احتلت العقود الضخمة التي وقعها ساركوزي أثناء جولته الخليجية، الصدارة في اهتمامات الرأي العام الفرنسي والدولي، وإن سيطر موضوع الأطفال المولودين خارج إطار الزواج في فرنسا، وقد أصبحوا أغلبية للمرة الأولى في المجتمع الفرنسي، بالإضافة إلى الشجار المتزايد بين أعضاء الحكومة، وقرار الوزير الأول إحالة تصريحاتهم واستجواباتهم على قصر الإليزيه أو على رئاسة الحكومة للنظر فيها قبل بثها، وكذا استياء شركاء «تي في 5 موند» من مشروع ساركوزي الإعلامي، والأحكام القضائية في مجال البيئة، وطلب سيسيليا منع نشر كتاب عنها. كعادته في كل زياراته الخارجية، التي شملت 19 دولة في مدة تقل عن ثمانية أشهر من توليه الرئاسة، وهو رقم قياسي في تاريخ الجمهورية الفرنسية، تفاخر الرئيس نيكولا ساركوزي بالعقود التجارية الضخمة التي وقعها في جولته الخليجية الأخيرة، وخاصة مع المملكة العربية السعودية التي برمج معها عقودا لفائدة الشركات الفرنسية بقيمة أربعين مليار يورو. «الأمور تسير بشكل جيد جدا» مع السعودية، حيث اتفقنا على «عقود ضخمة في المجالين المدني والعسكري. في رحلتي ككل، هناك أربعون مليار يورو من العقود التي يجب وضع الأسس لها». هكذا نطق ساركوزي الذي لا يريد، على حد قوله، أن تكون فرنسا فقط شريكا اقتصاديا استراتيجيا للسعودية، بل شريكا سياسيا أيضا»، لأن البلدين «يتقاسمان الأهداف نفسها لسياسة الحضارة»، ولأن للسعودية «أهمية في دور التوازن والاعتدال الذي تلعبه إقليميا وعالميا. فهنا في السعودية، يقول ساركوزي، تتحدد علاقة الإسلام مع الحداثة». وكانت ذروة الزيارة عندما تحدث في مجلس الشورى السعودي، الذي يضم 150 عضوا معينين، عن حوار الحضارات وحقوق الإنسان في المملكة، وإعجابه بالتغيرات التي حصلت في غضون سنوات قليلة في مجال الحريات العامة وحرية التعبير، وتقدم أوضاع المرأة، وهو يعلم أن السعودية نظمت انتخابات بلدية للمرة الأولى سنة 2005 دون إشراك المرأة في عمليات الاقتراع التي اقتصرت على الرجال. الخطاب لم يخل من تبجيل ومدح للسعودية التي أشاد بالإرث «المتحضر» للديانات الذي تزخر به، وقال إن فيها تتحدد علاقة الإسلام مع الحداثة. والمملكة جديرة بهذا القول بحكم وزنها الثقيل على الساحتين العربية والإسلامية، غير أن المفارقة تكمن في كونه يأتي من رجل رافض للحجاب في مدارس فرنسا وفي مؤسساتها، ناقم على شرعية تعدد الزوجات التي يقرها الإسلام، ساخر من طقوس أضحية العيد، مشهر عداءه لمنظمة حماس الإسلامية، ومجهر لصداقته الحميمية مع إسرائيل ولسياسة التقتيل والاستيطان والتهويد التي تمارسها. أليس في عقود الأربعين مليار يورو ما يبرر المديح، أم إن فيه من الصدق ما ينطبق على ما قاله في حق العقيد القذافي من أنه تصالح مع المجتمع الدولي ولم يعد هناك أي مبرر للتفريط فيه؟ غادر ساركوزي السعودية، بحلم الأربعين مليار يورو، وفي مخيلته هاجس زيارة سلفه جاك شيراك الذي غادر الرئاسة ولم يستكمل بلورة عقود مع المملكة بستة مليارات يورو. حل بقطر التي أبرم بها صفقات تجارية ضخمة هي الأخرى ومعها المفاعل النووي الذي أصبح عرضه مألوفا في كل دولة يزورها، قبل أن يحط الرحال لبضع ساعات بالإمارات العربية المتحدة التي وقع فيها اتفاقا للتعاون في مجال الطاقة النووية السلمية. وبحث مع المسؤولين الإماراتيين موضوعين أساسيين: بدء تنفيذ مشروع متحف اللوفر بأبوظبى، وإقامة قاعدة عسكرية فرنسية بنفس الإمارة. وكان البرلمان الفرنسي قد وافق في 9 أكتوبر الماضي على الاتفاق الذي تم بين