركات على الانتقال بين فضاءات الاتحاد الأوروبي من مواقع «أكثر كلفة» إلى «الأقل كلفة»، فيما يبدو مؤشرا على تفاقم الخلافات داخل أجهزة الاتحاد الأوروبي حول هذا الملف، حيث دعا الألماني غونتر فيرهويغن إلى الاعتبار بحالة «نوكيا» لمراجعة سياسة الدعم المالي للشركات، وتوجيه تلك المبالغ إلى قطاعات التعليم والتكوين والبنيات التحتية. وتقدر قيمة مبيعات «نوكيا» العام الماضي بأزيد من 41 مليار يورو، أي ما يعادل 53 مليار دولار، ويفوق عدد الهواتف النقالة التي تبيعها الشركة سنويا 265 مليون جهاز. وتوظف «نوكيا» أكثر من 66 ألف مستخدم بفروعها في مختلف أنحاء العالم، وضمنهم 4500 في ألمانيا ويوجد في بوخوم أهم مركز للشركة بألمانيا.