فرنساوالإمارات لإنشاء متحف لوفر في أبوظبي وعرض بعض الأعمال الفنية التي تضمها المتاحف الفرنسية فيه على سبيل الإعارة، في إطار شراكة ثقافية بين البلدين. ومن المقرر أن تدير فرنسا مشروع متحف لوفر أبوظبي المقرر افتتاحه سنة 2012، وفى المقابل تدفع السلطات الإماراتية للمتاحف المشاركة بالأعمال الفنية التي ستعرض بالمتحف، ما قيمته مليار يورو على مدى عشرين عاما. والمشروع كان محل معارضة من جانب العديد من الفعاليات الثقافية الفرنسية، بسبب مخاوف من تحول المشروع إلى مسألة تجارية أو الانتقاص من المجموعات الفنية الفرنسية أو الخضوع لرقابة السلطات الإماراتية وبخصوص القاعدة العسكرية الفرنسية التي ستحتوي على رصيف ميناء لاستقبال السفن الفرنسية والمقرر استغلالها بدءا من عام 2009، فقد تم الاتفاق على أن تتقاسم الإمارات العربية المتحدةوفرنسا تكاليف هذا المشروع، إذ تتكلف الأولى بتمويل البنية التحتية أما الباقي فتتكلف بتمويله الحكومة الفرنسية. وسيكون بإمكان هذه القاعدة التي ستضم في البداية 400 شخص، استقبال ومساعدة الطائرات الفرنسية المكلفة ب»القيام بمناورات عسكرية». وقد خلف المشروع ضجة واسعة في الأوساط السياسية الفرنسية، حيث اعتبر رئيس الحزب الديمقراطي فرانسوا بايرو أن هناك: «تغيرا خطيرا في فلسفة وتوجه فرنسا في هذه المنطقة»، فيما يرى وزير الدفاع هيرفي موران أن القاعدة العسكرية تدخل في إطار «الشراكة الاستراتيجية» لدعم «استقرار» المنطقة. ويذهب البعض إلى أن القرار أكبر من مجرد كونه دبلوماسيا وسياسيا، حيث إنه «لمواجهة التأثير الإيراني المتنامي، تريد الإمارات والدول المعتدلة أن تبين أنها دول غير معزولة، وهذا يعني أن التواجد الفرنسي في منطقة استراتيجية هو من أجل الوقاية والردع في آن واحد. وفي معرض تعليقها على الجولة الخليجية للرئيس ساركوزي، تحدثت الصحف الفرنسية عن «جواد جامح في المنطقة سعيد برؤية صديقه الحكيم جدا»، وعن تجاوزه خطا كان عليه احترامه كرئيس دولة علمانية عند حديثه عن الدين. ودافع ساركوزي من جهته، عن نموذج العلمانية في فرنسا وعن تمسكه بعلمانية تمثل «احترام جميع أنواع الإيمان وليس معركة ضد الديانات»، ولاحظ أنه «إذا كانت الظروف التاريخية للانفصال بين الكنيسة والدولة مؤلمة لأنها تطلبت قطع الصلات المتعددة بالطوائف، فيجب ألا يشعر أحد اليوم أنه مهان بسبب العلمنة»، موضحا أن «الاعتراف بالشعور الديني كتعبير عن حرية الإيمان والاعتراف بالواقع الديني وكأنه واقع حضارة يشكلان جزءا من عقدنا الجمهوري ومن هويتنا». يستفاد من آخر البيانات الإحصائية أنه لأول مرة في عام 2006 أصبح عدد الأطفال المولودين خارج إطار الزواج في فرنسا، أكبر من الذين يولدون لآباء متزوجين، وهو ما يؤكد تراجع فرنسا عن أنماط حياتها التقليدية وعاداتها القديمة، علما بأن ما لا يقل عن 55 في المائة من الفرنسيات يعشن اليوم في منأى عن الرجل، إما مطلقات أو رافضات عبء الزواج وما يرافقه من متاعب حسب اعتقادهن. وعزا المكتب الفرنسي للإحصائيات هذه الظاهرة إلى اختفاء معظم الحوافز المالية الخاصة بالزواج، فيما أصبح إنجاب غير المتزوجين للأطفال أمرا مقبولا في مجتمع تخلى باسم الحرية والانفتاح عن مؤسسة الزواج كمنظومة أخلاقية واجتماعية لها دور حاسم في التوازن العائلي وتربية النشء، وأصبح ينظر إلى الزواج مجرد احتفال لجمع الأقارب والأصدقاء. وقد ارتفعت نسبة الأطفال المولودين خارج إطار الزواج إلى 50.5 في المائة من جميع حالات الولادة، وأصبحوا أغلبية للمرة الأولى في المجتمع الفرنسي. ووضعت فرنسا تشريعا للزواج المدني سنة 1999 كوسيلة لتوفير الوضع القانوني لغير المتزوجين يماثل وضع الزواج. ودخل أكثر من 350 ألف زوج في ما يسمى «اتفاق التضامن المدني» منذ ذلك الوقت. ومع أنه تعرض في البداية للهجوم من جانب اليمين والكنيسة الكاثوليكية، لأنه كان متاحا للمثليين الذين ضغطوا من أجله، فان الإحصاءات توضح أن الزواج المدني ارتفعت شعبيته بشكل كبير بين الأشخاص الطبيعيين. وتشير تقديرات فرنسا إلى أن التعداد الكلي للسكان ارتفع إلى أزيد من 63 مليون نسمة في فاتح يناير 2008، بزيادة 361 ألفا عن نفس الفترة في العام السابق. غير أن 71 ألفا منهم فقط جاءوا من الهجرة، مقابل 91 ألفا في العام الذي سبقه. وتتمتع فرنسا بواحد من أعلى معدلات المواليد في الاتحاد الأوروبي. الشجار بين أعضاء الحكومة والتصريحات الاستفزازية بين الوزراء وكتاب الدولة المنتدبين، يؤرقان الوزير الأول، فرانسوا فيون، الذي طلب من وزرائه إحالة تصريحاتهم واستجواباتهم على قصر الإليزيه أو على رئاسة الحكومة للنظر فيها قبل بثها، ويرهقان أيضا الرئيس ساركوزي الذي حذرهم في مجلس الوزراء الأخير بقوله: «لقد أعطيتكم كامل الحرية في التحدث وإبداء الرأي، وعليكم أن توظفوها بما يلزم من لباقة وروية». فبين وزيرة الصحة والشبيبة والرياضة روزلين باشلو وكاتب الدولة في الرياضة، رجل الأعمال، بيرنار لابورت المحسوب عليها، انقطعت شعرة معاوية في أول تصريح لهذا الأخير قال فيه: «أصبحت لي اليوم مهنة جديدة، وإذا لم ترقني فسأتخلى عنها»، فردت عليه الوزيرة الوصية على التو في تصريح للصحافة: «كتابة الدولة ليست مجرد أهواء شخصية أو متعة نستلذ بها متى طاب لنا، إنها مسؤولية نتحملها جميعا تجاه الفرنسيين». وتلسعه بعد أيام فقط بالقول: «وزيرة الرياضة هي أنا روزلين باشلو وهناك كاتب دولة اسمه لابورت يعمل ضمن الأعراف الحكومية المختزلة في وزير وكاتب دولة منتدب لدى الوزير». منذ ذلك الحين انقطع الحبل وتعاهد كل واحد منهما على القطيعة. أما جان لوي بورلو، وزير الدولة المكلف بالبيئة والتنمية وكوسيوسكو موريزي كاتبة الدولة لديه، فبينهما زواج مصالح كما يقول المقربون. له التجربة السياسية، ولها الكفاءة والخبرة التقنية، وكان بإمكانهما استثمار هذا التكامل بشكل مثمر، غير أن بورلو يحتاط منها بناء على توصية من الرئيس السابق شيراك الذي حذره من أنها امرأة مزعجة، بعد أن رفض إقحامها في حكومة دوفيلبان. وقد نهج بورلو حيالها سياسة التهميش باستحواذه على الملفات الهامة وإظهارها في الواجهة حينما يتعلق الأمر بالقضايا المستعصية. ووقع أن ألغى موعدا لتوقيع اتفاقية مع الوفد الليبي بحضور القذافي تاركا إياها في عزلة وحيرة من أمرها. كما كلفها بمهمة إقناع فريق التجمع من أجل حركة شعبية في البرلمان، الغاضب من إلغاء الوزير الأول لنظام التوارث الإيكولوجي. ويتنافس كل من كزافيي بيرتران، وزير الشغل والتضامن، وكريستين لاغارد، وزيرة الاقتصاد والمالية، على الأحقية في الملفات الاجتماعية. وكلاهما يرى أن له الأسبقية في مكافحة البطالة وإنجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وهكذا أزاح بيرتران في دجنبر الماضي زميلته لاغارد من مشروع القانون المتعلق بالقدرة الشرائية والذي كان لها الدور الرئيسي في إعداده. ولم يتردد يوم 19 دجنبر أمام البرلمان في تقديم الحصيلة الأولى لاستعمال الساعات الإضافية المعفية من الضرائب، بينما كانت زميلته قد برمجت ندوة صحفية في الموضوع لليوم الموالي. ولم يفلح الرئيس ساركوزي في الجمع بين نجمة الضواحي فضيلة اعمارة، كاتبة الدولة في شؤون المدينة، وكريستين بوتان وزيرة الإسكان والمدينة، حيث الحرب على أشدها بين السيدتين اللتين تحرص كل واحدة بطريقتها، على حماية موقعها وتمرير بعض الرسائل (أعنيك يا جارة)، كان آخرها مرتبط بمخطط إعادة تأهيل الضواحي، حيث حاولت بوتان يوم 14 يناير استصغار زميلتها اعمارة بالقول: «لا أومن بمخطط الضواحي بل بسياسة جديدة للمدينة»، مما جعل الوزير الأول يرغمها على مرافقة الوزيرة المهاجرة لتقديم مخططها الخاص بالضواحي. في المجال القضائي، أصدرت المحكمة الفرنسية حكما على شركة «طوطال»، بدفع تعويضات مالية قدرها 192 مليون يورو في إطار قضية «أريكا» ناقلة النفط المالطية التي غرقت في السواحل الفرنسية في 12 ديسمبر 1999. وتعرضت الناقلة إلى حادث أدى إلى انشطارها إلى قسمين قبالة سواحل منطقة البروتان الفرنسية. ونجحت يومها فرق الإغاثة، بصعوبة، في إنقاذ طاقم السفينة التي لفظت أكثر من 19 ألف طن من حمولتها في البحر. وتسببت الحادثة، إضافة إلى عواقبها الاقتصادية، في كارثة بيئية، حيث هلك أكثر من 150 ألف طائر بحري، نتيجة امتزاج النفط بالماء والرمال، ما دفع رئيس منطقة البريتان إلى القول أمام المحكمة في يونيو 2007: «لقد أصابتنا الكارثة في الصميم، ونعيش خوفا دائما من تكرارها». وفرضت المحكمة غرامات على بعض الشركات المسؤولة عن الكارثة، من بينها شركة طوطال الفرنسية، بصفتها الشركة التي استأجرت «أريكا»، بتهمة التسبب في التلوث نتيجة الإهمال، وكذلك غرامات على مالك الناقلة وعلى قبطانها وشركته التي غابت عن المحكمة. والملفت في هذه القضية ليس قيمة العقوبات القانونية، بل نجاح المحكمة في خلق تقليد قانوني جديد، بإصرارها على وجود «أضرار بيئية»، يتوجب تعويضها، وهو أمر غير مألوف في القوانين الفرنسية التي تكتفي عادة بإجبار المتسبب في الكارثة على تنظيف الشاطئ وإعادة تأهيله. ومن شأن قرار المحكمة أن يغير سلوك أصحاب ناقلات النفط بشكل كلي وألا تتكرر حوادث مشابهة لحادثة «أريكا» في المستقبل. من كارثة «أريكا» إلى مأساة سيسيليا، الزوجة السابقة للرئيس الفرنسي، التي رفض لها القضاء طلبا بمنع نشر كتاب عنها يحمل عنوان «سيسيليا»، ويتضمن مقاطع تتحدث بشكل سلبي عن نيكولا ساركوزي باعتبار «أن الكتاب لم ينتهك خصوصية سيسيليا وزوجها السابق». وفيما بات الكتاب متداولا في الأسواق، أعلن محامو سيسيليا أنها ستستأنف القرار وأن المحكمة ستنظر في الاستئناف خلال ثلاثة أشهر. ونقلت الصحافية أنا بيتون، صاحبة الكتاب، عن سيسيليا قولها إن الرئيس الفرنسي «رجل لا يحب أحدا، ولا حتى أولاده» وإنه «بخيل جدا وزوج غير وفي. كما أنه لا يصلح رئيسا للجمهورية ولديه مشكلة سلوكية حقيقية». وينقل الكتاب عن سيسيليا أيضا وصفها مساعدي ومستشاري ساركوزي بأنهم مجرد «أولاد صغار وجدوا أنفسهم في مواقع السلطة وسلموا أنفسهم إلى أمراء باريس». وليست المرة الأولى التي تحاول فيها سيسيليا (50 عاما) منع صدور كتاب عنها. ففي نونبر من 2005، طلبت من زوجها، الذي كان حينها وزيرا للداخلية، منع صدور كتاب عن حياتها بعنوان «ما بين القلب والعقل»، وهو عبارة عن سيرة ذاتية تتحدث فيها عن زواجها من ساركوزي وعلاقتها العاطفية برجل آخر. وقد صدر كتابان آخران يتناولان زوجة الرئيس السابقة، الأول بعنوان «قطع العلاقات» والثاني «سيسيليا، الوجه الآخر للسيدة الأولى»، من دون أن يتعرضا لأية محاولة لمنعهما أمام القضاء.